تعز تلك المدينة الباذخة بالحب والإخاء، تتسلّل إلى حواريها وأزقتها قلوب تضيئها بالرحمة والتكافل، قلوب تشعر بالآخر بالرغم من الظروف العصيبة التي تمر بها اليمن عامة وانعكاساتها على المواطن. أن يكون الإنسان وحيداً مشرداً تائهاً في شوارع المدينة يتوسّد الرصيف ويلتحف الشمس والمطر فاقداً للعقل والأهلية، كسوته قطعة قماش قد لا تستر جسده المتدثّر بالوجع وركام الأتربة التي تحجّرت على جسده، وبأمعاء خاوية، يخاف كل من يقترب منه - أن يكون الإنسان بهذه المواصفات، فهذا محور الوجع في مجتمع مسلم يُفترض أن يحفّه التراحم - وفجأة يأتي من يقدّم له رغيف الخبز كل يوم، ويشعر باحتياجه لأبسط المقوّمات، يشعر أن أمعاءه التي يرتفع صوتها بالصراخ كل يوم معلنة الجوع قد أتى من يُصْمت صراخها، وهو لا يملك شيئاً سوى فكرة ومبادرة يبحث بها عن لقمة من ذوي الخير ليسد بها رمق الآخر الجائع الذي لا يستطيع الكلام أو الطلب. ما أجمل أبناء تعز، وهم يخرجون عن تلك المنظمات التقليدية التي تتسوّل الدعم الأجنبي لإقامة مشاريع أو برامج لا تسمن ولا تغني من جوع..!! ما أجمل أبناء تعز وهم يسدّون الثغرات التي تنخر أوساط المجتمع الفقير. ما أجمل أن أرى من يستغل شبكة التواصل الاجتماعي ليعرض من خلالها منجزات كبيرة لأفكار بدت بسيطة لكنها تبني جسوراً للتواصل بين البسطاء من المحتاجين ومن أعزّ الله نفوسهم بالمال فقدّموا شيئاً منه لغيرهم تكافلاً وحبّاً وشكراً لله. من حسنات هذه الشبكة التي أتابعها هي أنني تابعت منذ شهر شعبان 1435ه نشاط مجموعة شباب انطلقت مبادرتهم من منظمة اسمها «منظمة آفاق الإنسانية لرعاية مرضى النفس والعقل» يبحثون عن مرضى النفس والعقل في الشوارع والأزقّة ليقدّموا لهم رغيف الخبز ليسدّوا رمقهم، ليس من جيوبهم فهم بسطاء مثلنا، ولكنهم وجدوا فكرة جميلة؛ إذ يتواصلون مع المطاعم والفنادق والمخابز وأصحاب الأعراس ليجودوا بما تبقّى لديهم من طعام لمن يحتاجه، ومنهم لا يجود بما تبقّى بل يصنعه مخصوصاً ويجود به على المرضى ك«مخبز بيروت». أن تأكل وترمي بما تبقّى في القمامة فهو امتهان للنعمة، ربما جاءت فكرة المشروع أو المبادرة من هنا «عِزْ النّعمة» واعطها لغيرك الذي يحتاجها ليسد بها رمقه ويصمت بها صراخ أمعائه في مجتمع فقير. الفقراء يزدادون يوماً بعد يوم، ومنهم من يفقد عقولهم لعدم قدرتهم على تحمُّل أعباء الحياة، فأصبحت الشوارع مليئة بالمرضى النفسيين؛ نشفق عليهم وهم يلتحفون العراء وينتعلون الإسفلت في حرارة الظهيرة، وها هو الشتاء على الأبواب، فلماذا لا يعز أولئك الصامتون النعمة ويعطونها لمن يستحقها..؟! ربما لا يعلمون أن هناك من يبحث عن القليل الفائض لديهم ليسدّوا به رمق إخواننا جميعاً الذين كان نصيبهم الفقر والمرض؛ وكان نصيب الأولين الصحّة والغنى، ماذا لو شعر الناس أن دورهم قد يكون قادماً..؟!. هذه المبادرة تستهدف مرضى النفس والعقل في الشوارع، والأسر الفقيرة التي يستطيعون التواصل معها، وإن زاد معهم ما جمعوا يوصلونه إلى مشفى الأمراض النفسية، ووسيلة تواصلهم «دراجة مغلقة» أهداها إلى المشروع أو المبادرة فاعل خير. «تعز» هذه المدينة المليئة بالمحبّة والسلام حُبلى بالخير، زاخرة بالشباب الذين يحاولون أن يمدّوا جسور التواصل بين الأخ وأخيه، بين الفقير والغني، بين الجائع والمتخم بالشبع، تعز المدنية تستفيق يوماً بعد يوم على مواويل الحب والمودة والإخاء، تستنهض همم أبنائها للتآخي، فلتكن أيدينا ملتحمة بالقوة والتآخي نابذة للصراع والعنف. [email protected]