قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عاجل: الحوثيون يعلنون قصف سفينة نفط بريطانية في البحر الأحمر وإسقاط طائرة أمريكية    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن: مهد اللغة العربية
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 04 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
ويعود إلى كتابة اللغة فيقول إنها نشأت في الحيرة، وأنها دخلت الجزيرة عن طريق دعاة المسيحية. وكانت هذه الديانة منتشرة في لخم وقضاعة وغسان وعرب طيء. ويقول: (ومن تلك النواحي أخذ القرشيون الكتابة العربية، وكانوا في أشد الحاجة إليها لشئون تجارتهم. وبعد هذا كله، وبعد نفيه أي دور لقريش في تطور اللغة العربية أو معرفة بها نصل إلى خلاصته المريعة، الدالة على منتهى التناقض وعدم الصدقية قال: وخلاصة كلامنا فيما يتعلق بدور قريش في تطور العربية وكتابتها، أن هذه القبيلة التي تعد من أصغر القبائل العربية حجماً، استطاعت بفضل دورها الكبير في التجارة وديانات الجاهليين أن تكون صاحبة دور حاسم في تطور اللغة والخط، حقاً أنها لم تخترع هذه ولا ذاك، ولكن مقدرتها التجارية، وسيطرة رجالها على طرق التجارة والأسواق، مكنتها من جمع ثروات طائلة، وتحويل مدينتهم الصغيرة في ذلك الحين إلى واحدة من أكبر أسواق الدنيا. ففي مكة كانت تؤخذ في العصر الجاهلي - وخصوصاً في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي - بضائع لا توجد في غيرها من كبريات المدن في الدنيا. وقد كانت أرباح هذه التجارة عظيمة، وبفضل ثروات المكيين، وما تيسر لهم من سبل الاتصال بالناس خارج الجزيرة، وفي شتى نواحيها اتسعت معارف القرشيين، وزاد هذا العلم المتجمع لهم عن طريق قنوات عملية قائمة، من الاحتكاك الكبير المباشر بالناس، واقتباس العلم بالدنيا وأهلها منهم. هذا العلم زاد ذكاء قريش حدة، وعندما تطلع شمس الإسلام، ويسطع نورها، ستجد قريشاً في مستوى ثقافي وفكري وحضاري أعلى بكثير من قبائل أكبر حجماً وأوسع منازل، وأقرب إلى مواطن الثقافة في العالم القديم. ومما تجدر ملاحظته، أن أمة الإسلام عندما قامت في المدينة، وجدت الكتاب، ومعظمهم من قريش، بل كان القرشيون المهاجرون هم الذين وسعوا نطاق الكتابة والقراءة بين اليثربيين. فعلى أيدي القرشيين تعلم كتاب (يثرب) عكس ما قال الآخرون!!وعن تدوين الشعر عند العرب، وأنه كان واقعاً فيهم لا مراء فيه، كما كانت الكتابة متداولة بينهم، كما كانوا يعرفون الكثير من العلوم الأخرى. وبما أن الشعر كان أغلى ما يملكه العرب، فهو ديوانهم وعنوان فخرهم، فقد اهتموا بحفظه وتدوينه أكثر من غيره. (فإذا ما أيقنا هذا الجدل المتين بين العربي والشعر، أيقنا أيضاً أن من طبيعة الإنسان المحافظة على الشيء العزيز، وبخاصة إذا كان هذا العزيز عرضة للضياع والعطب. ولقد احتفظت الذاكرة الجاهلية بالشعر، وحافظت عليه، وكانت أمينة على ما احتفظت وحافظت. وآية ذلك الآتي:
1- كثرة الشعر الذي وصل إلينا وقلة النثر؛ لأن الذاكرة بطبيعتها (وطبيعة الشعر) قادرة على الإمساك بالشعر، وهي أقل قدرة على الإمساك بالنثر.
2- احتفاظ الذاكرة الشعرية بنصوص قيلت قبل ظهور الإسلام بقرن ونصف أو قرنين (على رأي الجاحظ). ولم تشأ هذه الذاكرة تحميل طاقتها فوق ما تحتمل، ولم تشأ أيضاً ادعاء الاحتفاظ بنصوص لا تدخل في حدودها.
3- أهملت الذاكرة (العربية) شعر فترة طويلة تزيد على العشرين قرناً، بسبب عدم وجود وثائق علمية وموسوعات لغوية، فطرحت شعر العرب البائدة (ليس هنالك من عرب بائدة. والشعر كان في قوم عاد وثمود قبل ما يقرب من عشرة آلاف عام!) فإذا قرأنا في هذا المصدر أو ذاك شعراً مزعوماً لشعراء تلك الفترة (الغاطسة)، فذلك إنما جاء على سبيل الوهم أو الطرافة.. ومثل ذلك حدث في نصوص الجغرافيا والتاريخ والحديث الشريف. دون أن يعكر الوهم الضئيل قيمة اليقين الكبير.
4- لم يكن العرب كما مر بنا أجلافاً متوحشين، بل كانوا أصحاب معارف وعمران وزراعة وتجارة، فضلاً عن معرفة القراءة والكتابة. وقد انصرفت دلالة الأمية (على رأي د. ناصر الأسد وعلي فهمي خشيم) إلى الأمية الدينية.
5- كانت الرواية في العصر الجاهلي علماً. وكان الرواة المحترفون ذوي حافظة فائقه، وخبرة متراكمة، ومروءة عالية، فضلاً عن أنهم علماء يعتمد عليهم الشعراء، وجمهورهم معاً في حفظ الشعر، والتعديلات التي أجريت عليه، والمناسبات التي قيل فيها. فمن الرواة من كان شاعراً أو ابن شاعر . فراوية الأعشى كان عالماً بلغات (لهجات) العرب وأيامهم والبيطرة، وصديقاً ملازماً للشاعر في أسفاره، ومعظم الرواة كان كاتباً حريصاً على تدوين الشعر.
