لم تشفع الطفولة لمن هم في خانتها، لم تمنع عنهم متاعب الحياة ومسؤولياتها ليحملوها رغم ثقلها، ليدفعوا مقابل ذلك زهرات أعمارهم وأحلامهم وباقات أفراحهم في هذا العمر في غياب من يحملها عنهم أو في حضورهم! إذا كانت الظروف قد حكمت على البعض من الأطفال تحمل المسؤولية في غياب الكبار، فما بالها تفعل ذلك في حضورهم وبصورة أكثر قسوة لا تفرق بين ذكور وإناث. قلَّ أن يمر يوم لا ترى فيه طفلاً يحمل على كاهله مسؤولية لا تلائم سنه أو قدراته، فتراه يدفع طفولته ببراءتها وأحلامها وحقوقها ثمناً لمسؤولية غيره، لظروف أجبرته على حمل الثقيل ودفع هذا الثمن الباهظ الذي لا يعوض وتبقى تبعات هذا الدفع تلاحقه في رحلة أيامه الباقية. هذا الطفل وجد نفسه في غياب العائل في وقت مبكر من الطفولة وجهاً لوجه أمام مسؤولية إخوة له يصغرونه سناً، فترك كل شيء له علاقة بطفولته وذهب ليعمل كي يفي بمسؤولياته تجاه إخوانه، وما أعظمها مسؤولية، ما أثقلها في هذا الزمن المحكوم بتعقيداته وقسوة ظروفه وأحواله لدرجة يعجز معها الكثير من الكبار فما بالنا بالصغار؟! ويتكرر المشهد هنا وهناك ويعلل الطفل نفسه ونعلل أنفسنا بأن الظروف قد حكمت عليه حكماً لا يقوى ولا يمكنه استئنافه ولا غيره فكّر بعفل ذلك أو للتخفيف منه. مشهد آخر لطفل اقتاده والده ليعمل إلى جانبه طول اليوم، لا وقت للدراسة في منطق والده، لا وقت للعب، لا وقت للطفولة.. لاوقت لشيء سوى العمل من صباح اليوم وصباح العمر، وهكذا تمضي كل الأيام تاركاً كل ما له علاقة بالطفولة وحقوقها، ولو بالحد الأدنى، محكوماً بمنطق والده الذي لا يعرف من تصنيفات العمر شيئاً، فكل هذه التصنيفات لا معنى لها ولا صوت ولا صدى. المشهد الأكثر حزناً وإيلاماً أن ترى طفلاً رمى به حظه العاثر إلى شارع التسول، ليعمل هناك تحت ضغط الحاجة بالطبع متسولاً يبيع ماء وجهه كل لحظة بعدما أُغلقت دونه كل الأبواب، فلم يجد غير التسول ليقتات منه. وفي كل المشاهد السابقة لا يقتصر الأمر على إنسان واحد شاءت له ظروفه أن يعيش تحت البؤس بين مطرقة المسؤولية ولو على نفسه، وسندان الحاجة التي لا تنتظر إلى ميسرة. أشد من الحزن أن يلجأ الأب لبيع ابنته الطفلة ذات الستة عشرة عاماً.. أقول بيع، قاصداً الهروب من لفظ الزواج، وهذا اللفظ في هذه الحالة يحمل في طياته مغالطة واضحة، لأن الموقف هنا ارتدى ثوب الفرح الزفاف الكاذب على حقيقة الحزن البيع الحقيقي، فقد زُفت الطفلة إلى عش الزوجية البائس لعريس يكبرها بثلاثة أضعاف سنها.. والسبب الذي تم تداوله قبل الزفاف وبعده أن والدها كان مضطراً لهذا، لأنه مدين للعريس الذي وجدها فرصة لإشباع اهوائه ورغباته. هكذا هي الحياة في عالم البؤس، ولهذا فالمأساة هنا مركبة حيث إنها بدأت بزواج طفلة قبل كل شيء ثم إنها بيعت لقضاء دين والدها وبذلك دفعت عمرها بل أجبرت على هذا الدفع في لحظة ضعف وغياب ضمائر كل الأطراف المشتركة في صناعة وإخراج هذه المأساة لتضيف المزيد مما هو حاصل في الواقع.