- أنور نعمان راجح .. ثمة مشاهد يجب النظر إليها بطريقة مختلفة لأنها أكثر أهمية وإن بدت أقل من ذلك في زحمة المشاهد المؤثرة والمحزنة ، وتأتي الأهمية لخصوصية من يظهر في المشهد وهو البطل والضحية معاً ، وهنا أجد نفسي مضطراً لنقل المشهد كما هو لندرك أننا جميعاً ، ننشغل بهموم وبحالات انسانية أقل أهمية في كثير من الأوقات ، أو على الأقل دون أولوية لاهتماماتنا . في هذا المشهد يجلس طفل دون العاشرة من العمر على رصيف الشارع المزدحم جداً بالمارة يحضن طبق البيض المسلوق للبيع هكذا وجد نفسه مضطراً لمزاولة هذه المهنة يحمل على كاهله الغض الصغير مسؤولية آثرت ألاّ اسأل عنها وعن ملابساتها حتى لا أسمع مايزيد من كدري وهمي المتنامي لرؤيته في هكذا حال ، لا أعيب عليه مزاولة المهنة والعمل بحد ذاته ، لكني اعيب على هذا الزمن الذي لايفرق بين صغير أو كبير فيلقي بهمومه ومتاعبه دون اكتراث بمن يحمل هذه الهموم والمتاعب ، وأعيب على أهل هذا الزمن ، وحتى أكون أكثر إنصافاً أعيب على البعض منهم ، وقد انشغلوا واستغلوا غيرهم بهموم وأعمال لاطائل من ورائها ولا يأتي منها شيء سوى الهموم الأكبر والأشد ولعل مانراه هو من تبعات تلك الأعمال والاهتمامات ، التي تزيد المعاناة هنا وهناك وقد تسببوا في الكثير منها ، وأعتب وأعيب في ذات الوقت على من يرى مشاهد كهذه وإن رأى كأنه لم ير ، ولايحس بشيء نحو هكذا مشهد وحالة إنسانية خالصة أولاً قبل كل الاعتبارات الأخرى. مضت ساعات طويلة على رصيف الشارع والطفل لم يبع من البيض شيئاً وانتهى النهار وبدأ الليل ولم يتغير في الحال شيء ومع زحمة الناس في الشارع إلا أنه لم يكن كذلك في عيني الطفل الذي اجهش بالبكاء لأسباب لايعرفها إلا الله ثم الطفل ذاته ، ومع اشتداد البكاء لم يعره أحد من المارة أدنى اهتمام ولم يكلف أحد نفسه سؤاله عما يبكيه ؟ وكأن البكاء من طقوس العبادة أو كأنه من أغاني الطفولة البريئة !! وما أجدر اغاني الطفولة بالاهتمام ، فما بالنا بالبكاء ، كدت أن أسىء ظني بأهل الايمان والحكمة والقلوب الرقيقة اللينة ، وأنا أشاهد الناس يمرّون من أمامه ومن خلفه ومن كل الجهات من حوله فلا يعيرونه أدنى اهتمام من أجل الطفولة فقط ، واحد فقط من المارة أذهب سوء ظني وذكرني وذكر الناس جميعاً أن الخير لايزول ولاينتهي ، وإن ضاقت الأحوال أو قست الظروف ، أو انشغل الناس ، بما يستحق الانشغال به ومالا يستحق. مسح الرجل على رأس الطفل وسأله عن سبب بكائه والسبب أكثر من واضح بالطبع ، والحاجة سبب كل البلايا والمتاعب والفقر ممقوت ومقيت !! لكن لماذا انشغل العامة والخاصة من الناس عن قضايا وهموم كهذه ؟ لماذا ينشغلون بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل ؟ والطفولة اليوم هي المستقبل وهي زينة الحاضر بلا شك ، فلماذا تترك على قارعة الهم يشويها الألم وتلفها الحسرة ؟ الفقر هو مشكلة المشاكل هكذا يقول العالم أجمع وعليه يجب أن تتجه الجهود لمواجهة هذه المشاكل المتعلقة بالفقر وينبذ الاهتمام بالخراب والدمار والحرب والاهتمام بالنزوات والاهواء والأطماع والشهوات فكل هذا لايساعد على تجاوز المشكلات وتجاوز الفقر والحاجة ولايضمن حقاً من الحقوق لا للصغار ولا للكبار ، مالم سنظل نشاهد البؤس والحرمان وسوف تبقى الطفولة على جوانب الطرقات تبكي ولن تجد من يمسح عنها دموع الحاجة وضيق العيش ، واخشى أن يجيء مستقبل لا يعرف سوى البكاء في حضرة الاغنياء لأنهم قلة والقلة لاترسم ابتسامة في وجه الأكثرية .