حينما يوصف الإعلام بأنه سيف ذو حدين يمكن أن يُسخر للخير وللشر، بحسب توجه مستخدمه.. فإن هذا الوصف قليل عليه.. لأن الإعلام - وخاصة هذه الأيام بعد أن غزا كل بيت - هو أمضى من أسلحة الدمار الشامل من حيث الفعل والتأثير، وصارت الأنظمة والحكام يعتمدون عليه لتحقيق أهدافهم بأقل تكلفه ممكنة. ولن نذهب بعيداً لضرب الأمثلة حول التأثير الفعّال لسلاح الإعلام سلباً أم إيجاباً وقلب المفاهيم، لا سيما عند عامة الناس.. ولذلك سنتوقف قليلاً أمام ما يجري في العالم العربي واليمن جزء منه من استغلال لحرية الكلمة وتسخيرها لتحقيق أهداف ضيقة لا تساعد أبداً على الإستفادة منها في خدمة القضايا الوطنية، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية.. وحتى لا نطيل بهذه المقدمة فسوف نركز على الكيفية التي يتم بها استخدام الإعلام كفعل ورد فعل، وكأن الجميع من سلطة ومعارضة ينفخون في قربة مثقوبة، سرعان ما يتلاشى ما بداخلها فتبقى في النهاية فارغة من المحتوى والمضمون. لكن عندما يُستخدم الإعلام بتركيز شديد ويهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة قضايا أمة ومصلحة شعب فإنه يثمر بلا شك مردوداً جيداً عند الناس ويبقى تأثيره الإيجابي عالقاً في أذهانهم. أما عندما يكون الاستخدام لوسائل الإعلام المختلفة سيئاً وبالإسلوب الذي نشاهده اليوم على الساحة اليمنية والعربية، دون التزام بالضوابط والقيم والمعايير الأخلاقية فإن هذا الخطاب الإعلامي يتحول إلى عكس ما يهدف إليه تماماً وينتج عنه زرع ثقافة الحقد والكراهية والانتقام، الأمر الذي يفقده مصداقيته وثقة متابعيه، ولأن حبل الكذب قصير كمايُقال فإنه سرعان ما ينقطع خيطه لتظهر الأشياء على حقيقتها الثابتة والتي لا يستطيع أحد أن يغيرها مهما احتال عليها بأساليب المكر والخديعة وسياسة الالتفاف لصرف الأنظار بعيداً عما يجري على أرض الواقع. إن الإعلام الرسمي الموجّه يحاول أن يصوّر للمواطن العربي بأن كل شيء على ما يرام وأن الدنيا بخير، متجنباً الاعتراف بالأخطأ أو مصارحة الناس بالحقائق، لأن القائمين عليه يعتقدون أن ذلك انتقاصاً في حق الحاكم.. وفي المقابل يُحاول الإعلام المعارض أن يشيع في أوساط المجتمع بأن كل شيء يتجه نحو الهاوية، وأن البلاد تعيش في حالة حرب لا أمن فيها ولا استقرار فيما الإعلام المستقل منقسم على نفسه حيث جزء منه يجاري الإعلام الرسمي، فيما يذهب إليه من تصوير للحياة بلون وردي والثمن معروف طبعاً مخصصات شهرية ودعم وهدايا وغير ذلك من المغريات التي تجعل الضعيف أمام المال ينسى نفسه. أما الجزء الآخر من هذا الإعلام المستقل فلا يفرق كثيراً في طريقة تناوله للقضايا بنفس الأسلوب الذي يلجأ إليه الإعلام المعارض، حيث يكاد الخطاب يكون واحداً ومتناغماً يسير في نفس الاتجاه. إذاً فإنه لا يوجد في عالمنا العربي اليوم إعلام وسطي يتمتع بالمصداقية ويحاول من خلال تناوله للقضايا كسب ثقة الرأي العام وإقناع الناس بأنه يقوم فعلاً بالبحث عن الحقائق دون تحريف وعكسها للمشاهد والقارئ كما هي من خلال تخاطبه معهم بأمانة، بعيداً عن حالة الفعل وردة الفعل التي يلجأ إليها