الاغتصاب.. كلمة لا تقف عند حدود الجسد فقط..بل قد تتعداها الى أكثر من ذلك. فهناك اغتصاب الأفكار، اغتصاب النجاح، اغتصاب الأرض، وحتى اغتصاب المشاعر، وأنواع أخرى من الاغتصاب.
والأبشع من هذا وذاك هو اغتصاب البراءة؛ اغتصاب الطفولة.
أطفال تناثرت براءتهم بين أشلاء القتلى بسبب الحروب، وأطفالٌ اغتصبت كل حقوقهم؛ حقهم في اللعب، في التعلم، في الحياة الكريمة والآمنة. مزقتها مخالب وحش لا يرحم ولا يعرف معنى الطفولة، وزُجّ بهم في كهوف مظلمة تقع على هامش الحياة، لا لشيء إلا لأنهم خلقوا ليجدوا أنفسهم يعيشون حياة قاسية. ونحن، أين نحن من كل هذا؟!
أحمد طفل في العاشرة من العمر، يستجديك بنظرات متوسلة، ويتلو على مسامعك كلمات متوسلة، بصوت طفولي منكسر لتشتري منه بعض المناديل الورقية من صندوق معلق بخيط يحيط بعنقه الصغير. طفل في مثل عمره يفترض به أن يكون في مثل هذا الوقت من الصباح في المدرسة، يستمع إلى الدرس ويرتدي حقيبته وزيه المدرسي. يلعب ويمرح مع أقرانه، تعلو وجهه الصغير الابتسامة، وتشع عيناه بالفرح بدلاً من ذلك الحزن المخيم عليهما!
أحمد مثال لآلاف الأطفال الذين اغتصبت طفولتهم وبراءتهم ووجدوا أنفسهم يلتحفون السماء، ويرتشفون كؤوس البؤس والشقاء، ويلوكون المعاناة يومياً في عالم انتزعت منه الرحمة؛ عالم لا يعبؤ بهم أو يهمه أمرهم.
"عمالة الأطفال"، "أطفال الشوارع"، "تهريب الأطفال"، "الاتجار بالأطفال وبيع أعضائهم"؛ كلها جرائم ضد الطفولة ضحيتها الأطفال الأقل حظاً؛ أولئك الذين ليس لهم ذنب إلا أنهم ولدوا ليجدوا أنفسهم في الشارع معرضين لهذه الجرائم، لا معين لهم ولا حماية أسرية أو مجتمعية أو قانونية تحميهم تدافع عنهم.
سلوى وخديجة أختان متسولتان؛ خديجة بنت الاثنى عشر ربيعاً، وسلوى تصغرها بسنتين تقريبا، تتسولان من المارة في الشارع، استوقفتهما وجعلت اسألهما عن سبب تواجدهما في الشارع ولم لا يلتحقان بالمدرسة؟! تتجاهلني خديجة وتجيب عن سؤالي الفتاة الصغيرة سلوى: أن والدهما هو من يدفع بهما إلى الشارع للتسول. وأين والدكما الآن؟ تجيب سلوى بابتسامه طفولية: في البيت نائم! ألا يعمل ويعطيكما مصروفاً؟! بلهجة طفولية بريئة غير مدركة لما سيواجهها في الشارع لاحقاً: لا.. والدنا لا يعمل، إنه ينام حتى نعود ونعطيه المال ثم يخرج لشراء القات والغداء لنا!
بدأت خديجة تسحب أختها وتنهرها بكلمات عنيفة؛ يبدو أنها من إحدى الدروس التي تعلمتها من الشارع، وهددتها بأنها ستخبر والديهما بذلك. بدا الخوف واضحاً على سلوى، وسريعاً التحقت بأختها وابتعدتا.
أطفال الشوارع ظاهرة بدت واضحة للعيان, من أهم الأسباب في تفشي وتزايد هذه الظاهرة هو الفقر، والتفكك الأسري، أو حتى بسبب والدين لا مباليين يدفعان بأطفالهما للعمل أو التسول.
هناك تعريفات كثيرة لأطفال الشوارع؛ حيث يعرفون أو يصنفون على أنهم الأطفال الذين يعيشون في الشارع وينامون فيه مع انقطاع علاقتهم بالأسرة أو وجود علاقة واهية بها. وبناءً على ذلك يعتبر الأطفال الذين يقضون معظم وقتهم في الشارع يتسولون أو يعملون أعمالاً تافهة هم من أطفال الشوارع المعرضين للاستغلال والخطر دون حماية أو رعاية أسرهم حتى ولو كانوا يعودون للنوم في منازلهم مع استمرار العلاقة نسبياً بالأسرة فيطلق على الصنف الأول مسمى "أطفال الشوارع"، والصنف الثاني مسمى "أطفال في الشوارع". وأياً كانت التصنيفات أو التسميات إلا أنهم جميعاً يتعرضون للكثير من الانتهاكات، إنهم يومياً معرضون لعنف لفظي وجسدي وتحرش جنسي وامتهان لإنسانيتهم وحقوقهم البسيطة في الحياة بكرامة كباقي الأطفال.
تُلوث براءتهم، ونظرات البراءة الطفولية سريعاً ما تتلاشى من أعينهم بعد مكابدتهم لظروف الحياة القاسية التي يجابهونها كل يوم في الشارع دون أية حماية أو توجيه سواء من أسرهم أو من المجتمع من حولهم؛ بل ويتحولون إلى عنصر مدان في نظر المجتمع بدلاً من أن يكون ضحية، حيث تنتشر جرائم السرقة وبيع المخدرات بينهم فيصبحون في نظر المجتمع عناصر مجرمة يجب معاقبتها، متناسين تماماً الظروف القاسية التي جعلتهم يمضون في طريق الانحراف والجريمة.
ولعل دائماً ما تتناهى الى مسامعنا كلمات مفادها يتكلم عن حقوق الطفل؛ اتفاقية حقوق الأطفال، الطفل أولاً.. والسؤال هنا: أين دور الدولة؟ أين هي القوانين التي من المفترض أن تحمي هؤلاء الأطفال وتكفل حقوقهم مع العلم أن بلادنا من أكثر الدول توقيعاً وتصديقاً على اتفاقيات حقوق الأطفال واتفاقيات تنظيم عمالة الأطفال، إلا أن هذه الاتفاقيات تبقى حبيسة الأدراج ولا تُفعّل أو تطبق على أرض الواقع.
يجب أن يكون لمؤسسات الدولة مثل وزارة التربية والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي دور في حل هذه الظاهرة. أيضاً: أين دور المنظمات المدنية والمؤسسات الأهلية العاملة في مجال حقوق الأطفال - وما أكثرها - لكن دورها لا يذكر، وأثرها لا يكاد يُرى إلا من بعض الجعجعات الإعلامية والمطالبات الواهية من أجل الاستهلاك الإعلامي ليس إلا، وجذب مزيد من التمويل والمشاريع والتي لا تنفذ بشفافية أو تستهدف الفئات المتضررة فعلاً!
مناشدة إلى جميع رجال الأعمال والتجار لتقديم المساعدة والدعم وفتح مؤسسات أو دور تُعنى باستيعاب هؤلاء الأطفال وتعليمهم وتأمين مأوى آمن لهم.
أطفالنا ضحية مجتمع قاسٍ لا يعبؤ بهم أو يرعاهم، فلا تطالبوهم بأن يكونوا أسوياء في المستقبل. "الزهور لا بد لها من بستاني يرعاها ويهتم بها لتكبر وتنمو وتنشر عبقها في الأجواء".. ودمتم.