عرف الناس الأستاذ محمّد عبد القادر بامطرف (1915م 1988م) مؤرّخاً اشتهر بالتأريخ لأدوارٍ من تاريخ (حضرموت) خاصّةً، وقرأوا له كتباً بحالها في ذلك،منها (الجامع)، و(الشهداء السبعة)،و (في سبيل الحكم)... ممّا طُبِعَ ونُشِرَ، وله سواها ما لا يزال ينتظر. ومنهم من عرفه باحثاً في الشعر الشعبيّ الحضرميّ، اهتمّ به من زمنٍ بعيدٍ، وعرّف به أنماطاً وصناعةً وفنّاً.. شعراً ونثراً.. قصائد مسرّحةً أو موشّحاتٍ مغنّاةً أو غير مغنّاة، أو شعراً مرتجلاً في (المدارات)، أو مقاماتٍ نثريّة مسجوعة يقرؤها أصحابها في مجالس بعينها.. وقرأوا له في ذلك أبحاثاً أشتاتاً نُشِرَ منها ما نُشِرَ في مجلّةٍ، وضمّ بعضَها كتابٌ.. ومن أعماله تلك (دراسة تحليليّة للتعريف بصناعة الشعر الحمينيّ وأغراضه)، و(نظرات تحليليّة في الأمثال اليمنيّة العاميّة)، وهما منشورتان في كتابه (التراث وصناعة الشعر). و(المقامات الشعبيّة في مجالس باحسن)، وهي منشورةٌ في كتاب (باحسن الرائد الفنّان).. وله سوى ذلك ما لا يزال مخطوطاً ينتظر حظّه من النشر ليذاع في الناس، ويُدْرَك شأنه ومقامه ككتابه متعدّد الأجزاء (الشعر الشعبيّ الحضرميّ فنٌّ وصناعةٌ)، و(الهاجس والحليلة) وغير ذلك ممّا خلّف الأستاذ الشيخ في هذا المجال من آثار. ونحن لن ننسى في هذا المقام كتابه (الميزان) الذي سعى فيه إلى وضع قواعد تُضْبَطٌ بها الأشعار الشعبيّة، وتُدْرَكُ بها أوزانها، مستلهماً طرائق الشعراء الشعبيّين في ضبط عروض ذلك الشعر، ومستفيداً من نهج (الخليل بن أحمد الفراهيديّ) في صناعة علم العَروض وتحديد أوزان الشعر العربيّ. وهي محاولةٌ للشيخ غير التي يجدها المرء في كتابه (التراث وصناعة الشعر). ولعلّ في الناس من لا يزال يذكر للأستاذ الشيخ مقالاتٍ كثيرةً كان ينشرها في صحفٍ سيّارةٍ (كالرائد) و(الطليعة) يحلّل فيها مواقف سياسيّة، ويستلهم فيها (وحي الأحداث) ممّا يدخله في دائرة التحليل السياسيّ المحض. وله في كتابة السيرة الأدبيّة إسهامٌ ظاهر ككتابه عن (المعلّم عبد الحقّ)، وكتابه الضخم كما يذكر العارفون الموسوم ب(شخصيّات لا تنسى)، كلّه تراجم لعددٍ من الشخصيّات التي عرفها أو قرأ عنها ثمّ ترجم لها مثلما حلا له. وهو إلى ذلك كلّه مؤلّف مسرحيّاتٍ وقصصٍ وبعضِ شعرٍ شعبيٍّ.. لكنّه لم يجلِّ فيها كما جلّى في سواها من مجالات العطاء الفكريّ. صفاتٌ كثيرةٌ متنوّعةٌ يشملها عاملٌ جامعٌ هو (الثقافة) في تنوّعها الخصب المثمر. ومن هنا صحّ أن توسم شخصيّته الثقافيّة تلك بأنّها واحدةٌ من الشخصيّات التنويريّة التي تتسم بالتعدّد في عطائها الفكريّ، واهتمامها المعرفيّ.. وحتّى هذا التفاوت في قيمة هذا العطاء الفكريّ سمةٌ من سمات تلك الشخصيّة التنويريّة، وواحدةٌ من خصائصها. وإنّ في تعدّد مشاغل الأستاذ الشيخ الثقافيّة، واهتماماته المعرفيّة، وتنوّع عطائه الفكريّ دعوةً لذوي الاختصاص للانشغال بما يهمّهم من تراث الرجل، لدرسه والتعريف به، كلٌّ على حسب ما يعلم ويختصّ. ومن هذا المنطلق أتحدّث عنه (ناقداً أدبيّاً). ولعلّي أعلم أنّهم قليلون أولئك الذين يعلمون أنّ الأستاذ الشيخ ناقدٌ أدبيٌّ يصدر في نقده عن منهجٍ معدودٌ ومذكورٌ في مناهج النقد الأدبيّ المذكورة. وإنْ كان في بعض هذا القليل مَنْ لا يزال يذكر للأستاذ الشيخ صولاتٍ وجولاتٍ كرّ فيها وفرّ في عددٍ من صحفنا السّيّارة آخر الخمسينيّات وأوّل الستينيّّات من القرن الماضي. وكلّها تدور في نقد الشعر وتقويمه ومحض الرأي فيه. وهو ما تسعى هذه الأسطر إلى التعريف به، والتذكير بآثاره، أداءً لحقٍّ مفترضِ الأداء، ونهوضاً بواجبٍ لا بدَّ من النهوضِ به. على أنّه تجب الإشارة قبلُ تبياناً لدور الرجل في هذا المجال إلى أنّ (حضرموت) لم تعرف قبل كتابات الأستاذ الشيخ نقداً أدبيّاً مكتمل الرؤية والأداة، وإنْ عرفت وهجاً شعريّاً متطوّراً متصاعداً قبله وبعده. ولم تزد محاكمو الآخرين لأعمال الشعراء على حدّ الإعجاب المفرط، والفرحة المبتهجة بقصيدةٍ ينشرها شاعرٌ، أو ديوانٍ يخرجه للناس. أمّا التقويم والتحليل فليس له وجودٌ. حتّى رسالة (عبد الرحمن بن عُبيد اللاه السّقّاف) في نقد (شوقي) تشي من عنوانها بعدم نضج الإدراك بمعنى النقد ومناهجه، وهو (النقد العلميّ الذوقيّ في نقد شوقي)، وأنّى لهذين المصطلحين (العلميّ) و(الذوقيّ) أن يجتمعا في إطارٍ واحدٍ، وهما متباينان تبايناً ظاهراً على مستوى النظريّة والإجراء؟ لكنّه (السجع)، والحرص عليه. وإنّ من أسباب عدم ظهور النقد في حضرموت في ذلك الزمان انعدام المنابر المسعفة على ظهوره كالصّحف السّيّارة التي لم تُعرف إلاّ في زمنٍ متأخّر. حقّاً كان بعضهم يحرّر صحفاً مخطوطةً باليد كصحيفة (الإخاء) التي كانت تصدرها جمعيّة الأخوّة والمعاونة في تريم حوالي عام 1938م وبها بعض مقالاتٍ أدبيّة لكنّها كانت محدودة الانتشار، وقصيرة الأجل.. فضعف أثرها، إنْ لم ينعدم. أضف إلى ذلك الجهل بنظريّات النقد الأدبيّ الحديث، وكلّها مستوردٌ من آدابٍ أجنبيّة لا يعرفها أهل هذه البلاد مباشرة، وإنْ عرفها بعضهم صَعُبَ عليه استساغتها وتذوّق ما بها من روعةٍ وجمالٍ.. فاقتصت مكوّناتهم الثقافيّة على شعر العرب الأوائل, وبعض ما خلّفه نقّادهم من كتبٍ في البلاغة والنقد كالعمدة، والمثل السائر، والطراز، ومعاهد التنصيص... وما أشبه هذا وناظره من كتبٍ. ومن هنا بدا الأستاذ الشيخ متميّزاً من سواه من الأدباء والكتّاب في زمانه. فإنّ له منهجاً غير الذي ينهجون، وطرائق في التقويم والتحليل غير التي يعرفون،وقد راد مناهل معرفيّة فوق التي كانوا يردون، فنال من العلم بالأدب والنقد منالاً لم ينله الآخرون. 2 وللأستاذ الشيخ مقالاتٌ أشتاتٌ في نقد الشعر وتقويمه لم يضمّها كتابٌ بعد، وإنْ حُفِظت مخطوطةً، وهي تشي بنظراته وآرائه في النقد. وهو يصدر فيها عن (نظريّة التعبير) التي ترى الشعر جلاءَ ما في الوجدان، وتحكم على الشاعر بمدى قدرته على الكشف عن خلجات نفسه، والتعبير عن الذات بصدقٍ ليتصل بالإنسان من حيث هو. فالشاعر عنده هو مَن يسهم مساهمةً جليلةً (في إضفاء الرونق الخلاّب على ظواهر معيّنة من الحياة الإنسانيّة بما اتصفت به من حلاوةٍ ومرارةٍ، وضعفٍ وقوّةٍ، وأملٍ وألمٍ، وحقيقةٍ ووهم،وجفافٍ ورواء)1.