أبناء القبطية ينفذون احتجاج مسلح أمام وزارة الداخلية الحوثية للمطالبة بضبط قتلة احد ابنائهم    أب يفقد جميع بناته الاربع بعد غرقهن بشكل غامض بأحد السدود بمحافظة إب .. والجهات الأمنية تحقق    بالصور .. مقتل وإصابة 18حوثيا بينهم قيادي في كمين نفذه أحد أبطال الجيش الوطني في تعز    تحرك نوعي ومنهجية جديدة لخارطة طريق السلام في اليمن    الدوري الايطالي ... ميلان يتخطى كالياري    مفاجأة وشفافية..!    فوضى عارمة في إب: اشتباكات حوثية تُخلف دماراً وضحايا    شاهد.. شخص يشعل النار في سيارة جيب "جي كلاس" يتجاوز سعرها مليون ريال سعودي    القوات الجنوبية تصد هجوم حوثي في جبهة حريب وسقوط شهيدين(صور)    عاصفة مدريدية تُطيح بغرناطة وتُظهر علو كعب "الملكي".    الدوري المصري: الاهلي يقلب الطاولة على بلدية المحلة    "هذا الشعب بلا تربية وبلا أخلاق".. تعميم حوثي صادم يغضب الشيخ "ابوراس" وهكذا كان رده    الحوثيون يطورون أسلوبًا جديدًا للحرب: القمامة بدلاً من الرصاص!    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    إطلاق سراح عشرات الصيادين اليمنيين كانوا معتقلين في إريتريا    بعد فوزها على مقاتلة مصرية .. السعودية هتان السيف تدخل تاريخ رياضة الفنون القتالية المختلطة    كوابيس أخته الصغيرة كشفت جريمته بالضالع ...رجل يعدم إبنه فوق قبر والدته بعد قيام الأخير بقتلها (صورة)    بلباو يخطف تعادلًا قاتلًا من اوساسونا    الاحتجاجات تتواصل في الحديدة: سائقي النقل الثقيل يواجهون احتكار الحوثيين وفسادهم    شاهد:ناشئ يمني يصبح نجمًا على وسائل التواصل الاجتماعي بفضل صداقته مع عائلة رونالدو    أطفال غزة يتساءلون: ألا نستحق العيش بسلام؟    احتكار وعبث حوثي بعمليات النقل البري في اليمن    مصر تحمل إسرائيل مسؤولية تدهور الأوضاع في غزة وتلوح بإلغاء اتفاقية السلام    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    السلطة المحلية بمارب: جميع الطرقات من جانبنا مفتوحة    المبيدات في اليمن.. سموم تفتك بالبشر والكائنات وتدمر البيئة مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    سلطة صنعاء ترد بالصمت على طلب النائب حاشد بالسفر لغرض العلاج    مقتل شاب برصاص عصابة مسلحة شمالي تعز    اختتام دورة مدربي لعبة الجودو للمستوى الاول بعدن    توقعات بارتفاع اسعار البن بنسبة 25٪ في الاسواق العالمية    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    القيادة المركزية الأمريكية تناقش مع السعودية هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية مميز    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل الأمني بمحافظة أبين    اليمن يرحب باعتماد الجمعية العامة قرارا يدعم عضوية فلسطين بالأمم المتحدة مميز    في لعبة كرة اليد: نصر الحمراء بطل اندية الدرجة الثالثة    أمين عام الإصلاح يعزي رئيس مؤسسة الصحوة للصحافة في وفاة والده    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    تأملات مدهشة ولفتات عجيبة من قصص سورة الكهف (1)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قوات دفاع شبوة تضبط مُرّوج لمادة الشبو المخدر في إحدى النقاط مدخل مدينة عتق    تعرف على نقاط القوة لدى مليشيا الحوثي أمام الشرعية ولمن تميل الكفة الآن؟    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    الذهب يتجه لتحقيق أفضل أداء أسبوعي منذ 5 أبريل    وفاة وإصابة أكثر من 70 مواطنا جراء الحوادث خلال الأسبوع الأول من مايو    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    بسمة ربانية تغادرنا    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    رئيس انتقالي شبوة: المحطة الشمسية الإماراتية بشبوة مشروع استراتيجي سيرى النور قريبا    ولد عام 1949    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(بامطرف) ناقداً أدبيّاً
نشر في الجمهورية يوم 19 - 02 - 2007

