تعالت أصوات منبه سيارة عربة الشرطة المخترقة شوارع الحي..وسط تعجب المارة..حين توقفت أمام منزل شعبي صغير، وسط غبار متصاعد ..تلصص بعض سكان الحي عند الزوايا والأركان بخوف..هبط عدد من الجنود! عدة ركلات كانت كافية لكسر الباب..ذهول مريب تملكها وشحوب الوجه يرسم معالمه وهي تنظر إلى الجنود من حولها تظاهرت بالإغماء لفت جسدها بستارة لايظهر سوى أطرافها..جنود آخرون قاموا بسحبه دون أن يكمل ملابسه..تلاحقهما أصوات الشتيمة...إنطلقت سيارة الشرطة وسط ضجيج صوتها الممزوج بنظرات سكان الحي..تم نقلها إلى قسم الشرطة..وبعد اجراء التحقيق وجد أنها حامل في الشهر الثالث تبرأت منها أسرتها وهددوها بالقتل...وهي مازالت إبنة الخمسة عشر ربيعاً،تم إيداعها في سجن الأحداث..استقبلتها مشرفة السكن وكأنها بلا عقل..أسئلة عديدة..إستجواب دام أكثر من ساعة..طمأنتها بعدها بأنها ستجد مايسر..خرجت من غرفتها وبعض النزيلات قد تجمعن حولها ..تتلقفها بعض الأيادي تنهال عليها الأسئلة..ومشرفة السكن تهددهن بعدم الاقتراب منها مع تحذيرها منهن...احتلت زاوية في ركن الغرفة التي تكتض بالسجينات..لاتريد الحديث مع أحد،الكثيرات تحرشن بها.. لكن مها ضخمة القامة أنيقة المظهر..تقف لهن بالمرصاد كما أوصتها مشرفة السكن..حاولت التخلص من حملها أكثر من مرة لكن الأقدار تعارض رغبتها..حل المساء..سيارة تدنو من السكن..الظلام شديد..الساعة تعلن التاسعة..جرس الباب يطرب أسماعنا بنغماته..مشرفة السكن تخرج وتعود بعد دقائق بيدها حزمة أوراق نقدية تقوم بعدها..ومن فورها تخرج مها وتلك الفتاة تغمرهما سعادة عارمة..حان وقت العشاء تجمعت السجينات..رفضت الإنضمام إليهن..شعرت بالجوع يلوي أمعائي..إصطحبتني مشرفة السكن إلى غرفتها أحضرت لي أطباقاً مختلفة عنهن..وأجبرتني على تناول الطعام معها..تعذرت بعدم الفهم..مرت أيام تأقلمت مع الوضع..وبعد مرور أشهر قليلة أنجبت إبنتها«نورا»،حاولت قتلها بعد الولادة مباشرة،لكن العيون كانت يقظة من حولها..كانوا لايعطونها نورا إلا أوقات الرضاعة فقط..وفي ذات يوم وهي ترضعها في حين غفلة من الجميع وقد أصبح عمرها أربعة أشهر..لم يفارق خيالها شبح مستقبلها المظلم..سنحت لها فرصة لكي تمتد يداها حول عنقها تطبق الخناق جيداً بقوة وعنف..تريد قتلها..لاتريدها أن تعيش مهانة..أدركت مها ماحدث ..وقالت بصوت مرتفع وهي تنتفض.... أنقذوا نورا من أمها..لقد قتلتها!! هب الجميع لإنقاذ نورا،وتم نقلها إلى المستشفى وهي في حالة غيبوبة..كان لابد من بقاء نورا في المستشفى أياماً تحت الملاحظة،نتيجة ضمور حاد أدى إلى موت أغلب خلايا الدماغ لديها...أثناء ذلك تم الاتصال بأكثر من جهة للوصول إلى شخص يتكفل بنورا ويتخذها إبنة له،أتت الكثير من الأسر...لكن عندما يعلمون بالضمور والعمى..يولون أدبارهم فراراً وقلوبهم تعتصر ألماً مع دعوات وتمني بالشفاء العاجل لها، وعند الاتصال لدار الرحمة لليتيمات تم قبول الطفلة ملتحقة بالدار،حيث كانت لديهم مربية حنونة لليتيمات مقيمة هناك،رق قلبها لنورا، خاصة بعد سماع حكايتها،أخذتها إلى السكن الداخلي،حيث إقامتها مع باقي الملتحقات في الدار،صنعت لها حليباً في الرضاعة الصناعية،لم تستطع البلع....مازالت متألمة من شدة الخنق...بحثت لها عن مرضعة حاولت إرضاعها لم تستجب نورا لها،كانت تعيش في السابق على قرب المغذيات في المستشفى،أعادت المرضعة المحاولة عدة مرات حتى استجابت لها لكن ببطء شديد..وبمرور الأيام تحسنت حالة نورا..تعلق قلب المربية بها...