أي أنّ الشعر على ذلك تصويرُ الخلجات الدقيقة، وتجسيم الانفعالات التي تعتمل في الذات خافيةً، وتجسيد (الإنسانيّ) من حيث هو ملتقى البشريّة في تفاعلها مع الحياة.. حتّى وإنْ صغُر شأناً، وضؤل هيئةً، وفاض بساطةً، لما في ذلك من أثرٍ عميقٍ في النفس، وباعثٍ عنيفٍ للانفعال والتفاعل. قال: “ إنّ مهمّة الشاعر ليست مدحاً وفخراً ورثاءً ونسيباً ووصفاً وغير ذلك من ألوان الشعر المتداول يقوله الشاعر كيفما اتفق... ولكنّ مهمّة الشاعر استنباط المعاني والتعابير الصحيحة لخدمة الذوق والفكر والجمال”2. وعليه فإنّ صدق الشاعر يكمن في الإحساس بالوجود، وتمثّل التجربة الشعوريّة على أصفى ما يكون عليه التصوّر وأصدقه، وصدْقُ الشاعر كامنٌ في التعبير عن ذلك الإحساس تعبيراً يشفُّ عمّا يعتلج في الوجدان، ويصل الشاعر في أيّ زمانٍ وفي أيّ مكانٍ بالإنسان من حيث هو في كلّ زمانٍ ومكان. وإنّ شعراً على تلك الصفة لهو الشعر الإنسانيّ في نظره. هي إذاً دعوةٌ لتجاوز القشور إلى اللباب، وتخطّي البهرج الزائف إلى الجوهر الفذّ، ومن هنا لا بدَّ للشاعر من التأمّل الثاقب، والتروّي في تخيّر الجزئيّات التي تشي بجوهر الإحساس بطبيعة الوجدان. بيد أنّ الشعراء ليسوا سواءً في الإحساس بهذه القضيّة وتمثّلها. فهم في عالم الإبداع أشتاتٌ، ولهم مذاهبُ..ف( مذهبٌ يدعو إلى الأصالة في الشعر، ومذهبٌ يدعو إلى استباحة المناهل المطروقة. مذهبٌ يدعو إلى سيادة الطبيعة الشاعريّة، ومذهبٌ يدعو إلى المسخ والترديد. مذهبٌ يدعو إلى التوليد والابتكار، ومذهبٌ يدعو إلى التقليد والعكوف على منبوذ الشعر وسخيفه. مذهبٌ يدعو إلى التعبير الصّادق عمّا يعتمل في نفس الشاعر من أحاسيس، ومذهبٌ يدعو إلى أنْ يصف الشاعر وأن يمدح وأن يرثي على أساسِ المواصفات في العرض والطلب. مذهبٌ يدعو إلى الشعر الخالد، ومذهبٌ يدعو إلى المنظوم من القول ولو كان قد أصبح ذلك المنظوم أثراً تاريخيّاً ولم يعد أثراً أدبيّاً قريب الصلة إلى الشاعر وعصره وبيئته وثقافته)3. وهو ولا شكَّ من أنصار المذهب الأوّل ودعاته. لذلك تراه يهتمّ في نقدِهِ قصائدَ الشعرِ على (الأصالة الشعريّة، وصدق الإحساس). وعنده أنّ التفاوت بين الشاعر الموهوب والشاعر المقلّد يكمن في القدرة على تصوير أحوال الحياة كما يتجاوب الشاعر مع أحداثها بالقدْر الذي تؤهّله موهبته الفنّيّة لذلك التجاوب وذلك التصوير. من هنا تراءى الأستاذ الشيخ في نقده الأدبيّ تابعاً أميناً لأقطاب حركة النقد الرومنسيّ في الأدب العربيّ الحديث، وأخصّ منهم عبّاس العقّاد من جماعة (الديوان)، وميخائيل نعيمه من جماعة (المهجر). فهو يصدر في منهجه عن المنهج الذي صدرا عنه في نقدهما أعمال الآخرين الشعريّة، وشغله من القضايا ما شغلهما يوم كان للنقد في فؤاديهما مقامٌ عظيمٌ. وفي عبارته ما في عبارتيهما من صفاءٍ وإشراقٍ، وإلى ذلك ففي نقده ما في نقدهما من حِدّةٍ وانفعالٍ وصدقٍ. فلقد يشتطّ كما اشتطّا، ويبالغ في تطلّبِ المثال كما تطلّباه، ولقد ينشغل بما في ذهنه عن تلمُّسِ ما في النصّ من خصائصَ كما كانا يفعلان تماماً بتمامٍ. ولقد تعلّم منهما كثيراً من الآراء، وطرائق الأداء. فآمن بما قالاه واعتقد، ومضى يتحقّق، ويقْبَلُ ويردّ، ويرضى ويسخط، ويستسيغ ويعاف على هدىً من هذا المبدأ أو ذاك ممّا قرأه عند ذينك العَلَمين الكبيرين في هذا المجال. فما وافق مذهبهما أدناه من نفسه وأنزله مقاماً عليّاً، ودافع عنه مستميتاً. وما خالفه نأى بنفسه عنه، وهاجمه في ضراوةٍ وقسوةٍ. وليس يضيره ذلك شيئاً ما دام قد أخلص لما رأى، وأجاد عرضه. غير أنّه وإنْ ردّد في مظانّ كثيرةٍ من مقالاته النقديّة كثيراً من آراء ذينك العلمينِ لا يشعرك أنّه ناقلٌ عنهما، أو أنّه صدىً مردّداً لأصواتٍ محكيّة.. وإنّما هو يصدر في ذلك عن أصالة نفسٍ، واستقلال رأيٍ، وثاقب نظر. وهذا عائدٌ إلى نضج شخصيّته الثقافيّة، واستقامة فهمه للحياة وتكامله بعد أنْ تعدّدت تجاربه الفكريّة والمعيشيّة.. ناهيك بما لاتقانه استعمال اللغة الانجليزيّة من أثرٍ على ذلك.فقد تهيّأت له بذلك فرص الاطّلاع على مصادر الأفكار النقديّة التي متح منها ذانك العَلَمان وأصحابهما، ونلوا منها أعذب الماء وأطيبه. وهو لم يعمد في نقده إلى التنظير والتشريع مكتفياً بما صنع الآخرون، فانصرف بكلّ جهده للنقد التطبيقيّ، وحسناً فعل. وكانت غايته من الإسهام في النقد أن يبني مع معاصريه كياناً أدبيّاً يتعاظم مع الأيّام، كلٌّ جهدَ مستطاعه. بيد أنّه كان أكثرَهم تطلّباً للكمال لأنّه ناقدٌ ومعظمهم من الشعراء. فهم يسعون جهد الطّاقة لبناء جديدٍ في الشعر، وهو يحاول حاثّاً أنْ يصل بهم إلى أرقى الدّرجات, وأعلى مصافّ. من هنا تتراءى الهفوةُ منهم زلّةً لا تغتفر, وتبدو القصيدةُ الضعيفة في شعر شاعرٍ منهم جريمةً نكراء، أو خطيئةً فاضحةً لا يجب أنْ تنسب لهذا الشاعر ممّن يحبّ من الشعراء. هكذا يمكن فهم نقده العنيف والقاسي لقصيدة الشاعر حسين بن محمّد البار في رثاء السيّد محسن بونمي في مقامٍ، ولقصيدتي الشاعرين صالح بن عليّ الحامد، وحامد بن أبي بكرٍ المحضار في رثاء السيّد مصطفى بن أحمد المحضار في مقامٍ آخر.ومنبع القسوة في نقده الحرص لا الخصومة، والمحبّة لا العداوة، والرغبة الأكيدة في ألاّ يشذّ في البناء حدٌّ، ولا يخرج عن اللحن المتناسق صوتٌ نشازٌ. وتلك نظرة مثالية.وإلا أنًّى له الشاعر الكامل الذي لا يقول إلا محكماَ من القول ؟ (والبامطرف) – كأمثاله من ذوي الاتجاه الرومانسي في النقد الأدبي – يرضى عن القصيدة ينظمها صاحبها (مدفوعاً بعاطفة)، ويسخط على القصيدة ينظمها صاحبها( مدفوعاً بحب النظم لا غير). وهو لا يعترف – مثلهم – بأنّ من الشعر ما ينشئوه صاحبه لغايات اجتماعية لها بواعثها، ومسوغات في ضمير الشاعر وعقله، ولقد يجلًّي الشاعر في كثير من تلك المواطن، ويُحكِمُ الفن ويجيد الأداء، فالعبرة ليست بالباعث على القول ولكن بالقول نفسه، وما استكن فيه من روح شعرية وقوة خلق وإبداع. وعمدةُ (البامطرف) في الحكمِ على الشعراء وتقييم شخصياتهم الفنية