6- أسهم المخضرمون: شعراء ورواة في إيصال محفوظاتهم إلى علماء التدوين في صدر الإسلام، مثل: لبيد، وحسان، والخنساء، وأبي ذؤيب، والحطيئة، وعبيد بن شرية الجرهمي. وسواهم كثير - قال لبيد:
سلكوا سبيل مرقش ومهلهل
الشاعرون الناطقون أراهم
وقد ورث الأمويون- وخاصة معاوية وعبد الملك بن مروان- صناديق ملأى بمدونات الشعر الجاهلي! ويبدو أن الفرزدق كان محتفظاً بقصائد جاهلية كثيرة.. فهو القائل:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا
وأبو يزيد وذو القروح وجرول
والفحل علقمة الذي كانت له
حلل الملوك كلامه لا ينحل
وأخو بني قيس وهن قتلنه
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
والأعشيان كلاهما ومرقش
وأخو قضاعة قوله يتمثل
وأخو بني أسد عبيد إذ مضى
وأبو دؤاد قوله يتنخل
وابنا أبي سلمى زهير وابنه
وابن الفريعة حين جد المقول
والجعفري وكان بشر قبله
لي من قصائده الكتاب المجمل
ولقد ورثت لآل أوس منطقاً
كالسم خالط جانبيه الحنظل
في هذه الأبيات يرينا الفرزدق معرفته بأسماء وألقاب أجيال من الشعراء عاشوا فترة قبل الإسلام بقرنين أو أكثر. وهذا يدل على أن شعراء عصر صدر الإسلام، كانوا قد تلقوا شعر من كانوا قبلهم بطرق مختلفة، منها الكتابة. وأن الرواية الشفهية لم تكن هي المصدر الوحيد. ولكن كيف وصل إلينا هذا الشعر؟ على أي صورة وبأي آلة؟. (لقد بلغنا الشعر الجاهلي، وقد اكتملت آلته وتبلورت شعريته، وامتدت همومه على مساحة عصره، فعبر عنها أحسن تعبير، وكان من عادة الشعراء الجاهليين اتخاذ رواة لهم. ووظيفتهم تشبه وظيفة المستشار من جهة والسكرتير العلمي، وليس السكرتير الإداري، فالراوي ملازم للشاعر في حله وترحاله وأفراحه وأتراحه،يدون ما يسمع، ويحفظ ما يدون، ويقفي للشاعر ويذكر. وقد يسأله الشاعر عن معنى خفي أو عبارة مختلطة فيجيبه، أو يستثيره في أمر يتصل بالشعر والتجربة، فيشير عليه، وكان من عادة الرواة أنهم يعتمدون على قوة حافظتهم وذاكرتهم أولاً، ثم يدونون محفوظاتهم في صفحات ذات طبائع مختلفة، مثل: الرق (جلد الغزال)، والرقم (الطين الرقيق المشوي مع الرصاص)، والقضيم (الجلد الأبيض)، والأدم (الجلد المدبوغ)، والمهارق (القماش)، والعسب (جريد النخل)، واللخاف (الحجارة) وعظام الكتف والأضلاع والموسوليني (قماش موصلي)، والدمشقي (قماش دمشقي)، والقنب (خشب الرحل)، والجدران الصقيلة، والقرطاس، والورق، والأزلام (الأسهم)(1) ، وقد وردت كل هذه الأسماء وغيرها في الشعر القديم، الذي سبق مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. إن الإنسان ليصاب بالدهشة، حينما يرى كثرة ما تركه العلماء العرب الأقدمون، حتى وصل إلى المخضرمين، الذين نقلوه بدورهم إلى من بعدهم من الصحابة والتابعين، ولعل ما نقله صاحب أيام العرب من شذرات، لذلك التراث، الذي يقنع كل من له عقل (أو ألقى السمع وهو شهيد) بعظمة ذلك التراث وعظمة صانعيه قال: (وإزاء التطور السريع في الأحداث، وظهور القضايا اللغوية الملتهبة لجأ العلماء إلى رواية الشعر الجاهلي، واستقصاء أخباره، والاستشهاد به في التفسير والحديث، حتى بات الاستشهاد بالشعر الجاهلي، لتفسير موضع من مواضع القرآن الكريم أو الحديث الشريف أمراً مألوفاً في الكتب؛ فتشدد بعض العلماء بالرواية، فلم يكونوا يستشهدون بغير شعر جاهلي، ويرفضون ما وردت تسميته على لسان أبي عمرو بن العلاء بأنه شعر محدث. لقد كان أوائل العلماء تحت تأثير مرحلي ملح جماعين فحسب، لذلك لا يستغرب أن يقال عن أبي عمرو بن العلاء أن مؤلفاته بلغت سقف بيته، وأن حماد الراوية إذا سئل عن شعر قبيلة، نظر في كتب القبائل التي جمعها بين يديه. ولم تكن عملية الجمع منصبة على الشعر فقط، بل ظل هؤلاء الإنسانيون الكبار يعيدون إلى كثير من أعمال الفكر الجاهلية اعتبارها، ويبعثون معها مقومات نهوضها، ففارقت أكفانها أساطير وأخبار، كان يظن أنها مضت إلى غير رجعة، حتى قيل عن ابن الكلبي أنه كان يطلع على (أرشيفات) الحيرة ووثائقها، التي حوت مقاطع أسطورية إلى حد ما بطبيعتها عن ملوك الحيرة.