عرف الناس الأستاذ محمّد عبد القادر بامطرف (1915م 1988م) مؤرّخاً اشتهر بالتأريخ لأدوارٍ من تاريخ (حضرموت) خاصّةً، وقرأوا له كتباً بحالها في ذلك،منها (الجامع)، و(الشهداء السبعة)،و (في سبيل الحكم)... ممّا طُبِعَ ونُشِرَ، وله سواها ما لا يزال ينتظر. ومنهم من عرفه باحثاً في الشعر الشعبيّ الحضرميّ، اهتمّ به من زمنٍ بعيدٍ، وعرّف به أنماطاً وصناعةً وفنّاً.. شعراً ونثراً.. قصائد مسرّحةً أو موشّحاتٍ مغنّاةً أو غير مغنّاة، أو شعراً مرتجلاً في (المدارات)، أو مقاماتٍ نثريّة مسجوعة يقرؤها أصحابها في مجالس بعينها.. وقرأوا له في ذلك أبحاثاً أشتاتاً نُشِرَ منها ما نُشِرَ في مجلّةٍ، وضمّ بعضَها كتابٌ.. ومن أعماله تلك (دراسة تحليليّة للتعريف بصناعة الشعر الحمينيّ وأغراضه)، و(نظرات تحليليّة في الأمثال اليمنيّة العاميّة)، وهما منشورتان في كتابه (التراث وصناعة الشعر). و(المقامات الشعبيّة في مجالس باحسن)، وهي منشورةٌ في كتاب (باحسن الرائد الفنّان).. وله سوى ذلك ما لا يزال مخطوطاً ينتظر حظّه من النشر ليذاع في الناس، ويُدْرَك شأنه ومقامه ككتابه متعدّد الأجزاء (الشعر الشعبيّ الحضرميّ فنٌّ وصناعةٌ)، و(الهاجس والحليلة) وغير ذلك ممّا خلّف الأستاذ الشيخ في هذا المجال من آثار. ونحن لن ننسى في هذا المقام كتابه (الميزان) الذي سعى فيه إلى وضع قواعد تُضْبَطٌ بها الأشعار الشعبيّة، وتُدْرَكُ بها أوزانها، مستلهماً طرائق الشعراء الشعبيّين في ضبط عروض ذلك الشعر، ومستفيداً من نهج (الخليل بن أحمد الفراهيديّ) في صناعة علم العَروض وتحديد أوزان الشعر العربيّ. وهي محاولةٌ للشيخ غير التي يجدها المرء في كتابه (التراث وصناعة الشعر). ولعلّ في الناس من لا يزال يذكر للأستاذ الشيخ مقالاتٍ كثيرةً كان ينشرها في صحفٍ سيّارةٍ (كالرائد) و(الطليعة) يحلّل فيها مواقف سياسيّة، ويستلهم فيها (وحي الأحداث) ممّا يدخله في دائرة التحليل السياسيّ المحض. وله في كتابة السيرة الأدبيّة إسهامٌ ظاهر ككتابه عن (المعلّم عبد الحقّ)، وكتابه الضخم كما يذكر العارفون الموسوم ب(شخصيّات لا تنسى)، كلّه تراجم لعددٍ من الشخصيّات التي عرفها أو قرأ عنها ثمّ ترجم لها مثلما حلا له. وهو إلى ذلك كلّه مؤلّف مسرحيّاتٍ وقصصٍ وبعضِ شعرٍ شعبيٍّ.. لكنّه لم يجلِّ فيها كما جلّى في سواها من مجالات العطاء الفكريّ. صفاتٌ كثيرةٌ متنوّعةٌ يشملها عاملٌ جامعٌ هو (الثقافة) في تنوّعها الخصب المثمر. ومن هنا صحّ أن توسم شخصيّته الثقافيّة تلك بأنّها واحدةٌ من الشخصيّات التنويريّة التي تتسم بالتعدّد في عطائها الفكريّ، واهتمامها المعرفيّ.. وحتّى هذا التفاوت في قيمة هذا العطاء الفكريّ سمةٌ من سمات تلك الشخصيّة التنويريّة، وواحدةٌ من خصائصها. وإنّ في تعدّد مشاغل الأستاذ الشيخ الثقافيّة، واهتماماته المعرفيّة، وتنوّع عطائه الفكريّ دعوةً لذوي الاختصاص للانشغال بما يهمّهم من تراث الرجل، لدرسه والتعريف به، كلٌّ على حسب ما يعلم ويختصّ. ومن هذا المنطلق أتحدّث عنه (ناقداً أدبيّاً). ولعلّي أعلم أنّهم قليلون أولئك الذين يعلمون أنّ الأستاذ الشيخ ناقدٌ أدبيٌّ يصدر في نقده عن منهجٍ معدودٌ ومذكورٌ في مناهج النقد الأدبيّ المذكورة. وإنْ كان في بعض هذا القليل مَنْ لا يزال يذكر للأستاذ الشيخ صولاتٍ وجولاتٍ كرّ فيها وفرّ في عددٍ من صحفنا السّيّارة آخر الخمسينيّات وأوّل الستينيّّات من القرن الماضي. وكلّها تدور في نقد الشعر وتقويمه ومحض الرأي فيه. وهو ما تسعى هذه الأسطر إلى التعريف به، والتذكير بآثاره، أداءً لحقٍّ مفترضِ الأداء، ونهوضاً بواجبٍ لا بدَّ من النهوضِ به. على أنّه تجب الإشارة قبلُ تبياناً لدور الرجل في هذا المجال إلى أنّ (حضرموت) لم تعرف قبل كتابات الأستاذ الشيخ نقداً أدبيّاً مكتمل الرؤية والأداة، وإنْ عرفت وهجاً شعريّاً متطوّراً متصاعداً قبله وبعده. ولم تزد محاكمو الآخرين لأعمال الشعراء على حدّ الإعجاب المفرط، والفرحة المبتهجة بقصيدةٍ ينشرها شاعرٌ، أو ديوانٍ يخرجه للناس. أمّا التقويم والتحليل فليس له وجودٌ. حتّى رسالة (عبد الرحمن بن عُبيد اللاه السّقّاف) في نقد (شوقي) تشي من عنوانها بعدم نضج الإدراك بمعنى النقد ومناهجه، وهو (النقد العلميّ الذوقيّ في نقد شوقي)، وأنّى لهذين المصطلحين (العلميّ) و(الذوقيّ) أن يجتمعا في إطارٍ واحدٍ، وهما متباينان تبايناً ظاهراً على مستوى النظريّة والإجراء؟ لكنّه (السجع)، والحرص عليه. وإنّ من أسباب عدم ظهور النقد في حضرموت في ذلك الزمان انعدام المنابر المسعفة على ظهوره كالصّحف السّيّارة التي لم تُعرف إلاّ في زمنٍ متأخّر. حقّاً كان بعضهم يحرّر صحفاً مخطوطةً باليد كصحيفة (الإخاء) التي كانت تصدرها جمعيّة الأخوّة والمعاونة في تريم حوالي عام 1938م وبها بعض مقالاتٍ أدبيّة لكنّها كانت محدودة الانتشار، وقصيرة الأجل.. فضعف أثرها، إنْ لم ينعدم. أضف إلى ذلك الجهل بنظريّات النقد الأدبيّ الحديث، وكلّها مستوردٌ من آدابٍ أجنبيّة لا يعرفها أهل هذه البلاد مباشرة، وإنْ عرفها بعضهم صَعُبَ عليه استساغتها وتذوّق ما بها من روعةٍ وجمالٍ.. فاقتصت مكوّناتهم الثقافيّة على شعر العرب الأوائل, وبعض ما خلّفه نقّادهم من كتبٍ في البلاغة والنقد كالعمدة، والمثل السائر، والطراز، ومعاهد التنصيص... وما أشبه هذا وناظره من كتبٍ. ومن هنا بدا الأستاذ الشيخ متميّزاً من سواه من الأدباء والكتّاب في زمانه. فإنّ له منهجاً غير الذي ينهجون، وطرائق في التقويم والتحليل غير التي يعرفون،وقد راد مناهل معرفيّة فوق التي كانوا يردون، فنال من العلم بالأدب والنقد منالاً لم ينله الآخرون. 2 وللأستاذ الشيخ مقالاتٌ أشتاتٌ في نقد الشعر وتقويمه لم يضمّها كتابٌ بعد، وإنْ حُفِظت مخطوطةً، وهي تشي بنظراته وآرائه في النقد. وهو يصدر فيها عن (نظريّة التعبير) التي ترى الشعر جلاءَ ما في الوجدان، وتحكم على الشاعر بمدى قدرته على الكشف عن خلجات نفسه، والتعبير عن الذات بصدقٍ ليتصل بالإنسان من حيث هو. فالشاعر عنده هو مَن يسهم مساهمةً جليلةً (في إضفاء الرونق الخلاّب على ظواهر معيّنة من الحياة الإنسانيّة بما اتصفت به من حلاوةٍ ومرارةٍ، وضعفٍ وقوّةٍ، وأملٍ وألمٍ، وحقيقةٍ ووهم،وجفافٍ ورواء)1.أي أنّ الشعر على ذلك تصويرُ الخلجات الدقيقة، وتجسيم الانفعالات التي تعتمل في الذات خافيةً، وتجسيد (الإنسانيّ) من حيث هو ملتقى البشريّة في تفاعلها مع الحياة.. حتّى وإنْ صغُر شأناً، وضؤل هيئةً، وفاض بساطةً، لما في ذلك من أثرٍ عميقٍ في النفس، وباعثٍ عنيفٍ للانفعال والتفاعل. قال: " إنّ مهمّة الشاعر ليست مدحاً وفخراً ورثاءً ونسيباً ووصفاً وغير ذلك من ألوان الشعر المتداول يقوله الشاعر كيفما اتفق... ولكنّ مهمّة الشاعر استنباط المعاني والتعابير الصحيحة لخدمة الذوق والفكر والجمال"2. وعليه فإنّ صدق الشاعر يكمن في الإحساس بالوجود، وتمثّل التجربة الشعوريّة على أصفى ما يكون عليه التصوّر وأصدقه، وصدْقُ الشاعر كامنٌ في التعبير عن ذلك الإحساس تعبيراً يشفُّ عمّا يعتلج في الوجدان، ويصل الشاعر في أيّ زمانٍ وفي أيّ مكانٍ بالإنسان من حيث هو في كلّ زمانٍ ومكان. وإنّ شعراً على تلك الصفة لهو الشعر الإنسانيّ في نظره. هي إذاً دعوةٌ لتجاوز القشور إلى اللباب، وتخطّي البهرج الزائف إلى الجوهر الفذّ، ومن هنا لا بدَّ للشاعر من التأمّل الثاقب، والتروّي في تخيّر الجزئيّات التي تشي بجوهر الإحساس بطبيعة الوجدان. بيد أنّ الشعراء ليسوا سواءً في الإحساس بهذه القضيّة وتمثّلها. فهم في عالم الإبداع أشتاتٌ، ولهم مذاهبُ..ف( مذهبٌ يدعو إلى الأصالة في الشعر، ومذهبٌ يدعو إلى استباحة المناهل المطروقة. مذهبٌ يدعو إلى سيادة الطبيعة الشاعريّة، ومذهبٌ يدعو إلى المسخ والترديد. مذهبٌ يدعو إلى التوليد والابتكار، ومذهبٌ يدعو إلى التقليد والعكوف على منبوذ الشعر وسخيفه. مذهبٌ يدعو إلى التعبير الصّادق عمّا يعتمل في نفس الشاعر من أحاسيس، ومذهبٌ يدعو إلى أنْ يصف الشاعر وأن يمدح وأن يرثي على أساسِ المواصفات في العرض والطلب. مذهبٌ يدعو إلى الشعر الخالد، ومذهبٌ يدعو إلى المنظوم من القول ولو كان قد أصبح ذلك المنظوم أثراً تاريخيّاً ولم يعد أثراً أدبيّاً قريب الصلة إلى الشاعر وعصره وبيئته وثقافته)3. وهو ولا شكَّ من أنصار المذهب الأوّل ودعاته. لذلك تراه يهتمّ في نقدِهِ قصائدَ الشعرِ على (الأصالة الشعريّة، وصدق الإحساس). وعنده أنّ التفاوت بين الشاعر الموهوب والشاعر المقلّد يكمن في القدرة على تصوير أحوال الحياة كما يتجاوب الشاعر مع أحداثها بالقدْر الذي تؤهّله موهبته الفنّيّة لذلك التجاوب وذلك التصوير. من هنا تراءى الأستاذ الشيخ في نقده الأدبيّ تابعاً أميناً لأقطاب حركة النقد الرومنسيّ في الأدب العربيّ الحديث، وأخصّ منهم عبّاس العقّاد من جماعة (الديوان)، وميخائيل نعيمه من جماعة (المهجر). فهو يصدر في منهجه عن المنهج الذي صدرا عنه في نقدهما أعمال الآخرين الشعريّة، وشغله من القضايا ما شغلهما يوم كان للنقد في فؤاديهما مقامٌ عظيمٌ. وفي عبارته ما في عبارتيهما من صفاءٍ وإشراقٍ، وإلى ذلك ففي نقده ما في نقدهما من حِدّةٍ وانفعالٍ وصدقٍ. فلقد يشتطّ كما اشتطّا، ويبالغ في تطلّبِ المثال كما تطلّباه، ولقد ينشغل بما في ذهنه عن تلمُّسِ ما في النصّ من خصائصَ كما كانا يفعلان تماماً بتمامٍ. ولقد تعلّم منهما كثيراً من الآراء، وطرائق الأداء. فآمن بما قالاه واعتقد، ومضى يتحقّق، ويقْبَلُ ويردّ، ويرضى ويسخط، ويستسيغ ويعاف على هدىً من هذا المبدأ أو ذاك ممّا قرأه عند ذينك العَلَمين الكبيرين في هذا المجال. فما وافق مذهبهما أدناه من نفسه وأنزله مقاماً عليّاً، ودافع عنه مستميتاً. وما خالفه نأى بنفسه عنه، وهاجمه في ضراوةٍ وقسوةٍ. وليس يضيره ذلك شيئاً ما دام قد أخلص لما رأى، وأجاد عرضه. غير أنّه وإنْ ردّد في مظانّ كثيرةٍ من مقالاته النقديّة كثيراً من آراء ذينك العلمينِ لا يشعرك أنّه ناقلٌ عنهما، أو أنّه صدىً مردّداً لأصواتٍ محكيّة.. وإنّما هو يصدر في ذلك عن أصالة نفسٍ، واستقلال رأيٍ، وثاقب نظر. وهذا عائدٌ إلى نضج شخصيّته الثقافيّة، واستقامة فهمه للحياة وتكامله بعد أنْ تعدّدت تجاربه الفكريّة والمعيشيّة.. ناهيك بما لاتقانه استعمال اللغة الانجليزيّة من أثرٍ على ذلك.فقد تهيّأت له بذلك فرص الاطّلاع على مصادر الأفكار النقديّة التي متح منها ذانك العَلَمان وأصحابهما، ونلوا منها أعذب الماء وأطيبه. وهو لم يعمد في نقده إلى التنظير والتشريع مكتفياً بما صنع الآخرون، فانصرف بكلّ جهده للنقد التطبيقيّ، وحسناً فعل. وكانت غايته من الإسهام في النقد أن يبني مع معاصريه كياناً أدبيّاً يتعاظم مع الأيّام، كلٌّ جهدَ مستطاعه. بيد أنّه كان أكثرَهم تطلّباً للكمال لأنّه ناقدٌ ومعظمهم من الشعراء. فهم يسعون جهد الطّاقة لبناء جديدٍ في الشعر، وهو يحاول حاثّاً أنْ يصل بهم إلى أرقى الدّرجات, وأعلى مصافّ. من هنا تتراءى الهفوةُ منهم زلّةً لا تغتفر, وتبدو القصيدةُ الضعيفة في شعر شاعرٍ منهم جريمةً نكراء، أو خطيئةً فاضحةً لا يجب أنْ تنسب لهذا الشاعر ممّن يحبّ من الشعراء. هكذا يمكن فهم نقده العنيف والقاسي لقصيدة الشاعر حسين بن محمّد البار في رثاء السيّد محسن بونمي في مقامٍ، ولقصيدتي الشاعرين صالح بن عليّ الحامد، وحامد بن أبي بكرٍ المحضار في رثاء السيّد مصطفى بن أحمد المحضار في مقامٍ آخر.ومنبع القسوة في نقده الحرص لا الخصومة، والمحبّة لا العداوة، والرغبة الأكيدة في ألاّ يشذّ في البناء حدٌّ، ولا يخرج عن اللحن المتناسق صوتٌ نشازٌ. وتلك نظرة مثالية.وإلا أنًّى له الشاعر الكامل الذي لا يقول إلا محكماَ من القول ؟ (والبامطرف) - كأمثاله من ذوي الاتجاه الرومانسي في النقد الأدبي - يرضى عن القصيدة ينظمها صاحبها (مدفوعاً بعاطفة)، ويسخط على القصيدة ينظمها صاحبها( مدفوعاً بحب النظم لا غير). وهو لا يعترف - مثلهم - بأنّ من الشعر ما ينشئوه صاحبه لغايات اجتماعية لها بواعثها، ومسوغات في ضمير الشاعر وعقله، ولقد يجلًّي الشاعر في كثير من تلك المواطن، ويُحكِمُ الفن ويجيد الأداء، فالعبرة ليست بالباعث على القول ولكن بالقول نفسه، وما استكن فيه من روح شعرية
وقوة خلق وإبداع. وعمدةُ (البامطرف) في الحكمِ على الشعراء وتقييم شخصياتهم الفنية حظوظُهم ( من صدق التعبير، وقوة التخيل، وفيض الشعور، وسلاسة القول، وسرد النواحي الإنسانية)4ومن هنا صحَّ له أن ينقد ( الحامد) و (المحضار) حين عرض لقصيدتهما في رثاء (مصطفى المحضار). قد رأى فيهما شيئاً من المبالغة في الحزن، والإفراط في البكاء، وتهويل الحدث، ولم يرقه ذلك، بل رآه وسيلة يحجب بها الشاعر أبصار الآخرين عن خواء قصيدته من الإحساس بالحزن الصادق، والألم اللاذع الممضّ لفقد المرثي. وهو ما يدل على تجربة صادقة، وانفعال حقيقيّ بالحدث. قال : (لقد كان شعر الحامد و المحضار هنا أقرب إلى شعر الصنعة المتكلفة منه إلى صدق الخيال السليم الخالي عن البهرج وكثافة التلوين. ماذا على الحامد لو ترك الليل والدراري واللهيب والسماء والنجوم ونظر إلى سعة النفس البشريّة، وما انطبع عليها من حزن عميق ؟ ما ذا عليه لو ترك تلك العوالم التي لا تحزن لفقد مخلوق ولاتسعف بالتأسي قلباً فقد عزيزه، ونزل إلى ساحة الأهل والأصدقاء الذين تقاس الخسارة في المرثي بقدر ما ينطبع عليهم من لواعج الحسرة ووحشة الترمل واليتم وعدمان النصير ؟ بل ما ذا على المحضار لو أراح نفسه من الحشر والجموع المتدفقة كالسيل المحوقلة عبرى ملاء الحناجر، وأراح القارئ من الوادي الصارخ، وتجرد عن كل هذا لينظر إلى حقائق أخرى أكثر نفاذاً منها وأعمق تأثيراً في النفس البشرية؟)5. لذلك تميزت قصيدة (الشاعر حسين بن محمد البار ) في رثاء مصطفى المحضار في نفسه من تينك القصيدتين.