- مياسة النخلاني كنت أسير في ذلك الشارع المؤدي للمنزل عائداً من العمل كما هو الحال كل يوم ، لا جديد فها أنا أسير على نفس الروتين منذ سنة تقريباً أذهب للعمل قبل شروق الشمس وأعود بعد الغروب ، تعودت أن أمشي في هذا الشارع المظلم الذي تنقصه الانارة بشكل وأضح ولا يكاد يمشي فيه أحد خاصة في مثل هذا الوقت ، ولكن لم يعد يهمني هذا الأمر فقد تعودت على ظلمته وسكونه بل أصبحا هماً رفيقاي منذ خروجي من عملي حتى وصولي للمنزل ، بل حتى بعد وصولي لذلك الذي اسميه منزلاً ، فعندما اصل يكون الجميع قد ناموا حتى والدتي التي تعد لي طعام العشاء ثم تذهب إلى الفراش ، حتى عندما أخرج الصباح الباكر يكونوا نياماً وكأنه لاعمل لهم إلا النوم ولماذا لايناموا وهم يعلمون أن هناك من نسي معنى النوم ليصرف عليهم بعد وفاة والدنا الذي ذهب وتركني كي اتحمل هذه المسئولية التي اثقلت كاهلي فمن ثقلها ماعدت أحس بها أو بأي شيء آخر على الإطلاق أصبحت كالآلة التي تعمل فقط لتعمل. حتى أيام الإجازات حين يكون الجميع متواجدين في جو أسري جميل أكون أنا نائماً لا أدري هل هو هروب من واقعي الذي أنا غير راض عنه أم أني أحاول أن أعوض مافاتني من نوم ، والويل ثم الويل لمن يصدر ضجيجاً أو ازعاجاً من اخوتي ، فأحكم على الجميع أن يقضوا اجازاتهم في هدوءٍ مميت تماماً كالهدوء الذي يسود هذا الشارع الذي امشي فيه ، وصدقوني لا أدري لماذا اتصرف هكذا اتراني اعاقبهم واذيقهم بعض الألم والحزن الذي أعيشه كل يوم أم تراني تعودت على الهدوء الذي اعيشه كلما مررت بهذا الشارع فلا أريد أن أفارقه ولو ليومٍ واحد. أم أني أمعن في عقاب نفسي فأحرمها من هذا الجو العائلي الذي حرمت منه منذ وفاة والدي وتحملي مسئولية إخوتي ووالدتي ، كثيراً ما أفكر في هذه التصرفات كلما سمعت والدتي تحاول جهدها كي تسكت أولئك الصغار كلما أرادوا أن يلعبوا أو يمرحوا قليلاً في أيام إجازاتهم ثم أسمع تذمراتهم بأن المنزل صار كالسجن بعد وفاة والدي ففي حياته كانوا يلعبون كما يريدون بل كان يمضي أيام الاجازات معهم يلعب ويمرح. احياناً احس بتأنيب الضمير لأني أحول ايام الإجازات إلى جحيم وعذاب ليس فقط لأولئك الصغار بل حتى والدتي ، التي تعيش هذه الأيام في نكد لا يطاق وهي تسكت هذا وتصيح فوق ذاك وأحياناً يفيض بها الكيل وتركن إلى البكاء وبالمناسبة بكاء والدتي هو الوسيلة الوحيدة لتهدئة إخوتي ، فما أن يسمعوها تبكي حتى يلتف الجميع حولها ويشاركوها البكاء. افقت من افكاري هذه على صوت بكاء ولكن هذه المرة لم يكن بكاء أمي وإنما كان بكاء طفل صغير كان يسير مع والده في ذلك الشارع ، وقع على الأرض فحمله والده واخذ يهدئه بكلمات لطيفة اعادتني إلى الوراء فقد كان أبي رحمه الله لطيف معي كعطف هذا الرجل على ابنه اعطاني من الحنان ما لم يعطه لأحد من إخوتي رغم أنه كان يعمل تماماً كما أعمل وربما أكثر فلماذا