- تغير دور الرواة :
لقد تمخضت المرحلة الأولى من مراحل البناء الفكري في عصر صدر الإسلام، المتمثل في جمع التراث العربي المنقول عن عصر ما قبل الإسلام عبر المخضرمين كما مر، وكذلك وضع الأسس والأصول للعلوم المختلفة، تمخضت عن تطورات في مجالات التأليف والروايات وجمع التراث.. إلخ. (ولما تقدم العصر قليلاً تحول الرواة من أناس وادعين، ينشدون الشعر، ويرددون ملاحم أيام وأخبار العصور الماضية إلى علماء ذوي اختصاص. استقطب الشعر الجاهلي والأدب القديم وأيام العرب جمهرة منهم، واستقطبت علوم الدين المختلفة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والسنة والفقه جمهرة أخرى. ومن ذلك الرواية والأثر الفنان في القدم، والدراية في القرن الهجري الأول أو الراوية العالم بأدق تعبيره، وبذلك أصبح مدلول (الراوية العالم) أوسع بكثير من مدلول راوية الشعر. وكان هناك من العلماء والرواة من استوعبوا ثقافات ما قبل الإسلام وما بعده. ولم يجدوا حرجاً في ذلك باعتبار ثقافة عصر صدر الإسلام امتداداً للثقافات السابقة لها، عدا بعض المسائل ذات المساس بالعقيدة، وبالذات في قواعد الأصول. رغم أن بعضهم قد لاقوا عنتاً وبغضاً وطعناً في عقائدهم، فانسحب البعض، وصمد البعض (ولا يغرب عن البال أن الجيل الثاني أبا زيد والأصمعي وأبا عبيدة تركزت فيهم قضايا عصرهم، وتمثلوا ثقافات الكثير من الأمم القديمة، واستلهموا ثقافة العرب الأولى، فاجتازوا آفاق الأوائل، بل إن المقارنة بين الآباء والأبناء تمتنع أحياناً. ويؤكد كلامنا هذا في تطور العقلية العلمية للرواة، وتقدم التلاميذ على الأساتذة ما ذكره ابن سلام قال: سمعت أبي سأل يونس بن حبيب عن ابن أبي إسحاق وعلمه، فقال يونس: (هو والبحر سواء) أي هو الغاية. قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو لم يكن في الناس اليوم أحد لا يعلم إلا علمه يومئذ، لضُحك منه، ولو كان فيهم من له ذهنه ونفاذه وصبره ونظره لكان أعلم الناس. وهذه وثيقة اعتراف عالية جداً لفضل المتقدمين على المتأخرين، وهي أيضاً تقييم أعمال السلف في مقياس نقدي سليم، وثالثاً شهادة تدعم القول الذي نقله السيوطي (كان في العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم. عنهم أخذ جل ما في أيدي الناس من هذا العلم). ومما لا شك فيه، أن رواة الأخبار والأشعار وأيام العرب كانوا يلاقون إلحاحاً من رواة الحديث، وعلماء الفقه وأرباب التفاسير، يؤكده إقدام أبي عمرو بن العلاء على إحراق كتبه ثم تنسكه، وقيام أبي عمرو الشيباني باستنساخ مصحف وإيداعه أحد الجوامع، كلما أنجز ديوان قبيلة من القبائل. ومر خلف الأحمر بنفس الأزمة، وكان الأصمعي محرجاً جداً، ولا عجب إذا تحرج من جاء بعدهم من رواة الشعر وأخباره، والعمل في حقل الأيام لأن أنظار رجال الحديث موجهة إليهم شزراً. وقد تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في المجلد الأول، وها أنا أحاول اقتباس فقرات من ذلك الفصل: فبعد الإشارة إلى قصة طوفان نوح، وأنها قد دارت على أرض اليمن، نرى من فصولها فصلاً جديداً تدور أحداثه على الأرض اليمنية، نعني به (قصة سام بن نوح، والتي تدور في اليمن، التي احتضنت أرضها ساماً وفروعه، ومنحتهم من معطياتها القدرة على أن يسروا على تربتها القرون الكبيرة في نمو بطيء مطرد. وتبرز من صنوفهم أمم حفظت لنا الأخبار منها العمالقة وعاد الأولى والثانية، وكلها عرفها الإخباريون والمؤرخون بالعرب القديمة، وأطلق عليهم البعض خطأ العرب البائدة!! وهم ليسوا كذلك بنص القرآن. ويرى أكثر المؤرخين والإخباريين وجماعة من الأثريين وعلى رأسهم الشماحي أن هؤلاء العمالقة كانوا باليمن، وأن منهم من عاد فأقام باليمن، ومنهم من هاجر إلى العراق وإيران والشام وأفريقيا الشرقية منسابين إلى وادي النيل، وشمال أفريقيا وغيرها، حاملين معهم حضارتهم ومعارفهم، ولعل منها الكتابة البدائية، كرموز للتدوين والتطور، والذي منها اقتبست الحضارة السومرية والفرعونية والأيجية ما اقتبست فطورتها، ثم اهتدت إلى نقشها، وتدوين الأخبار بها على الأحجار، والبردي، وألواح الطين المجفف، مما حفظ الكتابة وأخبار تلك الأمم، ويبدو أن العمالقة وعاداً لم يستعملوا هذه الطريقة، فضاعت كتاباتهم، وأخبارهم، أو استعملوها، ولكنه لم يعثر عليها إلى اليوم. وهي في رأينا الأصل للأبجدية اليمنية المعروفة بالمسند، ويستمر الشماحي (رحمه الله): ومن تلك الأخبار، وذلك الافتراض يرجح أن السومريين والأيجيين، والحيثيين وقدامى الفراعنة والمصريين هم من فروع العمالقة الذين هاجروا قبل التاريخ، كما أن من العمالقة والعاديين يعدّ الكلدانيون والبابليون والفينيقيون. والشاسو (الكنعانيون) والفلسطينيون. والآشوريون، والعبرانيون، وغيرهم، وقد أوصلنا إلى هذه النتيجة ما خطه الإخباريون، والكتب المقدسة، وما استوحيناه من نواميس الطبيعة، وتطورها. وهذه النتيجة تقرب من النتائج التي استقاها من الدراسة الجيولوجية والأثرية والتاريخية كثير من مؤرخي الغرب، وأمريكا والمستشرقين وغيرهم. فقد قال أحد المستشرقين: إن اليمن وحده هو الذي يستطيع بأن يطالب تاريخنا بلقب (مهد العروبة) ويضيف: وقال المؤرخ (فملر) أنه جاء ذكر المعينيين في أقدم نص بابلي عليه نقش بالمسمارية تاريخه 3750 ق. م. وقال يورانس: اليمن هو مصنع العرب. ويمضي الشماحي مبيناً أصول السومريين والشاسو وغيرهم من الأقوام التي خرجت من جزيرة العرب ، ومن اليمن بالذات مستدلاً بكتابات بعض المؤلفين الأمريكيين والمصريين فيقول: وقال المؤرخ الأمريكي (ولز): إن السومريين أولو بشرة سمراء ، وأنوف شماء، وأن شعباً أبيض قاتماً أو أسمر هم الساميون ، جاءوا من بلاد العرب إلى بلاد سومر متجرين ومغيرين ، وبعد قرون تم لهؤلاء المغيرين فتح بلاد سومر بقيادة (سرجون) الكلداني العظيم في أوائل الألف الثالث ق. م. وأصبح سرجون سيد العالم كله في الخليج (؟) إلى البحر الأبيض، وأنه لم يأت عهد حمورابي أواخر الألف الثالث ق.م. إلا وقد انتشر الساميون على طول حوض البحر المتوسط، وتوغلوا في أوروبا وأسبانيا وغيرها، فأقاموا مستعمرات على شاطئ أفريقيا، وأن من الساميين الفينيقيين والحيثيين وعمالقة الشام والعراق والشاسو الذين فتحوا مصر وحكموها أكثر من خمسمائة سنة. وقال المؤرخان المصريان محمد عبد الرحيم مصطفي، وعبد العزيز مبارك في مؤلفهما (تاريخ مصر القديم): إن الحضارة بمصر بدأت قبل عصر التاريخ بما يقدر بمائة ألف سنة، وأنها أغارت قبل عصر التاريخ على مصر قبائل آسيوية من الجنس السامي، جاءوا عن طريق برزخ السويس، وقد استطاع هؤلاء الساميون أن يؤثروا في حضارة المصريين، ولغتهم تأثيراً كبيراً. ويذيل المرحوم الشماحي كلامه الهام هذا قائلاً: وقد خرجنا عن الاختصار لأهمية المواضيع. لقد كان الشماحي محقاً فيما ذهب إليه، ولا أخاله مبالغاً أو متجاوزاً على وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا، ومقتضيات البحث العلمي في مجال التاريخ البشري وطبائع الأشياء،فلقد تواترت الأدلة التاريخية والشهادات العلمية والمعطيات المادية عن أقدمية الكتابة في اليمن، وأنها أصل كل الكتابات. ولأن الكثير قد تكلم عن أصل الكتابة ومكان اختراع الحرف للمرة الأولى. وذهبوا مذاهب متفرقة، وعزا بعضهم أصل اختراع الحرف إلى الفينيقين. وكان منشأ هذا الخطأ التاريخي اليونان والرومان، الذين تعاملوا مع الفينيقيين في وقت متأخر من بدء الحضارة في اليمن، ووجدوا أنهم يكتبون بأحرف معينة، واعتقدوا أنهم مبدعوها، ونسبوها إليهم، وانتقل هذا الخطأ إلى غيرهم، وتبناه وروج له بعض المؤرخين العرب الإقليميين ضيقي الأفق، في حين أن الفينيقيين ما هم إلا جزء من الكنعانيين الذين هم من هجرة يمنية.وقد جاءت الدراسات العلمية الحديثة لتبطل ذلك الوهم، وتؤكد الحقائق التاريخية عن نشأة الكتابة، وأن اليمن هي الأصل والمنبع، ومكان الاختراع الأول ولمهد الأول لكل الساميين العرب. وقد جاءت الشهادة على بطلان تلكم المزاعم من لبنان نفسه وعن طريق أحد أبنائه الباحثين عن حقائق التاريخ. يقول الباحث والكاتب (فرج الله صالح ديب): (إن كل ما رسم من تاريخ عند الأموريين والكنعانيين، وبالتالي الفينيقيين إنما دخل في دائرة الظن، والهوى، لكننا هنا لا نعتمد على اكتشاف د. كمال الصليبي الذي نعتبره صحيحاً عبر عدة أبحاث نشرناها، كما أننا لن نعتمد على اكتشافنا أن أصول الأسماء اللبنانية ما زالت في اليمن حتى اليوم (وكذلك أسماء كثير من مدن الشام والرافدين ومصر) وأن ذلك يؤكد هزالة وفقر الكلام عن الكنعانيين وغيرهم لأننا سنواجه الكتابات التاريخية من داخلها وبمنطلقاتها لنخرج بنتيجة أن من يسمون فينيقيين ليسوا إلا أجدادنا قدموا من اليمن غرت مؤرخي اليونان وآثارهم المكتوبة على الحجر ولغتهم العربية وأحرفهم المتقاربة مع الحرف الحميري اليمني). ويناقش (ديب) منشأ هذا الغلط التاريخي استناداً إلى كتابات (فيليب حتى) و(يوسف السوداء) و(أنيس فريحة) الذين جاءوا بآراء متقاربة رغم تباين مواقفهم من القضية، ونخلص بعد النقاش لآرائهم إلى النتائج التالية مع بعض التصرف إذ نعتبر أن هذا النمط من التاريخ يقع في دائرة الظن والهوى، حيث إن الثابت من النقوش:
1- أن الفينيقية تسمية يونانية لمجموعات ساحلية لها حرف فينيقي، وعدة أسطر منقوشة على الحجر، وأن هذه الفينيقية ذات قرابة بالكتابة الحميرية.
