- علي أحمد النائب الأم مشغولة بعملها المطبخي الضئيل، تستظل سقفاً صفيحياً، ممرداً بمخلفات الأدخنة، تلهو بأوانٍ تفننت في زخرفتها ألسنة اللهب، فحولتها إلى تحف فاحمة السواد، تخطو على أرضية بلطها الزمن بحكايات العوز والجوع..يرتفع الصوت من غرفة السكن اليتيمة، التي لم تكن تحوي سوى رموز الفقر، أخي أخي، تسرع إلى الباب كي تستطلع الحدث .. مابكن يابنات، ألا تمللن إزعاجي أنتن وأبوكن. يرتفع الصوت مرة أخرى، أمي أمي، أخي مغشي عليه... صدمتها المصيبة، أخذت تتحرك مكانها دون تقدم وتصرخ دون صوت إنه وحيدها الذي أنجبته بعد معاناتها من مجيء الإناث خمس مرات، أما الأب المسكين فأخذ يرشه بالماء دون جدوى. فجأة تحول الولد من المغشي إلى المتشنج، فانتفخت رقبته، وتيبست أطرافه. مر وقت وهو على هذا الحال، تملك أبويه وشقيقاته اليأس، وبدأت مرارة الردى تصل إلى قلوبهم. فاجأهم بضحكة دوى لها المكان، هاه.. هاه.. هاااااه. صرخ النسوة: بني، أخي، ماالذي جرى لك؟! لقد لعبتها عليكم، قالها في برود، مؤكداً لأبيه الشيء الذي كان يفكر فيه، مراراً وتكراراً، حقاً إن الولد ذكي، ويستطيع أن يفعلها. هدأ الجميع، وبعد تناول الطعام، تناقش الأب مع الأم.. هذا الأسبوع سيقل عليكم المصروف. لماذا؟ أتريد أن تشتري للبنات ثياباً؟ إن لديهن مايستر عوراتهن! وهن لايخرجن، فلسن بحاجة لذلك. لا.. لا ولكن ستعرفين في وقتها. نفذ الأب خطته، وبعد سبعة أيام، دخل بيته وهو يدفع عربة صغيرة، تلقاها الجميع بترحاب. ماهذه ياأبي..؟ لماذا أشتريتها؟! هل اشتريتها لي ياأبي؟ نعم يابني إنها لك.. غمرته السعادة، عند معاينته للعبته الجديدة، التي لم يلعب بسواها من قبل، ولكنها لعبة من نوع خاص. جاء الليل وبدأ الأب يعد ابنه، لليوم التالي.. بروفة تلو الأخرى، حفظ الولد الأدوار، التي سيؤديها، بسرعة فائقة، ثم ناموا. الليل لم يكن هادئاً لمثل هؤلاء، وفي اليوم التالي، استيقظ الولد مبكراً، فقام بإيقاظ الجميع. أبي هيا تأخرنا. أمي اصنعي لنا الطعام. أخواتي هيا استيقظن. تناولوا طعامهم، وتوجه الأب، إلى السوق المجاور وهو يدفع عربة، عليها طفل متشنج، يرثى لحاله، ويرق له القلب القاسي! وأخذ يصيح أعينوا هذا الطفل المريض، لله يامحسنين، واستمر بهم الحال هكذا، يوماً بعد يوم الأب يصيح لله يامحسنين، والولد يتمارض من الصباح إلى المساء. كان يصادف كل صباح، أطفالاً مع ذويهم، يلبسون ملابس، تشتهيها نفسه، التي لم يستر جسدها الفاحم إلا لحاف بالٍ، إنهم يذهبون إلى المدارس، ليتعلمون أبجديات العلم، بينما والده يجوب به الأسواق، والشوارع، والأزقة، ليعلمه أبجديات الذل والمسكنة. يسأل أباه: إلى أين يذهب هؤلاء الأطفال ياأبي؟! إنهم يذهبون إلى المدارس ياحبيبي. ولماذا لاأذهب أنا إلى المدرسة الأنني فقير وهم أغنياء؟! لا.. لا يابني، ولكن لوذهبت أنت إلى المدرسة، فلن نأكل. أذهب يوماً إلى المدرسة، ويوماً معك ياأبي ومن الذي سيعطي لنا مصروف اليوم الذي ستذهب فيه إلى المدرسة؟ لاتفكر في هذا يابني، إنه بعيد بعيد جداً. يمر بجانبه الناس أغنياؤهم، وفقراؤهم، أجناساً مختلفة، بينهم من يتصدق عليه، وبينهم من يمنعها عنه، يلعن بينه وبين نفسه كل من لم يتصدقوا عليه أصبح الآن في سن العاشرة، لم يعد يطيق الاستلقاء على العربة، بدأ بممارسة المهنة بنفسه، يخرج كل صباح، ليبيع ذاته لذاته! وبثمن بخس. يخبئ في دهاليز نفسه ألم الذل، ويظهر جور الإنحطاط، الذي يمارسه ويُمارس عليه. يمشط الأسواق، يمر بالجزارين، والحدادين، وكل الذين يعرضون بضاعتهم في السوق، يسأل ويسأل وبإلحاح لاينتهي. يخرج إلى الشوارع، يتسلق أبواب السيارات، يمر بين مقاعد الحافلات يمد يده الخشنة، فينتكس رأسه الأشعث، يذهب في الصباح ولايعود إلا في ساعة متأخرة من الليل. الأب المسكين، بدأت تهده السنون، التي تكالبت عليه مع الهموم، بدأ بتسريب المهام إلى ولده الفتي، ليحمل على عاتقه هم الأسرة. يخرج من البيت وهو حزين، ويعود إليه وهو حزين. يحاور نفسه أحياناً كلا لن أمد يدي ثانية، لن أمدها، لن أمدها. ولكن من لأسرة عائلها عجوز مريض، وغالبيتها من الإناث، اللاتي لم يتعلمن، ولم يدربن على شيء. لماذا ياأبي لم تعلمنا سوى هذه المهنة القذرة؟! لماذا؟ لماذا؟ نعم إنها مريحة للجسد، ولكنها متعبة للروح. كلما زاد نمو جسمه، نما معه الإحساس بألم الذل، والظلم الاجتماعي، الذي يعامل السائل، وكأنه ظلٌ على هامش الحياة. كبر وكبر حتى بلغ سن السعي، سن الإعتزاز بالنفس، لكن أين هي النفس التي يعتز بها، وما ماهيتها؟ بدأ القلق يدخل حياته، كما كان يحس ببعض الأسقام، التي تدب في بدنه ألم في البطن والرأس، زيادة في ضربات القلب، قلة إفرازات اللعاب، الشعور بحمى داخلية في جسمه، النظر إلى الحياة بتشاؤم، كل هذه الآلام والإحساسات تضافرت مع بعضها، محولة حياته إلى جحيم لايطاق. كما كانت تمر أمامه حكاية جده، الذي أغتال نفسه، كشريط مصور. حاول عدة مرات الإنسحاب من الحياة وتركها، أخذ جسده يبالغ في الإمتلاء بإفراط، موحياً بحياة هنيئة كريمة، لم تكن موجودة قط، تبدل تعامله مع أسرته ككل، كان يعاملهم بمودة واحترام، أما الآن فيعاملهم بعصبية زائدة، كما تمادى في ترديد مصطلح غريب، لم يكن مألوفاً لدى أفراد أسرته من قبل، ولم يفهموا معناه بعد. أقلقه كثيراً استيقاظه المتكرر من النوم، وتعرقه فيه باستمرار، لم تعد الكبسولات التي كان يشتريها من أحد العملاء، تجدي نفعاً، لاهدوء، لانوم، لا..لا. أخيراً قرر الانسحاب المحتوم، لكنه قرار «من الرمضاء إلى النار». تبدلت حالته بين ساعة وساعة، من الحياة إلى الموت. اختفى، اختفى ولم يخلف وراءه سوى إرث غزير من الدموع، ومزيد من الذل والجوع. ومابقي من ذكراه، إلا صرخة أطلقتها أمه في مسامع الزمان، ومن أشيائه إلا الحبل، الحبل الذي طالما اصطحبه في جيبه، الحبل الذي ظل معلقاً، ينتظر قادماً آخر!