(ولو قلنا إن دقة التصوير مع تجنب المبالغات الجوفاء، ووصف الصدمة التي تهزّ الشعور الإنسانيّ الحصيف عند نزول المحنة، وسبر ماكانت عليه القلوب قبيل وفاة الفقيد من أمل كبير في شفائه وإبلاله من مرضه قد توفر في شعر (البار) في قالب شعريّ جذَّاب لما جانبنا الصواب) 6. وهذا يفضي بنا إلى عرض مسألة أخرى تتصل بطبيعة النقد الأدبيّ في كتابات الأستاذ الشيخ، وأعني بذلك أنّه يصدر في نقده عن ذوقه وتأثره الانطباعي. فما راقه من أبيات الشاعر وأعجبه يكون سبباً في إعلاء منزلته ورفعة مكانته في نفسه، وما لم يرقه من أبيات الشاعر ولم يعجبه يسفل مكانته ويسقطه من حسبانه. فالشاعر حامد بن أبي بكر المحضار - وقد مَرّ بنا ذمّه ما لمسه من مبالغة في القول لا تروقه - يعود إليه في موطن آخر من القصيدة فيقع على ما يسرّه فإذا هو ( على أروع ما يكون عليه الوصّاف الصادق الذي يعطي الصورة الصحيحة حقها من السلاسة والغزارة المعنوية، ويعطي الشعر تلك القوة الوثّابة من حسن السبك وجمال العرض)7. هكذا يستقيم للأستاذ الشيخ معياران يقيس بهما الشعر، ويحكم بهما له أو عليه، وهما أداتُه في تقييم الشعر والشعراء وتقويمهما.. أوّلهما ما يتوفر في القصيدة من تجربة إنسانية يعبر الشاعر عنها تعبيراً صادقاً وجميلاً. وثانيهما ما يقبله الذوق من ذلك ويستسيغه. وهو - على أية حالة - ذوق أخصبته قراءاتٌ موسّعةٌ، وجملةٌ من المبادئ التي تمكِّن صاحبها من الاستبصار السليم حين قراءة القصيدة، والحكم لها أوعليها على حسب ما ينطبع في النفس من إعجاب ورضى، أو سخط ونفور. 3 ومقالات الأستاذ الشيخ تنبئ عن جملة من القضايا النقدية التي شغل بها، وامتلأت بها نفسه فعرضها على قرّائه صفحاتٍ يطالعون فيها ما تهيأ له من آراء ومفهومات. وإنها لعديدة. وحسبي هنا أنْ أعرض منها ثلاثاً. مفهوم الشعر : درج القوم - تمثلاً للموروث - على اعتبار الشعر كلاماً موزوناً ومقفّى يدلّ على معنى. وهو تعريف للشعر بأبرز عناصره الظاهرة لا غير. ولكن ماذا عن (الصورة)، وعن (المضمون الفكريّ)، وعن (تخيّر المفردات وانتقائها)، وعن (تشكيل النص)... إلى آخر ذلك ؟ أمورٌ لم تكن تجري لهؤلاء في حسبان. وهو مفهوم للشعر بلي وابتذل حتى صار منقصةَ من يلتزمه ويدعو إليه. ومن هنا صح للأستاذ الشيخ أن يفارقه، ويسعى لتمثل مفهوم آخر غيره، هو أكثر جدةً، وأدنى صلةً لروح الشعر وجوهره العميق. فإذا الشعر تعبير عن (ظواهر معينة من الحياة الإنسانية بما اتصفت به من حلاوة ومرارة، وضعفٍ وقوة، وأمل وألم، وحقيقة ووهم، وجفاء ورواء)8. وهو (تحليق طليق في آفاق الشعور والوجدان ). والشاعر لا يقوّم في نظره بعمق تأملاته وخواطره الشعرية، ولا بترفقه في استقصائها أو سرعته في ذلك، وإنما (المعوّل هنا هو على الكيفيّة التي يعرض بها الشاعر تلك التأملات والخواطر). ويقول : (إننا إذ نطالب الشاعر بالنظرة الفاحصة المتعمقة لا نجهل أن هناك بوناً شاسعاً بين شاعر لا يخضع إلا لحافز شعوره، وبين فيلسوف يهيم في بيداء الحدس البديهي، وبينه وبين عالم يبتغي البرهان الوثيق في عالم الشهادة وفي ميدان الاختبار الصحيح. وإننا أيضاً لا نفترض في الشاعر أن يكون صاحب نظرية كاملة في تدبير حياة الناس، ولكننا نكتفي منه باستلهام خواطره من صور دنياه على أن تحمل تلك الخواطر شخصيته وطابعه وأصالته )9. والغاية من قراءة الشعر عنده هي البحث عن الإنسان (أيّ إنسان حيّ الشعور جمّ الإحساس في أيّ زمان ومكان)، على أنه(ليس بالإنسان الأسطوريّ، ولكنه إنسانٌ منتمٍ إلى واقع الحياة )10. وعنده أن ما للشاعر من حساسية خاصة (تطبع على لوحات مشاعره حركات الحياة الإنسانية بما فيها من مفارقاتٍ وتناقض). و(بمثل هذه الظّلال والألوان الشاعريّة يخترق الشاعر الملهم حواجز الحضارة والجنس والإقليم، ويصبح شعره همزة وصل بين البشر قاطبة يرويه لأنفسهم كما يحبّون وكما لا يحبّون) 11. وظيفة الشعر : للشعر غايات، لكن الإحساس بمعانيها يتجدّد في كل عصر تتجدّد فيه معاني الحياة، وطرائق التفكير، وتنوّع الغايات. وقديماً سهل على الأولين تحديد الغاية من الشعر منظومة في مقولة الأغراض. لكنها نظرة قاصرة، وإحساس بالشعر لا يكاد يتجاوز السطح إلى أقرب عمق. ومن هنا كانت الثورة عليه حين أقبل الرومانسيون بنظرياتهم في الشعر، وغدت للشعر وظيفة واحدة هي (التعبير عن الذات )، وأضحى الشعر وجداناً ولا غير. فاتسع المدى، وصارت الحياة كلّها بما تعجّ به من متناقضات مجالاً للقول، ما دام للحياة أثر في النفس، وتأثير على الإحساس. من هنا ( كان الشعر الرفيع أداة تعبير يفتح بها الشاعر لمن يتذوقون الشعر من البشر نافذة تطلّ بهم على الأمل والمجد حين تعصف بهم هزات اليأس وتستغرق أرواحهم متلفات الهزيمة)12. والشاعر مفزع أمته، إليه تلوذ كلما حزب خطبٌ أو ادلهمّ ليلٌ. ومكابدة الإنسان في مجتمعه ( مصدر إيلام للنفس الكريمة، وذكرى ماثلة للتملّي والتفكير أحرى أن يجد فيها الشاعر المصدر الزاخر للتصوّر وحثّ الهمم على الإصلاح كما ينبغي أن يجد فيها رجل الاجتماع ورجل السياسة المصدر الزاخر للتقويم والإثارة والعمل ). لكن ( الشعراء هم أكثر الناس تأثراً بواقع حالهم في مرارته أو حلاوته، وتقع عليهم مسئولية التبصرة لمن حولهم، وإلا :- فما انتفاع أخي الدنيا بناظرة *** إذا استوت عنده الأنوار والظلم ؟)