2- أن الكتابة الأوغارية التي يمكن قراءتها بالعربية والعبرية والسريانية لا علاقة لها بهذا النمط من التاريخ.
3- أن العربية والعبرية والسريانية هي اللغات الوحيدة الملموسة تاريخياً.
4- أن الأسطورة القائلة بأن العرب ما جاءوا إلى المنطقة إلا مع الفتح الإسلامي، أسطورة متهافتة تنفيها الوقائع التاريخية، وتلغيها جذور أسماء القرى والمدن والمناطق والأنهار والخيول كما سنرى في حين أن الإطلاق العام لتسمية عرب كانت غائبة في التاريخ القديم. وفي كل الأحوال فإن لفظة كنعاني وفينيقي لا تستقيم قراءتهما ومعناهما إلا عربياً. وأخيراً فلقد ترك المرحوم الشماحي في كتابه الخطير ذي الحجم الصغير، الموسوم ب(الهجرات اليمنية من بون صنعاء إلى البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا) معلومات هامة جداً عن هجرات اليمنيين منذ ما قبل التاريخ ومن أيام العمالقة وعاد وثمود وما بعدهم، مستنداً إلى أقوال علماء ومؤرخين غربيين وعرب نتيجة لأبحاث ميدانية علمية وأحافير، وما هو موروث من تاريخ الشعوب وتراثها. ومن الإيحاءات المناخية والمؤثرات الطبيعية الأخرى يقول الشماحي: لقد استقر أخيراً عن طريق السجلات الجيولوجية والأثرية أن الجزيرة العربية هي من أقدم المناطق التي تخلصت من قبضة العصر الجليدي الرابع وأنها منذ مائة وخمسين ألف عام تقديراً انتقلت من الجليد الرابع، إلى مناخ دافئ معتدل كثير الأمطار كثير الأنهار العظام المتحررة من كماشة الجليد مما مكن الحياة فيها من تهيئة وإخراج الإنسان الأول المعد للحضارة. ويسترسل قائلاً: فبدأ الإنسان المستعد للتكيف ينمو ويتناسل مع الأجيال المتعاقبة التي استمرت تنمو معها في بطن براعم الحضارة ذلك النمو الذي يغذيه المناخ المعتدل الفياض بالخيرات المزدهر بشباب الحياة، ودفعتها الطبيعة من جبال تغطيها الغابات إلخ. ويضيف: وفي هذا الجو الشاب الزاخر بالبهجة والأحلام والأوهام، واصل الإنسان خطواته بالحضارة نحو الأمام من قبل مائة ألف عام إلى العصور الحجرية الحديثة فما بعدها، بينما كانت أوروبا ومعظم القارتين الإفريقية والآسيوية بما فيها الهند والصين نائمة في سراديب الجليد الرابع). ويؤكد الشماحي استناداً إلى ما جاء في مؤلف (موجز تاريخ العالم ص45 لمؤلفه (ه ج. ويلز) أن الحياة في الجزيرة العربية قد عرفت وانطلقت منذ ثلاثين ألف سنة (30ألفاً) وأن هذا الانطلاق قد شمل آداب الحياة والسلوك ومبادئ فنون التدوين والتعليم، وصناعة السلم والحرب كإنشاء السفن، والأسلحة، والمرافئ، وطرق المواصلات والعقائد الغيبية وما يتعلق بالفلك والنجوم ... إلخ. ويعتقد أن هذا التطور الحضاري قد صحبه تكاثر السكان وتفرعهم إلى بطون وقبائل وشعوب، وأن هنالك لغة كانت تجمعهم (وقد تكون هذه اللغة هي جرثومة اللغة العربية القديمة التي ورثها العرب العاربة. ونشرتها فيما سمي بمنطقة نشوء الحضارات أو الشرق الأدنى أو منطقة جنوب غرب آسيا كما يطلق عليها البعض. بعد هذا الاستعراض لأقوال كوكبة من علماء التاريخ واللغة والمفسرين والكتاب والمفكرين المستقدمين والمستأخرين عن اللغة الإنسانية: تكونها وتفرعها. مهدها انتشارها. مع اختراع الكتابة. المكان والزمان والقوم الذين اخترعوها لأول مرة وتسميتها وكيف تفرعت منها الخطوط الأخرى؟ إلخ. كل هذا سنأتي عليه في آخر بحثنا هذا إن شاء الله.
و يتبين الآتي:
1- التقارب إن لم نقل التوافق بين ما أسماه بالعربي وهو الحقل الأول من الجدول وما أسموه بلغات جنوب الجزيرة والحبشة، والمقصود هنا لغة العرب الأصل، وهي اليمنية، ومدى تقاربها مع الحبشية في الحقل الأخير. وهو أمر وارد، وليس فيه ما يبعث على الاستغراب، فاليمنيون كانوا في الحبشة كما كانوا في أنحاء الجزيرة العربية.
2- أن العبرية تأتي في الدرجة الثانية من القرابة إلى العربية، وهذا ليس بغريب أيضاً كون اليهود الناطقين بالعبرية فرع من الكنعانيين الذين هاجروا من اليمن.
3- وبعد ذلك تأتي الآرية ثم الآشورية فالبابلية حسب القرب المكاني ومدى تواجد اليمانيين الأقدمين في هذا المكان أو ذاك.
4- أن هذه الكلمات ما هي إلا شذرات أو قطرات بسيطة من غيث غزير كان قد هطل على هذه البلدان من اليمن عبر الموجات البشرية المتتالية منذ أيام الساميين قبل عاد. ونحن نعرف أن هناك من لا يسلم بأن التشارك اللغوي بين الشعوب المسماة بالسامية دليل على وحدة الأرومة بينها، ويقيس ذلك على الزنوج في أميركا الذين يتكلمون الإنكليزية مثل الأمريكيين في حين أنهم يفترقون عنهم في الجنس يقيناً، غير أن هذا منهم تمحل، ومن قبيل القياس مع الفارق لأن التشارك حينما يكون بين جميع الموجات التي خرجت من الجزيرة واحدة بعد أخرى خلال حقب متتابعة تبلغ آلاف السنين ثم بينها وبين الذين بقوا في الجزيرة، وهو ثابت بالمقارنة يصبح دليلاً حاسماً. ومن هذا القبيل ما يقوله الذين يكابرون وينكرون الصلة بين سكان مصر القدماء وبين جزيرة العرب والجنس العربي برغم تقرير كثير من الاختصاصيين في الآثار المصرية والتاريخ المصري من أن ما في اللغة المصرية من مفردات غريبة لا يصح أن يتخذ دليلاً على وحدة الجنس بين المصريين القدماء والعروبة؛ لأن ذلك إنما كان نتيجة للاختلاط الذي وقع بين المصريين، والأقوام التي كانت تسكن في الأقطار المجاورة مما يمت في أصله إلى جزيرة العرب والجنس العربي . هناك جمهرة من مؤرخي تاريخ مصر القديمة وعلماء آثارها يقولون أن معظم سكان مصر القدماء موجات طرأت على مصر من جزيرة العرب من طريق باب المندب تارة، ومن طريق برزخ السويس تارة. وقد عمت لغتها وطبعت مصر بطابعها مثل عالم الآثار المصرية والتاريخ المصري الشهير بريستد في كتابه تاريخ مصر من أقدم العصور وترجمة حسن كمال ص17، وحسن كمال في كتابه تاريخ السودان القديم ص5، وأحمد نجيب الأثري في كتابه (الأثر الجليل لسكان وادي النيل) ص12، وأحمد وفيق في كتابه التركي التاريخ العام ج1 ص50، وغوستاف لوبون في كتابه الحضارة المصرية ص12، وسفيدج، والإسكندري في كتابهما تاريخ مصر قبل الفتح وبعده ج1، ص6، 7،والأبراشي ورفقاه في كتابهم الأساس في اللغات والأمم السامية ص15، 37. وفيليب حتى في كتابه تاريخ العرب ج1 ص7 والعالم الأثري وبجيل في كتابه تاريخ مصر القديمة، وعالم الآثار المصرية جوستاف حبكي في تاريخ المدينة المصرية، وهنري بروخ الألماني، وهنري جونسون الإنكليزي في كتابيهما تاريخ مصر، وماسبرو في كتابه تاريخ المشرق. وقد أوردنا موجز أقوالهم في الجزء الثاني. أما العالم الأثري المصري الشهير أحمد كمال على ما نقله حسن كمال في كتابه تاريخ السودان القديم ص77 أن أصل اللغة المصرية واللغة العربية واحد، وأن الاختلاف الظاهر بينهما ليس إلا نتيجة إسقاط بعض كلمات في بلاد العرب وبقائها في وادي النيل أو العكس، ثم نتيجة لما يعتري الكلمات من القلب والإبدال، وما يطرأ على اللغات من تغير بمعاملة الأجانب، وقد وضع هذا العالم قاموساً أثرياً فيه نيف وعشرة آلاف كلمة عربية ومصرية متشاركة في المعنى والمبنى للتدليل على ذلك. وفيه دليل بطبيعة الحال على وحدة المنشأ والأرومة بين سكان مصر، والعرب، وجزيرة العرب.
وللمستشرق الألماني إيمبر كتاب فيه آلاف الكلمات المصرية والعربية والعبرانية المتشاركة في المعنى والمبنى أيضاً. ونرجو أن يكون هذا كافياً لإقناع أولئك الذين لا يزالون مصرين على اعتبار العراق والشام ومصر لم تعرف العربية إلا بعد الفتوحات الإسلامية مما يتنافى تماماً مع معطيات التاريخ وعلم الأجناس والوقائع الموضوعية. هذا في الجانب اللغوي، وهو رغم أهميته إلا أنه لا يكفي لاعتبار هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه الرقعة الواسعة من الأرض العربية وربما خارجها كما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، فهنالك عوامل أخرى منها العامل الديني والتقاليد والأعراف والحرف والصناعات ...إلخ. (على أن التشارك في اللغات التي تكلم بها الأقوام الذين خرجوا من جزيرة العرب إلى الأقطار المجاورة لها والذين بقوا فيها ليس هو الدليل الوحيد على وحدة الأرومة، والمنشأ بينهم؛ لأن هذه الأقوام متشاركة أيضاً في العقائد والتقاليد والملامح والأفكار على ما يقرر الباحثون. ويرى العلماء الأجانب (أبرهود شرادر، ودي كويه، وهربرت كومه، وكارل بروكلمان، وكينك، وجولل، ماير، وكوك، ودنلف نلسن أن معظم المدن والقرى التي تكونت في العراق أو الشام إنما كونها عناصر بدوية استقرت في مواضعها، واشتغلت في إصلاح أراضيها وعمرانها واشتغلت بالتجارة فنشأت تلك المدن والقرى من ذلك وأنه لما كان أكثر هذه العناصر البدوية قد جاءت من جزيرة العرب. فتكون الجزيرة قياساً على ذلك هي الموطن الذي غذى الشرق الأدنى بالساميين، وأرسل إليه موجات متوالية منها، وأن هناك أدلة دينية ولغوية وتاريخية، وجغرافية يستند إليها هؤلاء العلماء في تقرير وحدة الأصل، والأرومة، والمنشأ بين الشعوب التي تنعت بالسامية.