الإعلام الرسمي والمعارض على حد سواء، وما بينهما من إعلام يُقال عنه مستقل اسما لا فعلاً.. ومن هنا يتضح أننا في العالم العربي - وخاصة في الشعوب التي تدعي أنظمتها إنها تؤمن بالحرية والديمقراطية - ما زلنا غير مؤهلين وغير مستعدين للاعتراف بالأخطاء وتقبل الرأي الآخر ووجهة النظر المعبّرة فعلاً عن الواقع، وليس تلك التي تدافع فقط عن أخطاء الحكام وما يأتي به الخطاب الإعلامي التابع لهذه الجهة أو تلك سواء كان على صح أم على خطأ. إن التعامل مع القضايا والأحداث بأسلوب حضاري راقٍ وتناول ما يجري بشكل واقعي يقنع المشاهد أو القارئ، بحقيقة مايجري سيظل التعامل الأمثل وفي نفس الوقت هو الذي سيخلق تفاعل الشعوب مع الخطاب الإعلامي ويكسبه احترام وثقة المتابع له أياً كان توجهه رسمياً أو معارضاً أو مستقلاً. لكن أن تستغل حرية الكلمة للتضليل والتشهير وانتهاك الأعراض ونشر ثقافة الكراهية والبغضاء بين المواطنين، فهذا لا يزيد تلك الشعوب إلا ضعفاً ويزيد أنظمتها وهناً على وهن ولا تحظى باحترام الآخر، لأن الذي لا يحترم نفسه ويصون عرضه لا يهتم به أحد.. وإنما يظل محل احتقار وتعالٍ من قبل الآخرين، حيث ينظرون إليه نظرة دونية.. ونعتقد أن الأنظمة العربية بسبب سياستها التي تفرّق ولا توحّد قد أوصلت شعوبها إلى هذه المرحلة من الهوان وتتحمل كامل المسؤولية فيما يجري للأمة اليوم من انفجار على أنظمتها قد يحرق الأخضر واليابس بعد أن سئمت من تغييبها عشرات السنين عن حقيقة ما يجري في أوطانها وخير شاهد ماجرى ويجري حالياً في عدد من الدول العربية ومنها اليمن ولا يعلم إلا الله ماذا يخبئ المستقبل لبقية الأنظمة العربية اذا ما استمرت في عنادها وعنجهيتها، لأنها لم تستطع أن تحافظ على ذاتها،بحيث تكون لها مكانتها المؤثرة في هذا العالم المترامي الأطراف. إن التناول الإعلامي للقضايا والأحداث قد خرج عن نطاق السيطرة لأخلاقية المهنة ووصل البعض بأساليبهم الهمجية إلى الدرك الأسفل من الإسفاف، غير عابئين بما يترتب عن هذا التصرف المشين من اساءات تلحق جروحاً كبيرة بمشاعر الآخرين، وتحدث حالة من التنافر والتناحر بين الناس، وكم من العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية قُطعت بسبب التناول الإعلامي الخاطئ الذي يعكر صفو التواصل والتعاون ليس بين المجتمعات العربية فحسب وإنما بين أبناء المجتمع الواحد، وذلك لما للإعلام من دور مهم يستطيع أن يلعبه على المستويين السلبي أو الإيجابي بحسب نية التوجه.. ربما قد يعود ذلك إلى جرعة الحرية والديمقراطية التي حصلت عليها بعض الشعوب العربية مواكبة لما يشهده العالم من متغيرات، ومنها اليمن واتضح أنها فوق مستوى استيعابها من قبل شعوب كانت إلى عهد قريب مكمّمة الأفواه، فوجدت في ذلك فرصة سانحة لتتنفس من خلالها، ولكن بطريقة لم تحسن توظيفها للتعبير عما تريد.. وبدلاً من أن تستغلها لخدمة قضاياها اُستغلت لإنتاج ثقافة الحقد والإنتقام وتصفية الحسابات، وهذا يدل على ضعف الوعي في العالم العربي، والتعامل مع الأمور بعشوائية وعدم تبصر، وهو ما يقلل من قيمة المواطنين العرب وفي المقدمة المثقفون في أعين الآخرين.