رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    تطورات خطيرة للغاية.. صحيفة إماراتية تكشف عن عروض أمريكية مغرية وحوافز كبيرة للحوثيين مقابل وقف الهجمات بالبحر الأحمر!!    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أعلام الاغتراب اليمني
نشر في الجمهورية يوم 18 - 03 - 2007

اليمنيون شيدوا نهضة حضارية وأسهموا في تطوير اقتصاديات عدد من دول شرق آسيا
في بريطانيا نصب تذكاري للمغتربين اليمنيين المشاركين في الحرب العالمية الثانيةيامن يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
المغتربون أمانة الله في بره وبحره، المستجيبون لأمره سبحانه وتعالى :«فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور» سورة الملك آية 15
واليمن مهد الانطلاقة الكبرى للهجرة البشرية عبر القرون، فمنهم الفاتحون في صدر الإسلام، ومنهم بناة الحضارات الإنسانية في الشام، والعراق، والمغرب، وبلاد الاندلس، وهم الفاتحون بالدعوة، وحسن الخلق، ومكارم الشيم والقيم، لبلدان شرق آسيا،فكل رحالة للتجارة كان يحمل في قلبه نورا، وفي لسانه صدقا وعدلا، فاستمالوا الوثنيين في أندونسيا، وماليزيا، وسنغافورا، والهند، والفلبين، وتايلند، حتى أسلم على أيديهم ملوك وشعوب دون صارم ولاسنان.. ويكفي أولئك المغتربون فخرا وفضلا أن الحكومات التي تدير شئون الدول اليوم في أندونسيا، وماليزيا لاتخلو من عدد من الوزراء من أصول الجاليات اليمنية. كما أن بلاد افريقيا تدين بولائها للمغترب اليمني، الذي جاء باحثاً عن مصدر عيش كريم، يعمل ساعده للحصول على رزقه ،وبلغ ماذهب من أجله ثم دعا لثقافته، ودينه، وقيمه،بنبل أخلاقه، واستقامة سلوكه، حتى أصبح أصلا من أصول المجتمعات، ومفتيا وحاكما وملكا، واسألوا جزر «القمر» التي أسس دولتها وبنى نظامها ونظم شعبها مغترب يمني كان قد هاجر إليها لطلب الرزق حتى أصبح حاكما للبلاد، واستنبئوا الترجمة الشخصية لمحمد بن شيخ بن المنصب بن أبي بكر اليمني سنة1390ه/ 1970م الذي كان ابنا لأحد المغتربين اليمنيين، ثم أصبح الرئيس الأول لجزر «القمر» عندما منحت الحكم الذاتي رحمه الله تعالى. . وفي القرن الماضي الذي اكتظ بالحروب والاحلاف، وصارت المخاطر تغشى البر والبحر خاصة مع نشوب الحربين العالميتين اللتين أشعلتها المصانع والسفن والمناجم والموانىء بالنيران، نجد أن المغتربين اليمنيين كانوا شركاء المقاتلين من كلا الجانبين: دول الحلفاء ودول المحور، لأنهم كانوا عمال المناجم، وملاحي السفن، ومشغلي المصانع،فلم تروعهم الحرب، ولابراكين اللهب، فذهب منهم آلاف في ركب الشهداء في البر والبحر، شهداء غربة وبحار، ولمن لايعلم أن يعلم أن نصباً تذكاريا لشهداء الحرب العالمية الثانية من اليمن ارتفع شامخا في مدينة «ليفربول»في إحدى المهاجر البريطانية، اعترافا بدورهم البطولي، وشجاعتهم النادرة، وعلى ذلك النصب أسماء عدد من شهداء الاغتراب اليمني.
ومن أعلام الاغتراب اليمني أعلام شامخة لاتزال على قيد الحياة تبني وتناضل وتشيد، حتى عرفت أنها صاحبة النهضة الحضارية، وصاحبة الأبراج الشامخة، والمصانع العملاقة في بلاد السعودية الشقيقة، ودول مجلس التعاون الخليجي، وهم المعقودة على عزائمهم آمال بناء الوطن الأم، ولقد تحاشيت ذكر بعض الأسماء من عمالقة الاغتراب المعاصرين حتى أستأذن حضراتهم في أن أترجم لهم ترجمة وافية، تبنى على أساس استقاء المعلومات التي يملونها بأنفسهم عن أساسيات تراجمهم، وسيرهم الذاتية،الاغتراب لاقدمها للندوة. آمنة بنت محمد بن حسين بن عبدالله الحبشي :
الجزء الأول
الغريبة الخالدة
بعد 1333ه - بعد 1915م
أنثى ولكن أعجزت الرجال، لم تروعها مدافع الحرب العالمية الأولى، رغم أنها كانت شاهدة عصر المحن الكبرى، وأشرس حرب مروعة لكرامة الإنسان والأوطان.
ماتت غريبة مغتربة في بلاد المهجر التركي التليد، في عاصمة الخلافة العثمانية في شدة وطأة الحرب العالمية الأولى.
كانت تتمتع بعقل مستنير، وعلم غزير، وكانت قد تلقت معارفها اللسانية والدينية والأدبية في مدينة العلم الكبرى: مدينة سيئون،من بلاد حضرموت، حيث مسقط رأسها، حتى عرفت بنبلها وسعة اطلاعها، وشغفها بالقراءة والكتابة، وحلقات العلم.
وكغيرها من النساء كان الارتباط العاطفي بالرجل أمرا فطريا، وميلا بشريا فأحبت، وكانت محبوبة معشوقة لولهان معنّى، ملكت عليه سويداء قلبه وألوت بفؤاده حول خدرها ليّ الرياح بالأغصان، إن ذلك المفتون بها ليس رجلا عاديا من الرجال، بل علماً من أعلام اليمن النبلاء: عالما،مؤلفا، مجتهدا، شهيرا في مكتبات الدنيا، معروفا بصاحب الحاشية على كتاب فتح المعين في فقه أحكام الدين الذي أصبح من أهم متون الفقه في كافة مدارس اليمن، إنه الشيخ علي علوي السقاف الذي أنجبت له نجيبا من الأبناء ونشأته على ناشئة من العلم والمعرفة، فكان تلميذها صغيرا وأستاذها كبيرا.
وكانت رياح الحاجة، وصروف الأقدار تعصف بهذه الأسرة الثلاثية إلى حب الاغتراب، وتخفق قلوبها شوقا إلى تحقيق طموح هذه العائلة في بناء وضع معيشي أفضل، فاتجهت بها المراكب الشراعية نحو مكه المكرمة لاداء المناسك الإسلامية، والتبرك فيها بقدسية المكان، والمدارس والسفراء، وكانت اللغة والحرف العربي في تركيا يومذاك لهما قداسة إلهية في نظر الاتراك لأنهما لغة القرآن ورسول الإسلام، فما أن أناخت ركائب هذه المهاجرة، وزوجها وابنها في بلاد «استانبول» حتى اكتنفتهم عناية الله تعالى، واحتضنتهم جماهير عطشى لنور العلم والمعرفة، فحالت بينهم وبين مايشتهون من التجارة والبيع والشراء، والعمل بالسواعد وألقت بهم في حِلق العلم ومدارس التعليم، فكان الرجل والغلام قادريْن على عمل وتعليم.
أما مغتربتنا الفقيهة العالمة المحدثة فقد عملت ولكن في مجال التنوير بالعلم والإرشاد، وتوجيه فتيات تركيا إلى نور التنزيل العزيز، وهدي رسول الرحمة والخير محمد صلى الله عليه وسلم فأنجبت من بطنها أولاداً،ومن فتيات تركيا آلافاً من البنات، فكانت لهن أما ورسولا وهاديا، فهزها الشوق، وأضناها الحنين إلى اليمن الحبيب، ولقاء الأهل والأحبة الذين كان أكثرهم في مدينة الحوطة حاضرة بلاد لحج، عاصمة السلطنة العبدلية.