بالرغم من أن نورا لاترى إلا خيالاً..وبعد أن أنهت نورا شهرها التاسع..ذهبت المربية إلى الإدارة لإخبارهم بضرورة تطعيم نورا ضد مرض الحصبة،قالت مديرة الدار. خذيها إلى قسم التطعيم غداً صباحاً واجعليهم يعطونها كل التطعيمات السابقة. هذا لايصح لن تتحمل الألم!! أنت لن تكوني أعلم منهم، أخبريهم وهم يعرفون عملهم وفي صباح اليوم التالي أخذت المربية نورا بين ذراعيها مستقلة سيارة أجرة إلى المستشفى لتطعيمها ، سألتها الممرضة.. هل تشكو من زكام أو حمى؟ لا وإنما لديها ضمور في الدماغ...وتعاني من التشنجات. المهم ليس لديها زكاماً الآن؟ لا ولكن..... أين الكرت الخاص بالتطعيم؟ لايوجد لديها كرت لأنه لم يسبق لها التطعيم من قبل. أووف أمسكي بها جيداً..قامت باجراء ضربات الإبر المشحونة بالعلاجات في أطراف متعددة من جسد نورا بقسوة متناهية وقطراتٍ من العلاج في فمها.وقالت خلاص انتهيت. عادت بها المربية للدار ونورا تغط في سبات عميق نائمة...ظنتها ستنام ساعة أو ساعتين وبعد مرور ساعات طويلة،بدأت علامات التشنج تظهر عليها وتتزايد بسرعة فائقة،إرتدت المربية العباءة والخمار وأخذت نورا مهرولة نحو الإدارة أعطتها السكرتيرة مبلغاً من المال للذهاب بها إلى مستشفى المدينة الخاص للعناية بها،وصلت إلى هناك وهي تتلعثم في الحديث..لم تستطع تمالك نفسها من هول مارأت من تشنجات حدثت لنورا ،أسرع الطبيب بإدخال اجهزة شفط في فمها وتركيب أنبوبة أكسجين وعمل الاجراءات اللازمة أعطاها إبرة منومة حتى تتوقف التشنجات...وتوجه بالسؤال ناحية المربية. ماذا صنعتم بها؟؟ ذهبنا بها إلى التطعيم صباح هذا اليوم،وهذا هو الكرت. ياإلهي..كيف يتم تطعيمها الثلاثي وهي مصابة بالتشنجات،ألم تخبري الممرضة بذلك؟! أخبرتها..لكنها لم تأبه لحديثي،وأعطتها أكثر من تطعيم في نفس الوقت!! عادي إذا لم يكن لديها تشنجات،حتى وإن كانت استخدمت تطعيماً واحداً من الثلاثي كانت ستكون نفس النتيجة. وماالحل؟هل تبقى بدون تطعيم أفضل؟! لا...كان يجب أن تستخدم الثنائي بدلاً عن الثلاثي،يجب التبليغ عن هده المرضة،اذهبي الآن بطفلتك إلى مستشفى السبعين حتى تكون تحت الملاحظة الدائمة في قسم الطوارئ هنا التكاليف غالية. لايهم سيدفع لك دار اليتيمات ماتريد من المال المهم سلامتها. لا لا....النتيجة واحدة هنا أو هناك سأكتب تقريراً بحالتها،وماتم عمله لها من علاج هدية منا كونها يتيمة. ذهبت بها المربية إلى مستشفي السبعين وقد تخطت الساعة العاشرة مساء تحملها ويديها ترتجفان ودموعها تسابق خطاها وصلت إلى هناك إلى قسم الطوارئ، أعطت الطبيب المناوب التقرير عن حالة نورا،وضعتها على السرير... نظر إليها الطبيب ومضى ،جرت خلفه.. ألن تفحصها؟! في وقت آخر حتى تفيق ،لقد تم عمل اللازم لها في المستشفى الذي كانت فيه. مضى يوم وليلة وهي على مقعدها تحركت نورا قليلاً فحصها الطبيب،وحولها إلى قسم الرقود بالداخل حيث أن مرحلة الخطر قد زالت عنها،شعرت المربية بفرحة عارمة..ظلت نورا تحت الملاحظة المستمرة قرابة الأسبوعين حتى استقرت حالتها..خرجت من المستشفى وعادت مع المربية إلى دار اليتيمات..حيث كانت جميع الملتحقات بانتظارهما،صنعوا احتفالاً فرحين بعودة أختهم الصغرى بالسلامة...مرت الأيام وشبح الندامة يطاردني ،حيث أن الضمور لدى ابنتي..زاد بسبب التشنجات التي أصابتها من التطعيم، أدت إلى عدم وصول الدم الحامل للأكسجين إلى الدماغ مما تسبب في موت الخلايا...أصبحت نورا لاتعرف أحداً لاترى ..لاتطرب لسماع أي صوت.. مستلقية على فراشها دون حراك.