حظوظُهم ( من صدق التعبير، وقوة التخيل، وفيض الشعور، وسلاسة القول، وسرد النواحي الإنسانية)4ومن هنا صحَّ له أن ينقد ( الحامد) و (المحضار) حين عرض لقصيدتهما في رثاء (مصطفى المحضار). قد رأى فيهما شيئاً من المبالغة في الحزن، والإفراط في البكاء، وتهويل الحدث، ولم يرقه ذلك، بل رآه وسيلة يحجب بها الشاعر أبصار الآخرين عن خواء قصيدته من الإحساس بالحزن الصادق، والألم اللاذع الممضّ لفقد المرثي. وهو ما يدل على تجربة صادقة، وانفعال حقيقيّ بالحدث. قال : (لقد كان شعر الحامد و المحضار هنا أقرب إلى شعر الصنعة المتكلفة منه إلى صدق الخيال السليم الخالي عن البهرج وكثافة التلوين. ماذا على الحامد لو ترك الليل والدراري واللهيب والسماء والنجوم ونظر إلى سعة النفس البشريّة، وما انطبع عليها من حزن عميق ؟ ما ذا عليه لو ترك تلك العوالم التي لا تحزن لفقد مخلوق ولاتسعف بالتأسي قلباً فقد عزيزه، ونزل إلى ساحة الأهل والأصدقاء الذين تقاس الخسارة في المرثي بقدر ما ينطبع عليهم من لواعج الحسرة ووحشة الترمل واليتم وعدمان النصير ؟ بل ما ذا على المحضار لو أراح نفسه من الحشر والجموع المتدفقة كالسيل المحوقلة عبرى ملاء الحناجر، وأراح القارئ من الوادي الصارخ، وتجرد عن كل هذا لينظر إلى حقائق أخرى أكثر نفاذاً منها وأعمق تأثيراً في النفس البشرية؟)5. لذلك تميزت قصيدة (الشاعر حسين بن محمد البار ) في رثاء مصطفى المحضار في نفسه من تينك القصيدتين.(ولو قلنا إن دقة التصوير مع تجنب المبالغات الجوفاء، ووصف الصدمة التي تهزّ الشعور الإنسانيّ الحصيف عند نزول المحنة، وسبر ماكانت عليه القلوب قبيل وفاة الفقيد من أمل كبير في شفائه وإبلاله من مرضه قد توفر في شعر (البار) في قالب شعريّ جذَّاب لما جانبنا الصواب) 6. وهذا يفضي بنا إلى عرض مسألة أخرى تتصل بطبيعة النقد الأدبيّ في كتابات الأستاذ الشيخ، وأعني بذلك أنّه يصدر في نقده عن ذوقه وتأثره الانطباعي. فما راقه من أبيات الشاعر وأعجبه يكون سبباً في إعلاء منزلته ورفعة مكانته في نفسه، وما لم يرقه من أبيات الشاعر ولم يعجبه يسفل مكانته ويسقطه من حسبانه. فالشاعر حامد بن أبي بكر المحضار – وقد مَرّ بنا ذمّه ما لمسه من مبالغة في القول لا تروقه – يعود إليه في موطن آخر من القصيدة فيقع على ما يسرّه فإذا هو ( على أروع ما يكون عليه الوصّاف الصادق الذي يعطي الصورة الصحيحة حقها من السلاسة والغزارة المعنوية، ويعطي الشعر تلك القوة الوثّابة من حسن السبك وجمال العرض)7. هكذا يستقيم للأستاذ الشيخ معياران يقيس بهما الشعر، ويحكم بهما له أو عليه، وهما أداتُه في تقييم الشعر والشعراء وتقويمهما.. أوّلهما ما يتوفر في القصيدة من تجربة إنسانية يعبر الشاعر عنها تعبيراً صادقاً وجميلاً. وثانيهما ما يقبله الذوق من ذلك ويستسيغه. وهو – على أية حالة – ذوق أخصبته قراءاتٌ موسّعةٌ، وجملةٌ من المبادئ التي تمكِّن صاحبها من الاستبصار السليم حين قراءة القصيدة، والحكم لها أوعليها على حسب ما ينطبع في النفس من إعجاب ورضى، أو سخط ونفور.