فتركت أحباءها في «الباب العالي» في «استانبول» وعادت مع زوجها نيرة مستنيرة، تتقن اللغة التركية،وتجمع بين أكثر من حضارة وثقافة ولغة، وكانت لاتعلم أن عودتها إلى الوطن العزيز الأم، إنما كانت لتودع على ترابه حبيبها، ورفيق دربها زوجها الغالي، وتشهد مصرعه عندما وافاه الأجل المحتوم، ولحق بربه في مدينة الحوطة، ووارته التراب، ولم توار معه حبا عميقا لايموت ولايفنى.
واستوحشت كل جليس وأنيس بعده، فما طاب لها عيش، ولا اكتحلت جفونها بالمنام،فرحلت إلى من بقي من أحبائها في المهجر من أولادها وتلميذاتها في «استانبول» لتجد فيهم لأحزانها سلوة، غير أنها عادت لتشهد دمار الحرب الكونية الأولى ضد تركيا، وتمزق الشعوب الإسلامية، ودماء المسلمين التي كانت تجري أنهارا في شتى المعارك، والحروب، ولكنها أبت البقاء في صفوف المهزومين، وعافت حياة الذل والهزيمة، ورحلت رحلتها الأخيرة إلى بلاد الأحباب، فألقت عصاها واسلمت روحها الطاهرة المجاهدة الشهيدة إلى ربها العلي العظيم، وطاب بأعظمها تراب الحد في إحدى مقابر «استانبول»،قبل نهاية الحرب العالمية من العقد الثاني من القرن الماضي.
إنها علم خفاق من أعلام الاغتراب اليمني، حياة وموتا...
رحمها الله تعالى.
أبو بكر بن سالم البار
التدريس في ظلال الكعبة
1384ه - 1964م
عندما فتح عينيه على البيئة العلمية من حوله تساوقت معها أحلامه، وتجاوبت إلى أفيائها الندية نفسه فحلق بين رياضها الغناء من زهرة إلى أخرى، ومن غصن إلى ظل ندي تستشرف فيه روحه أنوار الحكمة وأسرار المعرفة.
وكان أخوه الأكبر عيدروس مرشده الأول إلى حلقات العلم فقد كان له أخ ومعلم وصاحب ودليل وفوق ذلك كله كان الأب الروحي له بذر فيه نوازع التوقد والطموح فكان أقصى مايتمناه صاحب الترجمة أن يوفقه الله إلى نيل مراده من العلوم ليجلس في باحة مسجد من مساجد بلده وحوله طلاب العلم يستمعون إليه.
غير أن الله أراد له أمراً آخر أكبر من ذلك، عندما سنحت له الأيام بفرصة الرحيل إلى مكة المكرمة ملتقى علماء الدنيا فلازمهم صباح مساء حتى عُرف لديهم بعشقه للعلم فاجأزوه، وجعلوه واحدا منهم وكانت المفاجأة الكبرى له حين فتح عينيه على جموع من طلبة العلم يتحلقون حوله ليس في حضرموت ولكن في مكه المكرمة بل وفي ظلال الكعبة الشريفة.. وأنّى لمن أوتي هذا الفضل أن يروم عنه فكاكا..
وتمر السنون وصاحب الترجمة في حلقة درسه تأخذ منه السنون ما تأخذ ولكنه يزداد تألقا وتزداد مساحات الفرح في قلبه كلما اتسعت حلقة درسه وزاد تلاميذه.. حتى جاء أمر الله فمات وهو على تلك الحالة من النقاء والتألق رحمه الله.
أبوبكر بن طه بن عبدالقادر
1357ه - 1956م
كان منذ صباه يحلم بمدرسة نظامية في مدينة سيئون تعمل إلى جانب حلقات المساجد في نشر العلم والمعرفة.. وكبر .. وكبر معه حلمه خاصة وأنه طالب علم يطوف حلقات مساجد مدينة سيئون فتفوته بعض الدروس نتيجة لعدم وجود تنسيق بين هذه الحلقات.
وما أن بلغ يفاعة الشباب حتى رحل إلى الحجاز مستزيدا من طلب العلم حتى إذا نال منه قسطا وافرايم تجاه «سنغافورا» تلك البلا الفاتنة، وهناك جمع من التجارة ماشاء الله له من الأموال، فأحس أنه قادر على تحقيق حلمه القديم فيمم عائدا إلى بلده وماكاد يصل إليها حتى التقى بزميله العلامة سقاف بن محمد بن عبدالرحمن السقاف وعرض عليه فكرة إنشاء مدرسة نظامية في مدينة سيئون ووافقت هذه الفكرة هوى في نفس السقاف فوافق على الفور وماهي إلا شهور معدودة حتى كانت مدرسة النهضة العلمية في مدينة سيئون شامخة على أرض الواقع.. وأحس صاحب الترجمة بارتياح غامر ولعل حلما آخر بدأ يراود تفكيره، فرحل إلى «سنغافورا» ثانية لجمع الأموال، وهناك تولى إدارة مدرسة «الجنيد»،لكنه عاد إلى مدينة سيئون وفي قلبه حلم خاف يزمع على تحقيقه غير أن إرادة الله شاءت أن تفيض روحه، وأن يموت ولما يحقق حلمه الذي هو دون شك عظيم عظمة هذا العالم العامل رحمه الله.
أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد بن شهاب الدين
عالم حضرموت وشاعرها الأكبر
10/5/1341ه - 28/12/1922م
في يوم من أيام عام 1262ه /1846م كان العلامة عبدالرحمن بن محمد بن شهاب الدين يحتفل مع أسرته في حصن آل فلوقة في مدينة تريم من بلاد حضرموت بمقدم ضيف جديد على هذه الأسرة المشهورة بالعلم والعلماء، ولأن اسم أبي بكر ذائعاً في هذه الأسرة فقد سمى العلامة عبدالرحمن مولوده هذا القادم الجديد أبابكر تيسنا واستبشاراَ.
وفي جو أسري مفعم بالطمأنينة يرفرف عليه جلال العلم وجمال الأدب نشأ أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد بن شهاب الدين متفقها على أيد متوضئة: أبوه وأخوه عمر، ثم لفيف من علماء الحواضر والأربطة العلمية في نواحي حضرموت.
وكما أن معين العلم لاينضب، فإن ظمأه لايروى لكنه ظمأ لذيذ باعث إذا داخل شغاف القلوب أوسعها هداية، وأكسبها نورا، وجعلها متوثبة متنقلة بين رياض العلم، ضاعنة في بواديه وحواضره، تلقى بها الأسفار إلى أسفار أخرى من رحلات تنتابها المشقة، ولكنها لاتفتؤ
أن تعود بعد جني الثمار ذكريات لذيذة، تتملاها القلوب محبة مأسورة.
