البُنى الهشّة للأحزاب والتنظيمات السياسية المدنية في اليمن تقابلها في الطرف الآخر بُنى شديدة التماسك للأحزاب التقليدية المحافظة. هشاشة الأحزاب المدنية «أو قُل رخاوتها» محصلة طبيعية لعملية التآكل المريب التي تعرّضت له بفعل حفريات الوقت في مساراتها، وأدّت مع مرور الأيام إلى ابتعادها عن ضرورات الواقع وظروفه المتبدّلة الذي تعاملت معه قيادات هذه الأحزاب باستعلاءات عجيبة، تاركة لأحلام التنظير ورغاوة المقايل شق رغبات اليقظة لديها في أودية متخيّلة يلفّها العدم والجفاف معاً. التباعدات بين القيادة والقواعد والإدامة والتعتيق للشخصيات الحزبية «الكبيرة» التي تعيق عملية المراجعات الدورية لرؤى الأحزاب وسياساتها نتيجة منطقية لذلك، لهذا كثيراً ما تجاهد مثل هذه القيادات للحيلولة دون عقد المؤتمرات أو الاجتماعات الحزبية ذات الطابع السجالي؛ إذ مضى على بعض الأحزاب أكثر من عقد من الزمن منذ عقدت آخر مؤتمراتها، وتعمل على تأجيل استحقاقات الانتخابات في داخلها بحجّة عدم ملاءمة الظروف لذلك..!!. بمقابل استعلاءات الأحزاب المدنية على الواقع وظروفه؛ تجيد الأحزاب التقليدية التعاطي معه والإنصات إليه، والتأثير فيه لأنها ببساطة ابنة جنونه وعصفه، وبمقابل سعيها الدؤوب لاستمراره وتعظيم خشونته خدمة لمصالحها ولمشاريعها التمددية الميعقة لعملية التغيير. لا تجد النُخب السياسية في الأحزاب المدنية من غضاضة في استمراره أيضاً خدمة لمصالحها التي تحوّلت بمرور الوقت إلى تشبيك مصالح فاضحة مع قوى النفوذ في السلطة التي تفنّنت على مدى عقود من تسويق هذه النُخب كلازمة ديكورية لتجميل وجهها خارجياً بوصفها تمثيلاً معقولاً لحالة الدمقرطة الناشئة. ولإخفاء مثل هذا الوجه الكالح؛ تعمل النُخب على إبراز تاريخ المظلومية بلسان شكوى طويل، بما يمارس من حيف وظلم بحق أحزابها فيما تكتب من إنشاء أو تقول من فذلكات وهي المتماهية مع فعل السلطة وشرورها وعبثها داخل أحزابها؛ لأنها في الأصل قد اختزلت الحالة العمياء للسلطة في مواقعها، حتى لا يُتاح لشروط التغيير من إكمال دورة نضوجها في التكوين الهرمي للأحزاب، متحجّجة بالظروف المحيطة للهروب من استحقاق طبيعي وجوهري مثل هذا. إدامة الفوضى أو «إدارة البلاد بالأزمة» التي تفنّن في استخدامها الرئيس السابق ويستخدمها البعض من «الخارجين من عباءته» هي من أجل التحايل على موضوع الذهاب إلى الاستحقاقات السياسية والاقتصادية تحت تأثير واضح من مراكز النفوذ، وقد أثبتت الأيام مدى إدمان الساسة في اليمن لها كوسيلة حياة، ومنهم قيادات الأحزاب «المدنية» التي تعتقد أن استمرار الحال يديم حضورها، وإلا فما معنى إصرارها على بقاء واستمرار تكتل أحزاب اللقاء المشترك كواجهة لأحزاب المعارضة..؟!. مع علم الجميع أن سوسة الوقت قد نخرته، وأن شروط بقائه قد استنفدت أولاً بعد أن تلاشت الحدود الفاصلة بين السلطة والمعارضة بالمعنى «التقني» للكلمة بعد أن دخل الجميع في حكومة التناصف والاقتسام السياسي، والثاني بعد أن خلقت المنعطفات السياسية وتعرجاتها منذ فبراير 2012م شروطاً مختلفة للتحالفات، والتي عبّرت عنها بوضوح