والملاحظ هنا ورود كلمتي (العناصر البدوية)!! والسؤال هو هل بإمكان العناصر البدوية أن تبني حضارة؟!! إنه نوع من السموم المدسوسة! فالأميون لا يمكن أن يبنوا حضارة، والذين جاءوا من الجزيرة العربية لم يكونوا بدواً بالمعنى المتعارف عليه الذي يعني البدائية وعدم التحضر، بل لقد كانوا حينما انتقلوا من اليمن بالذات على درجات عالية من التحضر والمعرفة فنقلوا معهم حضاراتهم وثقافاتهم ومعارفهم وخبراتهم. وقال فلبي الذي قام بزيارة المنطقة وكتب عدة دراسات ميدانية تاريخية مسهبة: (إن العربية الجنوبية قد أرسلت موجات متعاقبة من البشر سلكت الطرق البرية والبحرية حتى وصلت إلى المناطق التي استقرت فيها، وهاجرت وقد حملت معها كل ما تملكه من أشياء ثمينة. حملت معها آلهتها، وأولها الإله القمر، وحملت معها ثقافتها وخطها الذي اشتقت منه سائر الأقلام، ومنه القلم الفينيقي، وطبعت تلك الأرضين الواسعة التي حلت فيها بهذا الطابع السامي الذي ما زال باقياً حتى اليوم. وقال رينان: إن الساميين جنس منحدر من أصل واحد مشترك يتميز أفراده بتشابه لغاتهم وبتركيب عقليتهم وبنظرتهم الجريئة للأشياء وتأثرهم بالغيبيات وميلهم إلى البساطة في التفكير، والوحدانية في الدين، وأن ظهور الأديان الموحدة الثلاثة الكبرى، أي اليهودية والمسيحية والإسلام بين الساميين يرجع إلى طبيعة تفكيرهم، وأن هذه الميزات التي تتصف بها العقلية السامية ترجع إلى عوامل بيولوجية ووراثية في الجنس، وأنهم بذلك يختلفون أساسياً عن الآريين. وقال كوك في الفصل الرابع من تاريخ كمبردج القديم: إنه لوحظ تشابه كبير في اللغة والعادات الاجتماعية والأفكار وأساليب الحياة بين سكان معظم الشرق الأوسط مما يسوغ الاعتقاد بأن ذلك يرجع إلى تحدرهم من أصل واحد. وقال عطية الأبراشي ورفاقه في كتابهم (الأساس في الأمم السامية ولغاتها): إنه على أي نحو قسمت اللغات السامية فإن الحقيقة الكبرى هي أنها لغات جماعة إنسانية واحدة كونت جنساً واحداً هو الجنس الذي عرف بالجنس السامي، الذي عرفت شعوبه باسم الشعوب السامية والتي تحضرت في أطراف جزيرة العرب، وفيما وراء هذه الأطراف مع بقاء وحدة التفكير والخيال جامعة بينهما. وقال دروزة عن هذه الأقوال وغيرها مما قد نورد بعد: (فكل هذا وغيره مما سوف نشرحه ونقدم الشواهد عليه في الفصول التالية مبرر قوي لسلك تاريخ الجنس العربي في الجزيرة وموجاته إلى الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) وإلى وادي النيل (مصر واليوبية الكبرى) قبل دور العروبة الصريحة في سلك واحد كما هو المتبادر. ولقد سلك جرجي زيدان تاريخ الرعاة والبابليين الذين منهم حمورابي في سلك التاريخ العربي، وسلك هو وفيليب حتى وجواد علي، بل وجميع من كتب تاريخ العرب تاريخ الدول والإمارات والشعوب في جنوب جزيرة العرب وشمالها مع دول الأنباط وتدمر في بلاد الشام في سلك واحد، ولم تكن العربية الفصحى قد غدت لغة لها بل ولم تكن تسمى باسم العروبة، وكانت الموجات التي أقامت دولها خارج الجزيرة منها قد كسبت هي الأخرى شخصية خاصة نوعاً ما في الأرض الجديدة التي استقرت فيها وتأثرت فيها بمن كان فيها ومن جاء إليها من غير جنسها، ولا نرى كبير فرق بين ما فعلوه وما نحن بسبيله. ولقد كسبت الموجات العربية التي خرجت من جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق، ومصر، وشمالي إفريقيا تحت راية الإسلام شخصية نوعاً ما هي الأخرى في الأرض الجديدة التي حلت فيها، ولم يفصل أحد من العرب وغير العرب تاريخها عن التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده كما لا يخفى. وبالرغم من أن الساميين وهجراتهم حقيقتان تاريخيتان لا غبار عليهما كما أنه لا غبار على أنهم كانوا في اليمن وأنهم من ذرية سام بن نوح الذي أسس المدينة الخالدة التي لا تزال تحمل اسمه إلى يومنا هذا وإلى ما يشاء الله وهي (صنعاء) . وسام هو ابن نوح صاحب الطوفان الذي دار في اليمن وفي حوض صنعاء بالذات. أقول: إنه بالرغم من ذلك إلا أن بعض الكتاب العرب قد اعتبرها بدعة أو خرافة اصطنعها المستشرق النمساوي (ليشهورت) سنة 1781م نسبة إلى سام بن نوح!!. ولعل التحفظ إذا جاز هذا التعبير أو الرفض وعدم القبول للفكرة من قبل البعض آت من كونها جاءت فجأة وبعد أن تراكم عليها غبار السنين ولأنها جاءت من مستشرق، ولأن اليهود استغلوها وتلقفوها كما لو كانت سلم النجاة لهم، واحتكروا التسمية لأنفسهم إضافة إلى القدم ... إلخ. ونسي هؤلاء أننا نحن العرب الساميون، وأننا أحق بها وأهلها قبل أن نكون عرباً. أما اليهود فما هم إلا فئة صغيرة عبارة عن جزء من هجرة يمنية تمت في عصر متأخر جداً (في حوالي الألف الرابع أو الثالث ق.