ومن أجل ذلك لم ينخ ابن شهاب ركابه في بلدة إلا وزمها نحو أخرى، فمن تريم إلى مكه المكرمة، إلى مدينة عدن، فلحج حيث مدح سلاطينها بغرر من قصائده، فرحبوا به وطلبوا منه الإقامة لديهم، فأبى وعلا صهوة ترحاله مواصلا السير من لحج إلى شرقي آسيا حيث تعاطى التجارة، حتى جمع منها الكثير، ثم عاد إلى بلده مدينة تريم بلسما أشفى الله به جراحا غائرة بين سلطان تريم، وسلطان الشحر، فانطفأت بسعيه نار حرب كان قد سعر لهيبها، ودقت طبولها. ويعود ابن شهاب من جديد إلى الارتحال متنقلا من تريم إلى عدن إلى مكه المكرمة والمدينة المنورة ومصر حيث مدح بعض أمرائها، ثم إلى الشام، والقدس، وتركيا حيث اتصل بالسلطان العثماني فأكرمه ونعمه، ومدحه بقصائد عديدة من بنات وجدانه، ثم رحل إلى مدينة «حيدر أباد»،وعمل هناك مدرسا، وظل متنقلا بين الهند وجزيرة «جاوى»، حيث تزوج هناك في مدينة «حيدر أباد»، وذاعت شهرته عالما شاعرا مصلحا له مكانة عظيمة لدى عامة الناس وخاصتهم ولما عاد إلى بلدة تريم كانت أخباره قد سبقته إليها فخرج الناس لاستقباله واحتفلوا بذلك احتفالا بهيجا.
غير أن صروف الحياة أسرجت له جواد الترحال من جديد، وضربت له موعدا لم يخلفه مكانا سويا، فعاد إلى مدينة «حيدر أباد» ليفرغ من أمور كانت عالقة هناك بينة العودة النهائية إلى تريم، غير أن موعده المضروب كان في انتظاره ليذهب إلى عالم الخلود والبقاء في موكب حفّته ملائكة الرحمة، وغشيته السكينة.
كان محاربا للبدع، سالكا طريق السلف الصالح ألف قرابة ثلاثين كتابا في علوم مختلفة افتتحها بكتابه ذريعة الناهض في علم الفرائض، وعمره ثماني عشرة سنة، ثم توالت بعد ذلك مؤلفاته، وجمعت قصائده في ديوان متوسط الحجم.
لم يقتصر دوره في الشعر على كتابته وإنما عمد إلى تلحين بعض القصائد فاشتهرت بألحانها وتناقلها فنانو حضرموت جيلا عن جيل ومن أمثله ذلك بعض الأغاني التي ترنم بها حفيده الفنان المهاجر أبو بكر سالم بالفقيه ومنها:
بشراك هذا منار الحي ترمقه
وهذه دور من تهوى وتعشقه
وهذه الروضة الغناء مهدية
مع النسيم شذى الأحباب تنشقه
وتلك أعلامهم للعين بادية
تزهو بها بهجة النادي ورونقه
فثم تلقى الحسان البيض عاكفة
في منظر ورده يزكو وزنبقه
حي الربوع بمرجان الدموع ولا
تبخل فمحمر دمع الحب أغدقه
من كل غان كان الليل قرته
والشمس غرته والسحر منطقه
لدن القوام دقيق الخصر خاتمه
لو شاء من غير تكليف يمنطقه
ماأجمل العيش في أكنافهن وما
أولى الفتى بنفيس العمر ينفقه
ألذه حيث كان الشمل مجتمعاً
وشره لاقضى المولى تفرقه
وله أيضاً:
حيِّ الربوع وقف بها مستخبرا
وادعُ التي فتنت محاسنها الورى
والثم ثرى تلك الخدود فأنت في
حي تحية غيده لثم الثرى
فلك الهنا ماعشت إن شاهدت من
سلمى محيّاها البديع المسفرا
خود محجبة كريمة منبت
لم تدع كسرى جدها أو قيصرا
لو أنها نظرت بعين رضى إلى
من بالجفا قتلت لعاش وعُمّرا
له أيضاً:
بهزك غصن القد ماذا تريدينا
وماذا بلغز العين بالسر تعنينا
وهل أنت زحزحت الخمار أم الصبا
أطارته حتى سبّح الله تالينا
أتسبينني من نظرة وابتسامة
وتصبينني من بعد خمس وخمسينا
بلى إن بذر الحب في القلب كامن
وإن طمست آثار صورته فينا
أحمد بن حسين بن محسن بن حسين بن عبدالله بن حسين بن أبي بكر بن سالم الشامي
بين التجارة والعلم
بعد 1347ه - بعد 1928م
في حضن أسرة علمية ولد، ونشأ، وتلقى لبان معارفه على يد أبيه، والإنسان ابن بيئته تؤثر فيه سلباً وإيجاباً ولذلك اشتهرت مدن بالعلم دون غيرها.
على أن حضرموت بلاد العلم والعلماء لها في التجارة والربح الحلال شأو بعيد أيضاً فقلما نزلت مدينة نشطة تجاريا في افريقيا أو في دول شرق آسيا أو في غيرها من بلاد الله إلا ووجدت أكابر تجارها من الحضارم الذين هاجروا إلى هناك يدعون إلى الله بسلوكهم الحسن وأخلاقهم الحميدة، وكذلك فعل صاحب هذه الترجمة بعد أن نال قدرا من العلم.
رحل إلى جزيرة «جاكرتا»،وعمل هناك بالتجارة حتى أثرى ثراء واسعاً، غير أن هذا الثراء لم يطمر فيه نفسية العالم الرباني الذي يجعل الدنيا وهباتها في يده لا في قلبه، فعمد إلى إنشاء المرافق الخيرية المختلفة،واشتهر بذلك في الجزيرة كلها، ولم يقم بذلك بغية الشهرة أو الثناء من الناس وإنما نفعا للمسلمين وعملا صالحا يدخره عند الله،وتصفه الكتب التي ترجمت له بأنه كان غيورا على الإسلام ساعيا في الدعوة إليه وظل هذا دأبه حتى توفاه الله.
أحمد بن زين السقاف
بشير الخير
«لايزال حيا»
علم من أعلام الاغتراب جمع بين الفن والسياسة ولد في مدينة الوهط من بلاد لحج، وفيها تلقى علومه الأولية ثم ابتعثه أبوه إلى العراق حيث واصل تحصيله في مدارسها الثانوية، فتخرج منها بجدارة والتحق بكلية الحقوق طالبا معروفا بتفوقه، مشهورا بحدة ذكائه، وفي كلية الحقوق هذه التقى بشباب متحمسين للعروبة، وتحرير أقطارها من الاستعمار، فشاركهم حماسهم وصار واحدا منهم، فاتهمته بعض السلطات بموالاته لحركة رشيد علي كيلاني، وواجه لقاء ذلك مصاعب، ومتاعب أجبرته على مغادرة العراق إلى الكويت حيث عمل مدرسا في مدارسها قبل الاستقلال، وظل على ذلك حتى أخذت الكويت استقلالها، فعمل في مجال الإعلام، وأسفر نشاطه الدؤوب عن موهبة إعلامية فذة ارتقت به حثيثا حتى وصل إلى منصب وكيل لوزارة الإعلام.
ونظراً لما أبداه من تفان في عمله هذا، وإخلاصا فيما يوكل إليه من المهمات، فقد استدعته الخارجية الكويتية، وعينته فيها بدرجة سفير، وأصبح رئيسا لقسم اليمن والجنوب العربي أنيطت به مهمة برنامج المساعدات المادية لليمن، فلم يتوان في ذلك وقدم كل مامن شأنه تطوير آلية هذه المهمة خدمة لبلاده وشعبه، وأثمر ذلك عن مشاريع خيرية كثيرة نعمت بها اليمن من مدارس ومستشفيات ومساجد وغيرها.
ويعد السقاف رائدا من رواد الأدب في الكويت، تولى رئاسة رابطة أدباء الكويت ومثلها في مؤتمرات أدبية عديدة.