13. وهيهات ذلك. هكذا تتسع وظيفة الشعر في إحساس الأستاذ الشيخ، ويتسع مفهومها في نفسه. فإذا هو يتلمس في الشعر مشكلات غير التي تلمسها سابقوه من قبل. وأصبح الحديث عن مشكلات اجتماعية، أو أبعاد سياسية أو غير هذه وتلك من القضايا محور اهتمامه. وأصبح الشعراء في إحساسه قادة في مجتمعاتهم يقودونها إلى مظانّ الحق والخير والجمال، إلى روابي الخصب والنماء، إلى قمم العدالة والشهامة والمثل العليا. وكلّ شاعرٍ فذٍّ عملاقٍ لا بدّ أن يكون زعيماً في مجتمعه، يصلح فيه ما فسد، ويعمر منه ما تخرّب.. ويصوغ له ألحان المجد إشادة وذكرى إمّا بنى عظيما وشاد. وهو يصدر في ذلك عن إحساس صادق وشعور حيّ بالحياة. وعلى هذه الصورة يكون الشعر فاعلاً في المجتمع، ويكون أداة بناءٍ وتعمير، ويتراءى ( الشاعر صاحب رسالة شأنه شأن كلّ فنّان أصيل في الرفع من شأن الذوق السليم والحثّ على الحياة الكريمة)14. وممّا يتصل بهذه القضية عنده حديثة عن الصدق الفنيّ في الشعر. فهو يراه مطابقة المنطوق للمصدوق. فالشاعر الذي يقول ما يعتقد حتى وإن خالف الآخرين وشذ عنهم أصدق ممن يقول ما لم يعتقد، فذلك هو الكذب الصراح. يقول : ( لقد يحمل ذمّ الدنيا محمل الصدق عند من يرى النفور من الدنيا سعادة لا بعدها سعادة. ويكون المرء حينذاك منطقيَّاً مع نفسه فقط، لكنه يصبح مغالطاً لواقع الحياة إذا بَشّر بهذه النظرة كمبدأ جدير بأن يسير الناس على هدية)15. هو إذاً صدق واقعيّ، صدق ما هو كائنٌ لا ما ينبغي أن يكون. وقلّما يتجلّى الشعر على تلك الصفة وذلك الحال. بقي أن أقول إن الأستاذ الشيخ كفّ عن النظر في شعر العربيّة الفصحى يخرجه شعراء من حضرموت من منتصف السينيّات حتى آخر عمره، وولى وجهه شطر الشعر العاميّ الملحون يبحث فيه شكلاً ومضموناً. وهذا عائدٌ إلى أن الشعر العربي الفصيح في حضرموت خاصة قد خبا وهجه منذ ذلك العام أو بعده قليلاً.. وأن ما تلا ذلك من شعر العربية الفصحى هو أدنى شأناً، وأقل مكانة من أن ينشغل به ناقد ذو باعٍ طويل في تأمل الجمال وتلمس مظانه وتذوق مظاهره في الشعر. لذلك آثر الانصراف بسلامة على ولوج عالم لا يذاق ولا يستساغ. وهذه مسألة تسلمنا إلى الحديث عن القضية الثالثة من قضايا النقد في كتابات الأستاذ الشيخ. الموقف من الجديد: وهنا يبدو لنا موقف للأستاذ الشيخ عجب، وإن لم يكن فيه نسيج وحده كما يقولون. فما أكثر من فعلوا فعله، وصنعوا صنيعه في موقفهم من الجديد. والجديد المقصود هنا هو(شعر التفعيلة ) كما أظهره شعراء العربية في العصر الحديث. فقد وقف الأستاذ الشيخ منه موقف العداء الصارخ، ورفضه رفض غاضبٍ يخشى على سامٍ من الابتذال، وعزيزٍ من الضياع. فحمل قلمه يهاجم كلّ قصيدة ينظمها صاحبها على هذا النمط من أنماط القول، ويصفها بأشنع الأوصاف وأقبح النعوت، فهي (ضرب من الهذيان) و(عجز عن الارتقاء إلى الوضوح والتأثير، وإن لم نقل إنه انتكاسٌ عن جادة الفن الشعريّ الرفيع والمكانة الأدبية السليمة بوجه عام). والشعر الجديد كله هراء، إن مررنا به ( مررنا مسرعين لا نملك غير التقزز منه لأنه انحراف بيّنٌ مُنِيَ به الشعر العربيّ على ألسنة العجزة من المتشاعرين).16 وإنّ به حرصاً على الإحاطة بكلّ مضامين القصيدة وإدراك أسرارها معنى ومبنى، حرصاً يدفعه إلى رفض ما استعصى عليه ذوقاً وفهماً فيردّه إلى( العجز عن قول الشعر) فهو الذي يدفع بالشعراء( إلى كل هذا التمحّل، وإلى هذا النوع المرزي من الإحالة في المعاني ليبرروا به العجز ويستروا به مركّب نقصٍ أضناهم وأقضّ مضاجعهم. فعلى هذه القاعدة من التعمية والعبث يكتب هؤلاء ويرصّون الكلمات والجمل رصّاً)17. ومن هنا فإنّ قياس هؤلاء الشعراء على من تقدّمهم من عمالقة الشعر العربي كامرئ القيس والمتنبي عقوق لأولئك العمالقة.. وهو كمن يفاضل بين أكواخ متآكلة مظلمة وقصور شامخة مضيئة. (وذلك هو التنكّر للأدب في صميم مفهومه ومؤدّاه)18. ويجمل رأيه في ذلك الشعر بقوله : (لقد قال أبو الطيب منذ أكثر من ألف عامٍ (قد أفسد القول حتى أحمد الصمم) وكان أمامه حينذاك أبو فراس الحمداني ومن هم في مرتبته من فحول الشعراء العرب يتلقّون ضرباته الجارحة في ثباتٍ وعنادٍ. فماذا سيقول أبو الطيب يا ترى لو أنّ زمنه امتدّ به حتى يسمع من أفواه المخبولين رموزاً ألبست رغماً عنها ألبسة الدجل والشعوذة، وقذف بها في حلبات البيان لتجد نفسها هناك دخيلة يتقزز منها القول السديد والفكر؟)