سأفترض أنني نشأت ضمن حزام جغرافي مُسيّج بإرث تاريخي عنيف, وأن والدي ذهب ضحية الثأر, وأنني الآن أسترجع بعض التفاصيل التي روتها والدتي لي عن أبي: «كان أبوك أحد رجال القبيلة الأشد رغم فقره وضيق يده, وكان ينتظر مقدمك بفارغ الشوق لكي تملأ مكانه في ساحة الحرب, وكان يتفرّس فيك جنيناً، ثم يشرح لي بانتشاء عن "مبخوت" الفارس القادم إلى القبيلة على صهوة اللهب، لقد استشهد أبوك يا ولدي دون أن تكتحل عيناه بمحيّاك, قال لي بعد أن جلبوه إلى الدار مضرّجاً بدمه وكان يلفظ أنفاسه: "اخبري مبخوت من يكون قاتلي, وحذار أن تنسي؛ ارضعيه إلى جانب اللبن سيرة أبيه وفروسيته" بدت وصية أبيك متطابقة تماماً مع وصية جدّك له وذلك حين شفطت دمه رصاصة غرزها أحدهم في نحره بينما كان يرقب أعداء القبيلة في إحدى التلال المجاورة؛ حدّثني أبوك بذلك بينما كنت أفتح الصندوق لأخرج له البندقية، لقد أورثك الصندوق ذاته بداخله حفنة رصاص وبندقية جديدة عاد بها ذات زمن من إحدى المعارك وقرّر أن تكون لك». احتملوا هذه الفرضية قليلاً, أنا على وشك الكتابة عن "مبخوت" الذي نشأ لديه بعد ذلك تصوّر استثنائي للحياة, لم يغادر مبخوت جغرافيا الموت والعنف ذاتها, هو ظل في مربع القبيلة مهجوساً بالرصاص والمتاريس؛ غير أنه في حالة استثنائية تتكرّر كل عقد تقريباً وفقاً لبعض شيوخ القبيلة؛ أحب الحياة بطريقة أخرى, وهاجت في مسامات روحه أشواق غير مفهومة, أمه أيضاً لاحظت ذلك؛ غير أنها بدافع استنكاري حاولت ردعه عن قرار اتخذه بضرورة بيع البندقية واستثمار ثمنها في شراء عربية لبيع الخُضار. أطلقوا العنان لتفاؤلكم وضعوا نصب فرضيتكم المدهشة ما يلي: «غادر مبخوت حزام النار في اتجاه العاصمة صنعاء, سفح الكل شماتته في وجهه قبل أن يمضي، وضع كل شيء وراءه ثم مضى، في صنعاء اشترى مبخوت عربية وذهب يبيع الخضار في أحد الأسواق, لم تكن صنعاء عرضة لحُمّى القبيلة, ولا وكراً لمتاريس ضفادعها, كانت مدينة باذخة الأنس واللطف, وشوارعها فضاءات مفتوحة لضجيج الأحياء, لم يتبق لمبخوت الكثير من المال غير أن ما بقي في حوزته؛ بدا كافياً لكي يشتري به مقدمة ابن خلدون, ومجموعة كتب أخرى عن الحرية والتعايش وفوائد الخضار. "مبخوت"شاب قبيلي نظيف نشأ في قبيلة الخيال, ومن المحتمل أن يموت فيها قبل أن يدرك حقيقته, أقسى ما يمكن تصوّره أن يأتي ابن القبيلة إلى صنعاء للمتاجرة والدراسة ويعيش في سفوح بروجها ومساحات حدائقها؛ ثم حين تتوفر لديه مساحة للإجازة يعود إلى القبيلة لاستبدال الزي الحضاري بزيّه البدائي الرث, ثم يحمل بندقيته على كتفه ويلتحق بمجلس الشيخ ضمن حشد من القطيع لتدارس خطط المواجهة القادمة, والمساهمة في ترشيح رأس من الطرف الآخر"الخصم" كثمن لرأس آخر قتيل من القبيلة..!!. رغم ذلك ثمة مساحة لوضع احتمال جميل عن مستقبل القبيلة الذي سيعبّر عنه مبخوت وأمثاله, وأن أرتال الكتب ستملأ فراغ الرفوف المثقلة بالبنادق في دور رجال القبيلة. دون المزيد من الإمعان في هذا البؤس المتراكم؛ ضعوا في صندوق تفاؤلكم أن مبخوت سينتصر في معركته لتحرير القبيلة من ثقافة توارث الموت والقتل في حزام النار؛ يجب أن يكون المستقبل لمبخوت وأشباه مبخوت. [email protected]