أحمد بن سالم عمر
1341ه تقريباً - 1923م تقريباً
من حيث تنبع الرجولة، ويزرع الشموخ في بلاد العوالق السفلى من محافظة لحج، بل في مدينة المحفد بالذات جادت امرأة عولقية فاضلة بفتاها الوليد، ولقبته العزب،ومن عزة البادية العولقية أرضعته، ومن نسماتها الصافية، وفي مرابعها الضافية تلقى العبادة والغنى، فابتعثه والده بمنحة أبوية إلى حيث معاقل العلم، ومدارس التعليم، وأربطة العلماء في وادي دوعن، ومدينة تريم حضرموت ،فلازم عددا من العلماء، ثم رآها بلادا بعيدة عن مصادر الرزق والمكسب،فاستشار بعض اساتذته في الهجرة فأشاروا عليه بالهجرة إلى جزيرة «جاوى» ليجمع فيها بين العلم والتجارة والعمل، فاتخذ من البحر فجاجا، وامتطى ألواح السفن، ولبث أشهرا في عجاج الأمواج، حتى وصل إلى جزيرة «جاوى»، واستقر في مدينة «بوقور»،وفيها عمل، وتكسب في طلب الرزق بالتجارة والكد، حتى تيسر حاله، وفيها تزوج وأنجب، وفيها نشر اللغة العربية، والعلوم الإسلامية ،وصار علما يشار إليه بالبنان، ويضرب بنجاحه المثل، فلملم شتات الجالية اليمنية والعربية، وعمل على تثقيفهم وزرع روح المحبة والتعاون فيما بينهم.
ثم نزعت روحه إلى التصوف، وكثرة الذكر والعبادة، وكان قد ادخر من كسبه أموالاً تحمله ويبلغ بها شأوه، حتى عزم على أداء فريضة الحج، ورحل من اندونيسيا الى مكة المكرة وحج البيت الحرام، ولعله زار الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ودعا ربه كثيراً بأن يلقاه طاهراً من الذنوب، فاستجاب له العلي الأعلى فاجتباه وفاضت روحه في أرض الحرمين الشريفين في تاريخ حددناه سلفاً على وجه التقريب.
أحمد بن صالح بن عبدالله بن عيدروس المحضار
تاجر البن والزنجبيل
1409ه - 1989م
في بلاد بيحان منبت العمالقة العظام كان مولده وفي واد من أودية حضرموت يدعي حبان كانت نشأته فأخذ عن أزهار هذا الوادي صفاء النفس، وعن طيوره لحون الحياة، وعن أشجار الباسقة الثقة بالنفس وعن جداوله المتدفقة العزيمة والاصرار.
وإلى ذلك فقد هذبته حلقات العلم التي كان يرودها وأضافت إلى حلمه ووقاره رزانة العلم وهيبته.
ولما كان أبوه تاجراص فقد رأى أن يقف إلى جانبه في تجارته فسافر معه في رحلات تجارية أكسبته معرفة بالبلدان وتنوع مناخاتها وعادات أهلها فزاد ذلك في رصيده المعرفي.
غير أن التجارة لم تستطع أن تخمد جذوة الشوق إلى العلم في نفسه، فإذا به ينفرد برحلات سرية إلى حواضر العلم في حضرموت ليتلقى خلال ذلك جملة من العلوم على يد كبار العلماء.. وفي مدينة شبام حضرموت أنس بحلقات العلم فأنساه ذلك مهامه التجارية مع والده فاستغرق وقتاً طويلاً فما كان مكن أبيه إلا أن أرسل إليه من يستدعيه إليه على عجالة للعمل معه في تجارة البن والزنجبيل.
ويودع صاحب الترجمة أحبابه في شبام حضرموت ويعمل مع أبيه وتمر صروف الأيام سراعاً كل يوم ولها شمس وريح، ويرحل صاحب الترجمة إلى جزيرة «جاوة» بعد أن حج حجته الأولى ثم يعود إلى بلده ثم ينتقل بأسرته إلى مدينة عدن، ومنها رحل إلى بلاد الحجاز حيث استقر هناك حتى مات رحمه الله.
عرف عنه حرصه على الأذكار وانقطاعه إلى العبادة من صوم وصلاة مع شديد ورع وحسن خلق.
أحمد بن عبدالله بن محسن بن علوي بن سقاف بن محمد بن عمر بن طه السقاف
1369ه 1950م
في مدينة الشحر من بلاد حضرموت كان مولده، وفيها درج مع أتراب له على بساط الحياة العلمية حيث تتلمذ علي يد جماعة من علماء بلده، متردداً بينها وبين مدينة سيئون.
غير أن هجرته إلى الهند كانت لها اليد الطولى في توسيع مداركه ومعارفه كيف لا وقد التقى هناك بعالم حضرموت وشاعرها الأكبر أبي بكر بن عبدالرحمن بن شهاب الدين.
ومن الهند رحل إلى جزيرة «جاوة» حيث استقر هناك في مدينة «سوربايا» مثوى كثير من الحضارمة المهاجرين وهناك أنشأ مجلة شهرية سماها «الرابطة العلوية» وقد استمرت هذه المجلة قرابة أربع سنوات.
كما شارك بمقالات عديدة في صحيفة كانت تصدر هناك أسبوعياً اسمها «الرصلاح» ولم يكن عمله في الصحافة ليشغله عن تحسس أحوال المهاجر اليمني حيث التقي مع عدد من المهاجرين اليمنيين.
وعملوا على تأسيس كثير من الجمعيات والمدارس في مختلف المدن الاندونيسية.
وإلى جانب ذلك كان يمارس التجارة جاعلاً منها مموناً رئيسياً لأعماله الخيرية، كما كان يدير مصنعاً في مدينة «تاوي» الاندونيسية.
وفي أوقات فراغه كان يخلو بالقرطاس والقلم ليسجل خواطره ومشاعره شعراً ونثراً، ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا أن صاحب هذه الترجمة يعد من أوائل الروائيين اليمنيين حيث ألف رواية من جزئين سماها «فتاة قاروت» ورواية أخرى مجهولة الإسم، اضافة إلى ديوان شعر، وبعض دروس المحفوظات الطلبة المدارس الابتدائية.
رحم الله السقاف فقد كان بحق علماً من أعلام المهجر وأديباً لايشق له غبار.
أحمد عبده محمد رمادة
1462ه - 1943م
في مخيم الأمطار وقبة الأنهار «أديس أبابا» عاصمة بلاد الحبشة، ولد هذا العلم المهاجر من أبوين يمنيين، وكأن القدر تكفل بنشأته في مهجر أبيه ليتكلم اللغات الحبشية على أصولها ولهجاتها، أما اللغة العربية فقد رضعها من أبويه في عهد الرضاعة يمانية فصيحة.
ولما بدأ يتطلع لحياة الكسب والمال والأعمال، في زهور العمر من صباه، بل في طفولته هاجر إلى مدينة «أسمرا» عاصمة ارتيريا اليوم، ليبقى فيها ثلاثة عشر عاماص، يعمل بين الحقول مزارعاً، وبين الأسواق تاجراً بالمنتوجات الزراعية، وهو في سن المراهقة المبكرة.
ولما ملك من المال ما ملك على إلي «أديس أبابا» لا ليسترخي وينام، ولا لإجازة استراحة، ولكن ليبحث عن شريك ماهر من أبناء الجالية اليمنية، أهل الخبرة في التجارة الخارجية، استيراداً وتصديراً.. وبدأ يتعرف على إخوانه وأهله، من أبناء الجالية اليمنية، والزائرين لها، يتنسم أخبار بلاده، وحكومتها، وسياستها التي كانت تحت حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين وتاقت نفسه لتلقي العلوم والمعارف العربية من منبعها فعاد كمايعود الطائر إلى عشه، ووصل عاصمة بلدته مدينة تعز، ليلتحق بالمدرسة الأحمدية، ويقيم في جو الطلاب والمدرسين غير ان مشكلة السكن وعدم معرفته بمن يأوي إليهم للإقامة جعل مدينة تعز الرحبة تضيق في عينيه، وضاق بحاله ذرعاً، فهاجر إلى مدينة عدن يوم كانت تحت الاستعمار البريطاني، ثم ارتحل عنها إلى بلاد المملكة السعودية، ثم سافر عبرها إلى القاهرة، وكانت كل هذه الأحداث من حياته في غضون سبعة عشرة عاماً لا سواها، والتحق في مصر بالأنهر الشريف، حتى نفد مابيده من مال، ورأى مصر على جمالها ورحابتها أضيق مسم الخياط، إذ لا منام ولا مقام، فشمر عن ساعد الجد، وعاد للاغتراب في بلاد السعودية يعمل في مجالات البناء والتوزيع ثم بحاراً.