م) هم الكنعانيون. فكيف يحتكرون التسمية ويصمت العرب حيال هذا الزعم (الوهم)؟ !! وفوق هذا لعل الرفض قد جاء نتيجة للغموض الذي رافق اللفظ عند تداوله فالبعض قد أطلق على الهجرات العربية المتأخرة منذ ما يقرب من عشرة آلاف سنة بالهجرات السامية مع أنها لم تعد سامية تنطبق عليها مواصفات الساميين وإنما هم عرب صرحاء، وكان الأجدى بهؤلاء أن يطلقوا على موجاتهم الموجات العربية لا السامية. لذلك فإن بعض هؤلاء الكتاب الذين تحفظوا أو رفضوا القبول بإطلاق لفظ الساميين على الهجرات التي انطلقت عبر الآلاف العشرة الأخيرة ق. م. من اليمن ومن بعض أنحاء الجزيرة العربية كانوا محقين في تحفظاتهم لإبعاد شبهة الخلط بين الهجرات السامية الحقيقية القديمة وبين الهجرات العربية التي انطلقت بعد ذلك. ولكن برغم هذا فإن المؤرخين العرب المحدثين قد قبلوا الفكرة على مضض أو انتقلت إليهم بطريق العدوى على حد تعبير د/ جواد علي الذي قال: (وهي تسمية ليس لها سند من تاريخ وعلم وآثار، ومن العجيب أنها انتشرت بين علماء الغرب وسرت إلى مؤرخي العرب وكتاباتهم بطريق العدوي الاقتباسية المعتادة مع أن تسمية الجنس العربي، واللغات العربية هي على كل حال أصح منها لأن موطن الأقوام التي سميت بها أي الكلدانيين والعموريين والآشوريين والآكاديين والآراميين والكنعانيين والمصريين والأثيوبيين والعرب القدماء، والمتأخرين في جنوب الجزيرة وشمالها والأقطار المتاخمة لها التي نوهنا إلى تشاركها اللغوي والاجتماعي والفكري والديني، وسقنا الدلائل، والأقوال فيه وما ينتج عنه من وحدة الأرومة والمنشأ هو عند جمهرة الباحثين جزيرة العرب . وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن الإطلاق الصريح على سكان شبه الجزيرة العربية بالعرب وعلى الجزيرة نفسها بالعربية وذلك كما يعتقدون بعد ظهور اليونان والرومان ونزول التوراة وتضمنها إشارات إلى العروبة وجزيرة العرب. قال دروزة: ولأن هذه الجزيرة أخذت تذكر باسم العروبة الصريح في كتب اليونان والرومان وأسفار العهد القديم منذ ألفين وخمسمائة سنة، ولأن اسم العرب الصريح أخذ يطلق على أهلها المستقرين في داخلها وتخومها الشمالية جزئياً ثم شمولياً منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك، بل وقبل ذلك على ما تدل عليه النقوش والمدونات القديمة التي سوف نورد نصوصها في الفصول التالية، الأمر الذي ينطوي على الدلالة على أن هذا الإطلاق وذاك كانا رأهنين قبل تدوين المدونات ونقش النقوش، ولأن اللغة التي تكلم بها سكان جزيرة العرب، ومواطن العرب الثانية خارجها منذ أكثر من ألفي سنة هي اللغة العربية الصريحة بقطع النظر عن تعدد لهجاتها وبعدها قليلاً أو كثيراً عن اللغة القرآنية الفصحى على ما تدل عليه آثار وأسماء وأعلام ونقوش السبئيين، والحميريين والتدمريين الذين برزوا في مجال الحضارات والحكم والسلطان داخل الجزيرة وخارجها قبل الميلاد (1) (النقوش المسندية ليست سبيئة أو حميرية أو معينية أو قتبانية أو أو ... إلخ. وإنما هي عادية وثمودية قبل ما يقرب من ثمانية آلاف سنة من تاريخ وجود هذه الدويلات، وما هذا الطرح إلا جزء من التصور القائم والسائد لدى المؤرخين التقليديين الذين يعتبرون أن تاريخ اليمن بدأ مع ما سميت بدولة سبأ بمأرب ودويلات قتبان ومعين وحضرموت وأوسان ..إلخ. وهذا ما حاولنا تصحيحه وإعادة تركيب وترتيب التاريخ الصحيح للحضارات اليمنية في ضوء المعطيات القرآنية، والحقائق الموضوعية، والمكتشفات الآثارية الميدانية والدراسات العلمية والمختبرية الأخيرة). ونعود إلى (دروزة) في تعليقاته على النصوص السابقة إذ يقول: واستمراراً على ذلك الخطأ أو نتيجة له فرقوا بين تاريخ جزيرة العرب وسكانها وبين تاريخ الموجات التي انساحت منها في القديم، وجعلوا تاريخ كل موجة بمثابة تاريخ أمة مستقلة قائمة بذاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.