بعض محطات مؤتمر الحوار الوطني؛ إذا كانت التقاطعات الحادة بين حزب التجمع اليمني للإصلاح وشركائه في اللقاء المشترك وعلى وجه الخصوص الحزب الاشتراكي اليمني سمة بارزة استدعت «استغراب» أمين الاشتراكي من تقاربات الإصلاح والمؤتمر من قضايا مصيرية «على نحو القضية الجنوبية وشكل الدولة الاتحادية». ومع كل ذلك لما يزل أمام الأحزاب المدنية ومنظمات المجتمع المدني فرصة تجاوز هشاشتها بالعمل على تشكيل كتلة سياسية «تاريخية» جديدة تعيد الاعتبار لتاريخها بتحولها إلى أشكال كفاحية «سلمية» في الواقع، وحوامل مؤثّرة للتغيير، من خلال عمل مراجعات حقيقية لبناها التنظيمية وبرامجها السياسية القادرة على الوصول إلى الشارع الذي أثبتت الأيام أنه يفتقد إلى قيادة تفجّر طاقاته الخلاقة، وهو بالضبط ما تفعله القوى التقليدية باستقطاباتها المتعاظمة للجماهير وقدرتها السريعة في الوصول إليها بوسائل غير استعلائية، ومنها قدرتها الفائقة في الوصول إلى المخزون الشاب في المجتمع من خلال توظيف وسائل التواصل وتقانة الفضاء، التي لا تندرج ضمن قائمة التحريم عندها مادامت حداثة وسائل لإيصال رسالتها لا حداثة أفكار ومعرفة تلغي وجودها. القيادات المتكلّسة التي تحوّلت إلى عوامل كابحة في أحزابها عليها إفساح الطريق أمام الاتجاهات الجديدة غير الممسوسة بأمراض وثارات الماضي لتسنُّم المواقع القيادية، فوحدها التي تستطيع إمداد الشرايين اليابسة بالحياة. منظمات المجتمع المدني المنشغلة بقضايا الثقافة والحقوق والحريات والمقتربة من الهم العام؛ عليها هي الأخرى التخلُّص من نزوع الشغل «الدكاكيني» والتسوّل على أبواب السفارات والمتاجرة بالقضايا، فقد أثبتت الأيام أن العشرات من المشتغلين في هذه المنظمات تحوّلوا إلى أثرياء حقيقيين و«سندبادات سفر» جرّاء نشاطهم المحموم في مساحات التمويلات طويلة وقصيرة الأجل..!!. النقابات والاتحادات الإبداعية والمهنية؛ هي الأخرى مطالبة بإعادة الاعتبار إلى تاريخها من خلال «فك الارتباط» بدوائر النظام الذي وُضِعت فيها منذ سنوات التبعية البشعة حين أدّت دور "الكومبارس" في سنوات الغطرسة الجوفاء التي ظنّ النظام ومحيطه سابقاً أنها لن تتسرب من قبضتيه الخشنتين. فنقابات العمال مثلاً باستطاعتها أن تكون رقماً وازناً في الحياة السياسية كما فعلت في الخمسينيات والستينيات بعدن حين قادت عملية النضال ضد الاحتلال البريطاني، ولها في وقتنا الحاضر باتحاد الشغل التونسي أسوة حسنة «ظلم المقارنة التي قد تتبدّى للكثيرين هنا بين الكيانين لا يمكن أن تمحى إلا من مساحة استجلاب التحفيز». اتحاد الأدباء ونقابة الفنانين والصحافيين والمحامين و....و... يمكن لها جميعاً تعظيم حضورها في الحياة العامة كما كانت تستطيع فعله في السنوات السابقة، وقطعاً ليس بذات الأدوات القديمة التي استنفدت أغراضها؛ ولكن بوسائط تنويرية وتثويرية للطاقات المحبوسة في صدور أعضائها والمنتسبين إليها من المحيط القادرة على التأثير فيه. قد يبدو الطرح ممسوساً بالشطح؛ لكنني أعتقد أن فقدان الأمل في كل شيء قد يكون الخطوة الأولى للارتكاس القاتل..!!. [email protected]