ولما جمع ثروة تشجعه على العودة إلى «أديس أبابا» عاد وعمل تاجراً مرموقاً مشهوراً، فتزوج من يمنية هي الأخرى مغتربة، وأنجبا خمسة من الأولاد ذكوراً وإناثاً.
وفي أديس أبابا تربع أحمد رمادة على عرش النشاط الزراعي والتجاري، وكون ثروة مالية مكنته من التواصل المستمر بوطنه وأهله، وجاليته اليمنية، والإصرار على تعليم أولاده جميعاً حتى تخرجوا من المرحلة الجامعية جميعاً.
كانت النكبة القاصمة التي مني بها هذا العلم المهاجر، هي الانقلاب الشيوعي على حكم الملك «هيلاسي لاسي» امبراطور أثيوبيا، فبمجرد أن سيطر «منجستو هيلاماريام» على الحكم أصدر قرار التأميم، ومصادرة الممتلكات الخاصة وألقى بأصحاب الأموال والتجار في غياهب السجون، بتهمة الإقطاع والرأسمالية وفي مقدمة هؤلاء صاحب الترجمة.
ولبث في السجن عدد سنين وضاق به الحال، فصبر لفجائع القدر حتى زال الكابوس وتفككت أوصاله فعاد في غضون سنوات قليلات إلى مكانه اللائق، ومجاله المفضل فأصبح تاجراً من جديد ووكيلاً لأشهر المصانع والشركات الدوائية في كثير من البلدان ولا زال في أديس أبابا علماً يشار إليه بالبنان.
أحمد بن مشهور الحداد
1416ه - 1996م
ولد في بلدة قيدون إحدى قرى وادي دوعن في حضرموت ونشأ فيها نشأة علمية في أسرة أنجبت الكثير من العلماء الأفذاذ، ولأن تحصيل العلوم كانت عادة درج عليها عمالقة هذه الأسرة منذ نعومة أظفارهم فقد التحق صاحب الترجمة برباط بلده، وأكثر من التنقل بين حواضر العلم وأربطته في حضرموت حتى إذا نال حظاً وافر منه دعاه داعي الدعوة إلى الارتحال في بلاد الله داعياً إلى الإسلام همه أن يهدي الله به ولو قلب رجل واحد فمضى إلى شرقي آسيا، وشرقي افريقيا لأجل هذا الهدف السامي، تتألم نفسه لكل تائه هعنالهدى فيغمره شعور طافح بالمرارة، وكأن هدايته إلى نور الإسلام واجبه وحده، ولأجل ذلك شمر عن ساعد الجد، ومضى في دعوته متبعاً أسلوباً رصيناً عنوانه الصدق، وقوامه «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» وجادلهم بالتي هي أحسن» النحل آية 125، ورديفه العلم والإخلاص، فأسلمت على يديه جموع كثيرة قيل أن عددهم يزيد عن سبعين ألف شخص، ويالله من مفخرة عظيمة ورصيد هائل يحق له أن يفاخر به هذا العملاق الشامخ، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لئن يهدي الله بك قلب رجل واحد خير لك من من حمر النعم».
ولم يكن هذا العدد الهائل يمثل رقماً يغري الحداد بالتوقف أو يدعوه إلى السكون والدعة ولكنه كان حافزاً أقوى لإنقاذ المزيد، فزادت حركته ونشاطه، وخامره خوف عاصف على حديثي العهد بالاسلام من أن يصطدموا بالخلافات الفقهية، أو المماحكات المذهبية، فعمل على جعل أول مايقدم لهم هو أمر العقيدة فألف في ذلك كتاباً سماه «مفتاح الجنة» حاول أن يقدم فيه عقيدة الرسلام ببساطة ويسر، حتى يسهل عليهم التعاطي معها بعيداً عن الغلو والإفراط.
وظل الحداد على حاله من النشاط والجد ولمثابرة لنشر الإسلام، حتى لقي الله في بلاد الغربة غريباً، فطوبى للغرباء.
أحمد بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي
1419ه - 1999م
علم من أعلام الاغتراب اليمني، كان نبراساً للحكمة اليمانية، مشعلاً وضاءً في ليل الكآبة والفقر والمرض، عالم عارف، أديب، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مولده في قرية الطفن، من قرى المحاجر، من بلاد عتمه، غربي مدينة ذمار.
التقيته في عامه التاسع والتسعين، جواباً بنظار ته الشمسية وعصاه المعقوفة القصيرة التي يستعين بها فقط عند قعوده، وقيامه، وتتعلق ذراعه متدلية عند ساقه، تهتز مع فوطته السمرنداوية البيضاء المخططة وهو يجوب بقدميه السمراوين تلك الشوارع المظللة بأشجار الزينة والورد والفاكهة في الحي الصيني، أرقى أحياء مدينة المهجر الساحرة «سوربايا» تلك المدينة المعتدلة جواً طيلة أيام العالم، إذ لا تعرف سموم الصيف ولا زمهرير الشتاء.
هذا المهاجر اليمني كان آية كبرى على عناية السماء، فلقد ألفيته يتحدث عن معاصرته للإمام محمد بن علي الإدريسي حاكم المخلاف السليماني، ويروي عن دولته ونظالمه وأسماء رجاله وبقاع إمارته، كما لو كان ودعهم منذ شهر واحد، بل لا يزال ينشد ويرتل أناشيد الفلاحين، ومواويل الحقول وأشداء الحاطبات في سعف جبال عتمة كما لو كان ابن عشرين عاماً.
أديب متقن للغة العربية الفصحى، يحب الشعر العمودي الفصيح بل ويقرضه، خط مبدع، يرتجز الأمثال والحكم، ويتمثل في كل ما تقع عليه عينه بأبيات من عيون شعر المتنبي وابن الرومي، وحافظ ابراهيم وأحمد شوقي، رأيته عندما سمع بقدومي إلى «يوربايا» فوفد إلي حيث مقامي، ودعاني لطعام الغداء في داره الذي تملكه من كد يده، رأيته في منزله الشاعري المرتب، ذي المكتبة العتيقة المتنوعة من الكتب القديمة والحديثة المعاصرة بكل جديد.. ورأيت ألبومات مؤرشفة بالصور، التي لم يعد من أصحابها حياً سوى هذا العلم الخفاق الذي ما زال يتغزل بزوجته مريم، التي بلغت الثمانين من العمر وتقيم في ظلال دوحة الحب الوفي، فتسمعه وهو يحدثني عنها حديث العاشق، الولهان فكأن قيس وهي ليلى.