19. سؤال لم يجب عنه الأستاذ الشيخ ظنَّاً منه أنّه حجةٌ يَجْبَهُ بها خصومه، فيلجمهم. وهيهات.وإذا جاز لي أن أجيب، فإني أقول إن المتنبي لو امتدّ به زمنه حتى يشهد حركة الشعر الجديد سيبارك ما صنعه أصحابها، لأنه شاعر يعرف مداخل القول، ومن أين مضايقه، وكيف تتنامى خصائصه وتترامى أبعاده. وما تلك النغمة في قوله ( قد أفسد القول حتى أحمد الصمم) إلا نغمة الزهو والاعتداد بصنيع الذات، والمباهاة بما أبدعه الشاعر الذي يظنّ في نفسه ما لا يظنّه في سواه. وهي (شنشنةٌ ) يعلمها الناس عن (المتنبي) على جليل قدره. أما الاستاذ الشيخ فناقدٌ ذو معايير نقدية معيّنة، ما وافقها من القول والنظم أرضاه وأطربه، وما خالفها منه أسخطه وأغضبه. وليس للأمر في حسبانه حالٌ ثالثة. وليست المسألة كما حسب وظنّ. وإنّ العجب ليستبدّ بالمرء حين يوازن بين نزعات الشيخ
التجديديّة في تحرير الشعر من أسر الكلاسية الاتباعية، والدعوة إلى تجديد الشعر مبنى ومعنى، شكلاً ومضموناً، صورة ومحتوى. وبين موقفه من الشعر الجديد الذي لا يستطيع عاقل منصف أن يدفع عظيم ما أنجز، وجليل ما حقّق في تاريخ الشعر العربي منذ آمرئ القيس حتى أحمد شوقي. ولعلّ الأستاذ الشيخ لو تروّى وتأمّل، وجَدّ في الإخلاص لأدرك من الحقيقة ما لم يمكّنه انفعاله الحادّ وحدّته المنفعلة من إدراكه، ووعى من أسرارها ما لم يع. لكنه كان(كالعقاد) في موقفه العنيد والحادّ من الشعر الجديد، وكان في مقدوره أن يتجاوزه، ويصنع مثلما صنع(نعيمه)في موقفه الواعي من ذلك الشعر. وإنَ موقف الأستاذ الشيخ المشتطّ من الشعر الجديد معلولٌ علتُه نفسية. فهو- وقد ولج النقد من باب الثقافة لا الاختصاص حتى تراءى هاوياً في مجالٍ له رجاله المختصون والمخلصون - اكتفى بما حصّل منه، ولم يُعَنِّ نفسه بتطوير مواقفه ورؤاه، ولا بتجديد أدواته وإجراءاته النقدية، فصدمه ما عرض له من قولٍ جديد لم يألفه في ما عرف من شعر.. وأقلقه أن استعصى ذلك القول على أدواته التي تقاصرت عن فكّ رموزه، وتكشّف أسراره وخفاياه، فعافه ولم يستسغه، ومضى يهاجمه، وينثر القول فيه غليظاً جارحاً. وإنها لثورة العاجز يأبى الاعتراف بعجزه، وقد شهد له الآخرون بالقوة في قديم الزمان. لكن صاحبنا يأبى إلا أن يسوّغ هذا الإحساس في نفسه بكثير من العلل الموضوعية، فكان الحديث عن قصور الشعراء في الإحاطة باللغة، والاتهام بالتعمية والغموض، والمروق من الدين، ومعاداة العروبة وتاريخها، والنقل من الآداب الأوربية، وفرض نمط من القول لا يلائم العقل العربيّ المسلم... وما إلى ذلك. وليس الأمر كما زعم الأستاذ الشيخ، وإنما هي حالة نفسية ولا غير. وقد كان في مقدوره أن يواكب حركة هذا التجديد الشعريّ كما واكب حركة التجديد الرومانسي، ولكن تلك عملية صعبة، ونشاط عقلي دونه كثيرٌ من الجهد والدأب والمتابعة الواسعة الشاملة.. والعمر قصير.. والاهتمامات متنوّعة ومتكاثرة.. وحسبه ما نال من قبل، ولا قدرة له على مزيدٍ من المعرفة بهذا الشعر أو العلم به، ثم لم يلبث إلا قليلاً فهجر النقد الأدبيّ وممارسته مكتفياً بما أنجز، وفتح له (علم التاريخ) أبواباً فلاذ به غير مكترث بما ضيع على جليل قدره.. وعظيم شأنه. 4 تلك إذن صورةٌ مختصرة لطبيعة النقد الأدبي في كتابات الأستاذ الشيخ، ومنهجه، وقضاياه. وإنّ له في قراءة الشعر ونقده طرائقَه.. وهي لا تشذّ عن طبيعة منهجه الذي آثر وارتضى. فهي تنبع منه، وتفيض عنه. فتراه تارة ينظر إلى الشعر على أنه مطابقة لشخصية الشاعر وانعكاس لها، ومرآة صادقة تشف عن كل خلجاته، وذبذبات نفسه وأحداث حياته.. حتى( إذا ما أردنا أن نتخيل رحلة شاعرية في أجواء الشعر الأصيل لشاعرنا فإنّنا سوف نجد أنّ لدينا المادة الكافية من شعره السهل الرصين تعطينا فوق ما نريد ) 20. ويمضي من بعد ليقرأ(حياة) الشاعر من خلال (شعره). وتلك هي طريقة العقاد في تحليل الشعر والحكم له أو عليه كما جلاها في كتابه (ابن الرومي حياته من شعره). وقد شايعه عدد من نقاد الشعر ودارسيه حتى عهود قريبة، ثم خبا وهجها، وانطفأت نارها، ورأى الدارسون طرائق أخرى تمكّنهم من تحليل الشعر على أعمق ما يكون التحليل. ولعلّه يجوز الاستطراد قليلاً هاهنا بغية الإشارة إلى أنّ الشعر رؤيةٌ للحياة وموقفٌ منها. وما كان له أنْ يكون سيرة ذاتية يدوّن فيها الشاعر أسرار حياته وأخفى حكاياتها، وكأن القصيدة صفحة من كتاب المذكرات اليومية. ثم من قال إن الحكم على الشاعر أو له يكون على حسب قدرته في الكشف عن خفايا نفسه، وتجسّد أحداث حياته حتى يتساوى (كتاب شعره )و(كتاب حياته) وكأنما لا فرق ؟ لكنّ هذه الطريقة في تحليل الشعر - إنصافاً وإحقاقاً - كانت أرقى قليلاً من طرائق الأوّلين في النظر إلى القصيدة على أنها أبياتٌ متفرقاتٌ، أو أغراضٌ أشتاتٌ. وهنا يكمن ملمح الجدّة فيها. أما الطريقة الثانية فهي التحليل الجزئي لأبيات من القصيدة مبنى ومعنى. وهنا تلمح آثاراًَ من تأثير الأوّلين عليه، وعلى الأخصّ علماء البلاغة كابن رشيق في عمدته، وابن الأثير في مَثَلِهِ السّائر، ناهيك بما لكتاب (الديوان في الأدب والنقد)، وما كتبه (العقا)د فيه من تحليله قصائدَ شوقي من أثرٍ عليه. فتراه يتقرّى البيت جزءاً جزءاً، ويقبل منه ما يقبل، ويرفض منه ما يرفض، ويروز أفكاره ومعانيه، ويعرضه على أبيات الأوّلين ومعانيهم، فيوازن، ويفاضل، ويكون نقده على حسب ما استساغ من البيت مبنى ومعنى في ضوء منهجه الذي ارتضى. ولقد يوفّق حيناً فيجلّى. ولقد يخفق حيناً فيجانبه التوفيق. خذ على ذلك مثلاً قوله معلقاً على قول الشاعر:- أمسى خضمّاً في تدفقه يعطي اللآلئ حين يضطرب يقول:( فمن أنبأك ياهذا أن البحر يقذف اللآلئ عندما تجتاحه الزوابع، أو أنه يقذفها على أي حال ؟ إن أبسط محترفي صيد اللؤلؤ سوف يخبر شاعرنا أنّ أنسب أوقاتٍ للقيام بهذه العملية في البحر هي أوقات السكون والصفاء، أو هل أراد الشاعر أن يقول إن فقيدنا لم يكن يقول رأياً سديداً إلا عندما تعتريه حالات من الانفعال النفسي؟...ولو قد صح لدى (البار) ما استنتجناه من مقصد هذا البيت فإننا نربأ بفقيدنا أن يوصف بوصفٍ لا يليق بأحلام الرجال. إلا أنّ التقليد الأعمى هو الذي دفع صاحبنا إلى هذا التهّور.. وقد سبقه إلى مثل هذه الهفوة أبو الطيب فقال: كالبحر يقذف للقريب جواهراً جوداً.. ويبعث للبعيد سحائباً هنا أخفق (الناقد)في ما أرى. فهو يتصور أن (الشعر) مطابقة الواقع تماماً بتمام. وليس الأمر كذلك. الشعر تشكيل (للواقع )بواسطة اللغة. وبين الحالين فرق، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى الشاعر أصدق تصويراً من فهم الناقد للبيت وإدراك معناه،لأن حرارة الانفعال تفضي بالمرء إلى أن يقع على ما لم يجر له بحسبانٍ أو تفكيرٍ..أمّا برودة الانفعال فإنها لا تورث إلا الكلال والفتور. ثم من أين جاءه أنّ (البار) يقلد (المتنبي) في هذا البيت؟ وبين القولين بونٌ شاسعٌ كما يقول البلاغيّون، ولكلٍّ مقام. أمّا ألفاظ مثل (التهور / لا يليق بأحلام الرجال/ الهفوة)... فليست من لغة النقد في شيءٍٍ، لأنّها تنأى به عن غاياته من تفسير وتحليل وتأويل، ومن تقويم وتقييم. لكنها غضبة الأستاذ الشيخ وقد اشتهر بها قلمه في كثير من المواقف والأحوال. ولسائلٍ من بعد أن يسأل : ما مكانة الأستاذ الشيخ النقدية ؟ وأين منزلته ؟ وكيف نقيّمه بعد هذا الزمان؟ أما في زمانه وبين أنداده وأضرابه فإنّ له مكاناً عليّاً، ومنزلة مشهورة معلومة، فقد نهض بمهمته جديراً، وأدّى المرتجى منه على أحسن مايكون. فقوّم من الشعر ما يتطلب تقويماً.. وشاد مع معاصريه للشعر بناءً ملحوظاً في زمانٍ عزّت فيه الوسائل، وأعوزت الآلات. أما عن القيمة المعرفية لكتاباته في هذا المجال فإنّ ما استجدّ من نظريّات نقديّة،وما توالى من مناهج يتوسّل بها النقاد في التحليل والتأويل، في التقويم والتقييم يجعل من كتابات الأستاذ الشيخ أثراً يقرأ ليقوّم في ذاته، لا على أنه مادة صالحة للتواصل والاستمرار. الحواشي: 1. في ذكرى (البار) مخطوط ص 1. 2. الطليعة عدد 47 ص 3 3. الطليعة عدد 61 ص 2. 4. الجنوب العربي عدد 33 ص9. 5. ن.م.س. 6. ن.م.س. 7. الجنوب العربي عدد 34 ص 13. 8. في ذكرى (البار) مخطوط ص 1. 9. ن.م.س. 10. ن.م.س. ص 8 11. ن.م.س. 12. الطليعة عدد 77ص 7. 13. ن.م.س. 14. الرائد عدد 11 ص4. 15. الطليعة عدد 49 ص3. 16. الرائد عدد 105ص 5. 17. الرائد عدد 150ص 3. 18. ن.م.س ص8. 19. ن.م.س. 20. في ذكرى (البار) مخطوط ص 2. 21. الطليعة عدد 49 ص 2.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.