المتأمل للبضائع الاستهلاكية اليوم يكتشف أن بينها وبين بضائع الأمس فرقاً كبيراً جداً من حيث الخامة والمتانة وحتى السعر واللون والملمس والطعم أيضاً. أذكر أن والدي حفظه الله كان يتفنن في إطعامي بأنواع مختلفة من المواد الغذائية والفواكه التي كان من النادر أن تزور بيوت القرية فتجد من بين أطفالها من يستمتع بمثلها. حليب (كارنيشن) كان ضمن قائمة الأطعمة اليومية التي أتناولها باستمتاع بالإضافة إلى الموز والعسل. فقد كان والدي حينها معلماً وكنت طفلته الأولى، ويبدو أنه كان يجتهد في ابتكار أطعمة جديدة حينها عن تلك السائدة في معظم بيوت القرية. كان لأطعمة السبعينات مذاق آخر لا يشبه طعم المواد الغذائية المستهلكة في يومنا هذا. كما كان للملابس أسماء وماركات وألوان تختلف عن التي نراها اليوم. ولعل الطابع الإنجليزي المصاحب للاستعمار آنذاك كان سائداً جداً إلى أن بدأ يتلاشى في منتصف الثمانينات. فلا زلت أذكر أن أثواباً جميلة تحمل أسماء غريبة كنا نرتديها في أرياف عدن وكانت تصل إلى درجة عالية من الرقي والتميز اليوم تفتقد أسواقنا إلى ذلك الجمال والتألق والتميز في الأطعمة والملابس والعطورات وأدوات الزينة كل شيء أصبح يشبه الآخر، الألوان والموديلات ومذاق الأطعمة تحدثت هكذا أمام إحدى الشابات فقالت : لم يتغير شيء فقط يبدو أنك عشتِ أكثر من اللازم وبدأت تملين الحياة من حولك!.. فقلت في نفسي : لا أعتقد أن أربعين عاماً هي عمر طويل، لكن يبدو أنها تشبه بضائع هذه الأيام (أقصد الفتاة) مجرد منظر خارجي فقط لكن محتواها فارغ من قيم الجمال المترف الذي نعرفه نحن، جيل السبعينات يعتبر آخر جيل عريق قبل أن يبدأ عصر السرعة والتكنولوجيا والحب والزواج عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أسواق اليوم عبارة عن لوحات فنية كاسدة مثل لوحات تشكيلية كثيرة يرسمها أصحابها وهم لا يشعرون بها ولا يستطيعون وصف معالمها واكتشاف رموزها المختصرة في لون أو نقطة أو منحنى. أسواق تتشابه في كل شيء لدرجة أنها جعلت أذواق الناس متشابهة بالقوة. وأعتقد أن هذا الجيل يفتقد نوعاً ما لذلك الذوق والإحساس الراقي باللون والخامة والمذاق والنكهة.. وأعتقد أيضاً أن المواد الخام الصناعية والزراعية بدأت بالنفاد من كوكب يتزايد عدد سكانه يوماً بعد يوم. ولهذا كان للمواد المصنعة نصيب للدخول والتوغل في كل شيء نرتديه أو نأكله أو نستمتع برائحته. والدليل على ذلك فكرة التدوير التي بدأت منذ عقود والتي تعيد تصنيع مخلفات الطبيعة لعرضها مجدداً في الأسواق وبشكل بضائع مختلفة.. هل شاخت مشاعري فعلاً، أم أنها حقائق يجب أن يستوعبها الجميع حتى نحاول ترشيد استهلاكنا لكل شيء من حولنا؟! في الحقيقة قد يكون لشيخوخة الحواس أثر في الوصول إلى قناعات كهذه لكن من المهم الاعتراف أيضاً بالمستوى الصناعي الذي وصلت إليه الدول العظمى اليوم، فكل شيء يمكن استهلاكه بأكثر من طريقة مهما بدت فوائده محدودة وما كان بالأمس غذاءً فقط على سبيل المثال يمكن أن يكون اليوم دواءً ومصدراً للطاقة وسبباً لاستقطاب رؤية استثمارية.. تتبدل البضائع وتتعدد السلع وتتنوع وسائل العرض ولهذا لابد من أن تتبدل الأذواق لكن الى الافضل وليس الى الأسوأ كما يحدث اليوم. رابط المقال على فيس بوك رابط المقال على تويتر