هاجر من اليمن وهو ابن خمسة عشر عاماً إلى أخيه القاضي عبدالرحمن بن يحى المعلمي الذي كان يكبره بعامين، وكان يعمل قاضياً في دولة محمد بن علي الإدريسي في المخلاف السليماني، فبقي مع أخيه حتى توفي محمد بن علي الإدريسي سنة 1341ه / 1923م وخلفه في الإمارة ولده علي بن محمد الإدريسي فساءت
العلاقة بين الإدريسي ،وبين الملك عبدالعزيز ،وتدهور وضع الإدريسي،واختلف مع القاضي عبدالرحمن المعلمي فانتقل القاضي عبدالرحمن مع أخيه صاحب الترجمة إلى مدينة عدن،ومكثا فيها ثلاثة أشهر،ثم سافراً بحراً إلى مدينة عدن،ومكثا فيها ثلاثة أشهر،ثم سافرا بحراً إلى مدينة المكلا،ومنها ركبا سفينة سورية إلى «ممباسا» في كينيا،من بلاد افريقيا،ومكثا شهراً،ثم سافرا إلى «زنجبار» ،من بلاد افريقيا أيضاً ثم سافرا بحراً إلى«بمباي»،ومنها إلى مدينة «حيدر آباد» في الهند،وكان أميرها نظام علي خان مسلماً سنياً يحب العلم والعلماء،فعمل القاضي عبدالرحمن أميناً لدى إحدى المكتبات هناك.
أما صاحب الترجمة فقد رحل إلى «سوربايا» من بلاد أندونيسيا مع سليمان مرعي صحاب المطبعة المشهورة هناك ،وعمل معه في مراجعة الكتب وتصحيحها للطبع لمدة خمس سنوات،ثم ترك هذا العمل،واشتغل بالتجارة في دكان مستقل كان يبيع فيه الحلوى واللبان،وأشياء أخرى كانت تأتي في مدينة عدن،وقد شجعه على ذلك رجل أميٌّ عاميُّ شهم من نهم يعمل بالتجارة يدعى علي بن ناصر النهمي.
وكان صاحب الترجمة قد بدأ تجارته بمبلغ لايتجاوز مائتين وخمسين روبية،وبعد عامين توسّع رأس ماله إلى ألف روبية،ثم عاد علي بن ناصر النهمي إلى بلاده اليمن،وترك دكانه وتجارته لصاحب الترجمة الذي تحول إلى تجارة الملابس،واستمر في دكانه هذا ستين عاماً،تزوج بامرأة تدعى مريم بنت منصور بن صالح الشميري التي وصفها بقوله:«لافضيلة إلا في مريم أم عيسى ،ومريم أن يحيى».
ويقصد بالأخيرة زوجته التي أنجبت له اثنى عشر ولداً:محمد، فريدة،عزيزة،بلقيس،يحيى ،يونس ،فريد ،نوفل ،نزار زكية،ناصر ،عزة،وقد كبر هؤلاء الأولاد وتعلموا وصار منهم الطبيب والمهندس والمحامي والتجاري.
وصاحب الترجمة أديب ،يحب الشعر ويهوى جيده،وهو سني العقيدة يكره الغلو والمغالين،ويعيب على النزعات الخرافية في «سوربايا» ،والمنحى الصوفي المفرط في الغلو لبعض الأسر العلوية،كما أنه يكره الحجاب الأسود.
يقول:«الإسلام في اندونيسيا ممزوج بالفنون فالمرأة تمارس الذكر والتلاوة،وترتدي الحجاب، وتمارس الرقص والغناء في آن واحد،فالذوق الفني الكبير».
وفي مهجره مدينة «سوربايا» أغمض عينيه بعد مائة عام حافلة بكل رائع ،ومدهش.
أما أخوة عبدالرحمن فقد رحل بعد الاستقلال إلى باكستان،وتزوج فيها في «كراتشي» ثم رحل إلى مكة المكرمة،وعمل فيها مدة تزيد على عشرين عاماً،ومات فيها،وترك مكتبة فيها قرابة 700مجلد،أوقفها على مكتبة الحرم.
إسماعيل علي عبدالله صالح
مابالك ببحار هاجر عقب أواخر أيام الحرب العالمية الأولى ،وكان يعمل وقّاداً للفحم في درك السفينة وهي تجوب المحيطات الأوروبية والآسيوية حاملة الأغذية والعتاد الحربي وتتنقل من موانئ جنوب بريطانيا حتى سواحل المحيط في النرويج فإلى ميناء «سان فرانسيسكو» في ولاية «كاليفورنيا» ،وعوداً إلى موانئ الشرق في «سنغافورا» ،و«هونج كونج» بين الحطام والركام،والأساطيل المدمرة والغواصات الغارقة..كذلك كان الحاج المرحوم إسماعيل علي عبدالله الذي هاجر من قريته الخريبة من عزلة الأخدوع في ناحية مقبنة بمحافظة تعز سنة1341ه/1923م.
كانت أمنياته في حياته كثيرة،ولكن الأوضاع المادية والأمنية عقب انهيار سلطان الدولة التركية من الولايات العربية كانت صعبة للغاية.
لم تكن الدولة المتوكلية للإمام أحمد بن يحيى حميدالدين قد بسطت نفوذها تماماً على القرى في غرب اليمن، ولاتزال حكومات المشائخ والمحللين تتصارع على النفوذ،والفوضى عارمة إذ لا وجود لدولة صارمة،ولاسلطان يرعى الحالات الضرورية للشعب،حينها خرج الحاج اسماعيل بن علي مهاجراً يتنقل إلى مدينة عدن راكباً قدميه فقط،وليعمل في ميناء عدن حتى يجمع «نولون» أجور السفينة التي تقله إلى ميناء «كاردف» من المهجر البريطاني ومن ثم يلتحق بالملاحة البحرية؛ليقطع سنوات من ريعان شبابه وزهرة فتوة عمره بين الفحم والحجر في جوف سفينة عملاقة تمخر المحيطات فتبقى شهوراً لا يري من عليها إلا سماء فوقهم،وبحراً من حولهم،وأسفل منهم.
كان يحدثنا وهو شيخ ونحن صبية بين يديه ،عما رأى وشاهد من عجائبه وغرائب في أسفاره، وإبحاره منذ عقود من الزمن حتى كان يروي قصة بلاد لم تغرب عنها الشمس قط،وهي آخر الدنيا كما يظن وعن بلاد لم تشرق الشمس عليها إطلاقاً كما يظن وكان يذكر عن بحر الظلمات، ولانهاية له،ويحدث عن جزر فيه مليئة بالفواكه ولاتجد آكلاً ولا قاطفاً لها.
وكانت حكايات الخوف من الغرق وتلاطم الأمواج وهياج البحر،ووحشته بالليل،وإملاله بالنهار لاتكاد تنقطع عن لسانه، فلا يعلم شيئاً عن الخرائط الأرضية ولاجغرافية القارات ،ولا أسماء المحيطات،لعله صادف أياماً أواخر شهر يونيو من سني الشمس في«أسكندنافيا» الأوروبية، فلم ير فيها غروب الشمس وكانت حدائق «كالفورنيا» تستأثر بإعجابه ،خاصة وأنه من قرية شديدة الجفاف،شديدة الحر،قليلة المطر لاتزرع سوى حبات الذرة الحمراء ،وعشب الجبال للمواشي؛ فكنا ننصت إلى أحاديثه وأسماره.!وكأنه رأى العالم الآخر في الملكوت، أو شاهد مابعد الموت والنشور.
وعاد بعد بضع سنوات من الاغتراب ميسور الحال ،وافر الرزق،علماً في بلاده؛ فعمد لإصلاح شأن أسرته وأهله،واشترى من مزارع الوادي ما أمكنه،وسعى لعمارة مسجد في قريته،واحتفر بئراً،وجالس الفقهاء،وحسن من علمه،وسافر للحج مراراً على أقدامه يحمل على كتفه ماءه وغذاءه ،وكان ثقة قومه،وأميناً على عقود المعاملات الشرعية،ومصلحاً بين الناس زاهداً ،وانقطع للزراعات والحقل،وتنسك ،ولازم المسجد أربعين سنة من خواتيم عمره يؤذن ويؤم الناس ،عبّادة،ويروي ذكراه وذكرياته لتلاميذه في حلقة درسه الذي كنت واحداً من رواده حتى وافته المنية على كبر ومرض أقعده عشر سنين في سريره عن عمر ناهز التسعين.