احرم إخوتي مما أغدق عليّ به والدي ، تحول بكاء الطفل الصغير إلى ضحكات عالية اثلجت صدر والده فمضى به بعيداً عن ذلك الشارع المظلم قبل أن يعود إلى البكاء مرة ثانية. واصلت طريقي، احسست أن شيئاً ما في داخلي يناديني كي أغير الطريق الذي أمشي منه كل يوم فغيرته دون أن احدد الوجهة التي سأذهب إليها ، وفجأة وجدت نفسي واقفاً أمام محل للالعاب ، لم استطع أن امنع نفسي من البكاء فطالما جئت إلى هنا مع والدي وكان دائماً يشتري لي الألعاب من هنا لم آتى إلى هنا منذ زمن بعيد ولم أحاول حتى أن أمر من جانبه ، فما بالي أعود إليه اليوم ، وما بال الذكريات تلاحقني اليوم وبهذه القوة. «يا الله» قلتها وانخرطت بنوبة بكاء طويل ومرير تماماً كما بكيت يوم وفاة والدي ، نعم عرفت الآن لماذا تلاحقني الذكريات ، فهمت لماذا قادتني قدماي إلى هذا المكان دون غيره ، فاليوم هو الخامس من نوفمبر ، إنه اليوم الذي رحل فيه والدي من هذا العالم ، إنه اليوم الذي ذقت فيه معنى اليتم ومعنى الفراق والحزن ومن ذلك اليوم وأنا اذيق إخوتي هذا الإحساس يوماً بيوم ولحظة بلحظة. لم أحاول قط أن أكون الوالد ولا حتى الأخ الحنون ، بل كنت أمعن في عقابهم وكأنهم هم من اخذوا والدي مني ونسيت أو تناسيت انهم شربوا من نفس الكأس الذي شربت منه ، بل لعلي افضل حالاً منهم إذ أني عشت مع والدي أكثر منهم. أحسست بندم يعصر فؤادي وحزن عميق يقبض عليه ليس من أجلي بل من أجل والدتي التي لم تعرف السعادة منذ وفاة والدي ، فقد كان يحزنها حالي وبعدي عن اخوتي بتلك الطريقة ومعاملتي لهم ، افقت من إحساسي بندم على صوت صاحب المحل وهو يستعد للمغادرة ، ذهبت إليه مسرعاً ورجوته أن يسمح لي بشراء بعض الألعاب ، لا أدري ما الذي دفعني إلى ذلك ولكني أحسست برغبة شديدة لشراء بعض الألعاب ، وبالفعل فتح الرجل محله من جديد ودخلت إلى المحل الذي كان كل ركن من أركانه يحمل في طياته ذكريات جميلة عشتها مع والدي العزيز. عدت إلى البيت ولكن هذه المرة لم ادخل مباشرةً إلى غرفتي كما تعودت منذ زمن ، بل توجهت إلى غرفة اخوتي حيث ينامون مع والدتي توجهت إليهم اقبلهم واغسل وجوههم الصغيرة بدموع حانية وأضمهم إلي تماماً كما كان يفعل والدي منذ سنوات كلما عاد من عمله ، ثم وضعت أمام كل واحدٍ منهم لعبته التي اخترتها له ، حانت مني التفاتة إلى والدتي التي لم انتبه إلا الآن أنها كانت تصلي في ركن الغرفة وكانت تنظر نحوي وابتسامة ممزوجة بدموع تغطي وجهها مسحت دموعي وتوجهت نحوها ، قبلت يدها التي كانت ترتعش من شدة الانفعال ثم ارتميت على صدرها وعدت للبكاء من جديد وامتزجت دموعنا.. هي دموع فرحة ممزوجة بحزن ، نعم كنت ابكي بكاء من عاد من سفر بعيد وغربة طويلة ، كانت لمسات أمي الحانية تشعرني بالدفء والأمان والراحة وماهي إلا لحظات حتى أحسست برغبة بنوم لم أقاوم بل استسلمت لذلك الإحساس الجميل براحة وأمان.