فرحمك الله وطيب ثراك،وخلفك خيراً في أولادك وأهلك.
حامد بن أبي بكر بن حسين المحضار
1323 1382ه - 19051962م
في أسرة علمية في حضرموت نما أصلها، وزكا فرعها ظهر الأديب العلامة حامد بن أبي بكر بن حسين المحضار،ومثله مثل أترابه من أبناء هذه الأسرة المباركة كانت مجالسة العلماء،والدراسة عليهم شغله الشاغل يتنقل بينهم من دوحة إلى أخرى طليقاً يتفيا ظلال المعرفة ثرية ندية،ولما كان الأزهر الشريف منارة علم ومشعل هداية فقد كان حلماً للمحضار أن تظله أروقته طالباً يرتدي الجبة الطويلة والعمامة الأزهرية المميزة،فعاش لهذا الحلم يحمله سراً خافياً بين جنبات قلبه حتى كتب الله له نيل مراده،وتحقيق طموحه ،يساعده في ذلك أبوه وزير الدولة القعيطية في حضرموت.
وتمر السنوات ويعود المحضار إلى وطنه تحوطه هالات التبجيل،وجلال العلماء ، ويستقبل أبوه من منصبه الوزاري، ويلتفت السلطان القعيطي يمنة ويسرة باحثاً عمن يقوم بسد هذه الثغرة،وتقع عينه على العالم الأزهري كيف لا وهو ابن الأسرة العريقة علماً ودراية وطيب أخلاق،وكريم محتد.
غير أن نفس المحضار كانت أكبر من أن يقيدها مكتب فخم بأربعة جدران،وأعمال مكرورة رتيبة ،فلم يدم لذلك طويلاً في منصبه الوزاري إذ أن لاعج الحنين إلى البلاد المجهولة بدأ يعظم في نفسه،فطاوعه فرحاً جذلانا،ولأن تسعة أعشار الرزق في التجارة فقد جعلها وسيلة تمكنه من التعرف على بلاد الله غرضاً تجمد عنده أحاسيسه،وتموت مشاعره ومداركه.
وفي مدينة «أسمرة» من بلاد أريتريا اشتهر التاجر المحضار بحنكته،وحسن أخلاقه وكرمه ،فحملت المطي أخباره إلى بلاد بعيدة وتخطت الحواجز حتى وصلت إلى أسماع إمام اليمن أنذاك أحمد بن يحيى حميد الدين،فاستدعاه إليه يستخلصه لنفسه،ولمح فيه قدرات جبارة صنعتها مجالس العلم ،وتجارب وفيرة في خوض غمار الحياة فعينه الإمام سفيراً له في اثيوبيا،وظل على ذلك أعواماً،ثم انتقل إلى مدينة عدن وظل متردداً بينها وبين مدينة صنعاء.
كانت تربطه بالشيخ عبدالله بلخير وزير الإعلام السعودي آنذاك صلات قوية،ولأجل ذلك منحه الشيخ بلخير وظيفة في وزارته وجعله عضواً في رابطة العالم الإسلامي ابتدأ تأسيسها ،فعمل في بعض أقسامها ثم بدا للأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الطيران والدفاع السعودي أن يجعله مديراً لفرع الخطوط الجوية السعودية في مدينة عدن.
كان شاعراً مسكوناً بقضايا أمته ألف كثيراً من الكتب الإسلامية، ولاتزال قصائده في مقارعة الاستعمار البريطاني مشهورة محفوظة في أذهان كثير من معاصريه،ومن ذلك قوله في «إنجراس» المستشار البريطاني لمستعمرة عدن:
وأتى «انجراسّ» نائباً عنها فلا
أهلا به من مجرم جلادِ
بقدومه في شؤمه وسمومه
وضع البلاد على شفا الأنكادِ
حسن بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالقادر السقاف
1303 بعد 1342ه
1886 بعد 1924م
من أسرة مشهورة بالعلم والفضل نشأ صاحب هذه الترجمة في مدينة سيئون حيث تكتظ المساجد بعشرات الحلقات العلمية.
ومايكاد يصل إلى يفاعة شبابه حتى حفظ كثيراً من المتون العلمية،ودرس على كثير من العلماء ،وزاد على ذلك أن رحل إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة طلباً للعلم.
وللغرض ذاته رحل إلى أندونيسيا حيث اشتهر هناك كثير من علماء حضرموت فأحب أن يأخذ عنهم،وهناك تولى إمامة مسجد «السقاف» ،في مدينة «الصولو» في جزيرة «جاوة».
ولم تمض أعوام على اغترابه حتى أرقه الحنين إلى الوطن فعاد إليه عودة الطائر الميمون إلى عشه، وعلم الخاصة والعامة بعودته فاحتفوا بذلك احتفاء بالغاً، ثم عرض عليه القضاء فامتنع تعففا وتزهدا منه.
ورحل إلى مدينة شبام حضرموت خوفاً من آن يُفرض عليه هذا المنصب.
كان فاضلاً مشهوراً بالزهد والورع حتى قال عنه العلامة علوي بن شهاب الدين أنه يشبه أويس القرني سيد التابعين بزهده وورعه.
الحسن بن محمد بن محمد بن عبدالقادر بن محمد بن عبدالولي بارجاء
16/8/1255 1341ه
24/10/1839 1923م
في رباط مدينة سيئون من بلاد حضرموت تلقى معارفه الأولية،ثم رحل إلى عدد من المشائخ في حواضر العلم في حضرموت مستزيداً من طلب العلم،واستمر على ذلك حتى أجيز بالإفتاء والتدريس،وتلفت يمنة ويسرة فوجد حوله مئات من العلماء في بلاد حضرموت يقومون بواجبهم في الإفتاء والتدريس وارشاد الناس إلى نهج الفلاح، فاستقر في نفسه أن يرحل خارج وطنه داعياً إلى الله حيث تدعو الحاجة إلى وجود دعاة مخلصين يعلمون الناس شئون دينهم،فرحل إلى جزيرة «جاوة» في أندونيسيا،وهناك عمل مدرساً،تكتظ حلقة درسه بعشرات من طلبة العلم الذين توافدوا إليه من مختلف انحاء الجزيرة لما سمعوا عنه من مكارم أخلاق وسعة علم ومعرفة.
وفي ذات الجزيرة شاءت إرادة الله أن تفيض روحه بعيداً عن وطنه ..فرحمة الله تغشاه.
حسن بن علوي بن شهاب
الوطن الحاضر أبدا
1333ه - 1915م
من رباط تريم العلمي كانت البداية..طالباً لاينفك عن مجالسة العلماء.. ينهل من علومهم ، ويتخلق بأخلاقهم،ويعي عنهم مظاهر الرجولة،وسمات الصلاح والاستقامة،ورويدا رويدا حتى صار واحداً منهم استأثر به رباط تريم من بين عشرات الطلاب مدرساً تعقد حلقة درسه على عدد وفير من تلامذته ومريديه.
ولأن نفسه كانت تواقة إلى السياحة في أرض الله،فقد امتطى صهوة الاغتراب إلى «سنغافورا» تلك البلاد القاطنة خلف البحار سمع أن فيها قوماً من أبناء بلده قد سبقوه إليها،فرحل إليهم وكله أمل في أن يصير واحداً منهم يرود آفاق التكسب الحلال،والمعرفة التي يرودونها . فما أن وصل إليهم حتى كان اسمه قد سبقه،فاحتفوا بمقدمه أيما احتفاء،وبدأ يتعاطى العمل التجاري حتى كون لنفسه ثروة لابأس بها.غير أن إيمانه بالعلم وتمسكه به ألقى في روعه أن الثروة الحقيقة في العلم والمعرفة،قوام شخصية الإنسان،وتاج كماله وجلاله،فسعى حثيثاً نحو العلم،ولم يقتصر نشاطه العلمي على الأنساق العلمية التقليدية بل إنه امتد ليشمل الصحافة التي بدأت فكرة تتذبذب في ذهنه الوقاد عند وصوله إلى هذه البلاد ومافتئتت أن صارت حلماً يراوده صباح مساء،حتى إذا ما امتلك الإمكانيات اللازمة لإصدار جريدة أعلن عن ميلادها متنوعة تحمل طي صفحاتها زاداً ثميناً من العلم والمعرفة.
ولما كان حبه للوطن قد ملك عليه قلبه وجوارحه فقد أبى إلا أن يكوّن اسم هذه الجريدة «الوطن»..وكأنه وجد فيها صورة مصغرة من وطنه الذي ينشده مفعماً بضياء العلم، وشعاع التنوير.
حسين بن محسن بن حسين بن عبدالله بن حسين بن أبي بكر بن سالم بن عمر الشامي
السائح الداعية
1347ه - 1928م
من قرية من قرى حضرموت تدعى سدبة ولد حسين الشامي ،وماكاد يفتح عينيه على الحياة من حوله حتى رأى إقبال الناشئة على حفظ القرآن الكريم والمتون العلمية،فدرج معهم على ذلك ،وتعددت رحلاته في بلاد حضرموت،متلقياً عن جملة من الفقهاء والعلماء حتى نبغ في علوم كثيرة،غير أن نبوغه هذا لم يركنه في زاوية من زوايا المسجد للتدريس وإن كان ذلك ضريبة ينبغي أن يدفعها كل عالم غير أن الشامي أدرك بحسه الواعي أن بحر العلم كبير لاساحل له،وأن هناك علماء آخرين خلف البحار والقفار لهم يد طولى في العلوم،ولابد له من التتلمذ عليهم والأخذ عنهم،فزم ركابه قاصداً الحرمين الشريفين،طالب علم كلما شرب من كؤوس المعرفة استزاد.
وفي مكة المكرمة أقام ثماني عشرة سنة على هذه الحال حتى أحس أن مامعه من علوم ينبغي أن تعطي ثمارها وأن تسخر في سبيل الدعوة إلى الله،فخرج إلى بادية الحجاز داعياً إلى الله على علم وبصيرة، فكان له ماكان من غرس وثمار،ثم عاد هاجس التطواف يؤرقه من جديد فحزم أمتعته هذه المرة تجاه اندونيسيا،وفي جزيرة «جاوة» ظل أكثر من عشرين عاماً يفتي ويدرس ،عالماً له مكانة طيبة في قلوب الناس استحقها لعلمه وورعه.
ولما كانت صورة الوطن هاجساً دائماً في النفوس الكبيرة فقد لملم الشامي أمتعته للعودة إلى صدر أمه قرية سدبة ليستريح هناك من شعثاء السفر وآلام التنقل،وما أن وصل إليها حتى وافاه أجله المحتوم فنام على ثرى قريته هادئاً مطمئناً بعد عمر مثمر قضاه هذا الداعية السائح.
زين بن عبدالله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
عاشق الغَنّاء
110530/12/1157ه - 1694 2/2/1745م
تعود قلبي الحزن مذ فارق الغنا
فصرت حليف الوجد في الحس والمعنى
متى مر بي ذكر الربوع وأهلها
تهيج أشواقي إلى ذلك المغنى
منازل أحبابي وأهلي وسادتي
وقصدي ومقصودي ومطلبي الأسنى
رعى الله أياماً تقضت بسوحهم
بعيشٍ هنيء ما ألذ وما أهنى
وماذا عساه من يفارق تريم الغناء إلا أن يقول شعراً مثل هذا..يتقاطر حزناً،وينساب ذوب قلب وعصارة وجدان.
وهذه الأبيات الحدادية التي كتبها الحداد في مهجره ليست إلا غيضاً من فيض، وتأمل معي كثيراً من قصائده التي يستهلها بذكر الديار والحنين إليها،والشكوى من لواعج الفراق لا على أن ذلك سنة درج عليها الشعراء،ولكن لأنه مسكون بحب الوطن،عاشق لترابه. لا تفتؤ الذكرى أن تملي على مسامعه حديث عهد مضى،فيجب في الشعر متنفساً لذلك:
كرر على سمعي حديث الوادي
فلنازليه منازل بفؤادي
لله أيام خلت في حيهم
تربو مباهجها على الأعيادِ
آهٍ على تلك الديار وأهلها
من حادث الدهر الخؤون العادي
أبكيهم بدموع حزنٍ مكمدٍ
من قلبي الولهِ الكئيب الصادي
üüü
يحنُّ قلبي لذكر الربع والدار
والشوق يبعثه فكري وتذكاري
ياليت شعري متى أحظى بزورةِ من
نأت ديارهمُ عنّي وعن داري
üüü
يشتاقُ قلبي إلى عربٍ بذي سلمٍ
والعين تهمي بدمع ممزجٍ بدمِ
طال الفراقُ على من لاقرار له
يمسي ويصبحُ في همٍ وفي سأمِ
رعياً لأيامنا الغر التي سلفت
مع الأحبة في عيش الصبا البشمِ
والبيض ترفلُ في حسنٍ وفي خفرٍ
لايلتفتن إلى عرب ولا عجم
من كل غانية هيفا خدلجة
غرا محجبة في موقفٍ عمم
كأن غرتها بدرُ وقامتها
غصنٌ وشعرها من حندس الظلم
ومثل هذه الأبيات كثير ظل الحداد يؤنس نفسه بها في غربته.تسد عليه مشاغل الدنيا وصروف الدهر أبواب العودة إلى بلده طلباً للرزق والكسب الحلال، فيحلق عبر أجنحة الشاعرية إليها معانقاً أفراحاً تولّت،وأياماً مضت،وليالي كانت أشبه بفراديس جمعت بينه وبين أحبابه وأقربائه،حتى إذا ما تقطعت أسباب الخيال بدا له الواقع وجهاً كالحاً متجهماً فلا يملك إلا أن يحرك أوتار القصيد نغماَ حزيناً يتقاطر لوعة،ويهمي شجناً ،فإذا ماحاول النسيان جدد التذكار لوعته وشجنه،وكيف ينسى الغناء وعلى حضنها ولد،ومن أنفاسها تنسم عبير صباه،وعلى قناديل مساجدها قرأ أبجدية إنسانيته حتى كأن له في كل محراب ذكرى ، وفي كل منتدى علمي سفر شوق كتبه بمداد قلبه وسطره بذوب أحاسيسه ومشاعره.
إن الشاعر يرزح وهو في وطنه تحت أثقال غربة روحية خانقة،يستنشق دخانها الثقيل في كل مظاهر التفسخ الشعوري،والانحلال العاطفي ،وفي كل صور القبح المعنوي والحسي الذي تغرق به الحياة من حوله،فكيف به وقد نأى عن وطنه إلى بلاد لم يأنسها ،ووجوه ليس له معها سابق ألفة،ولاقديم وداد...إنها غربة فوق غربة.. ظلمات بعضها فوق بعض.
وهذا بالضبط ما ظل عالقاً في نفسية الحداد،وخالط دم قلبه حتى وقد ألقى عصا الترحال واستقر به النوى في مدينة «صير» العمانية فقد ظل شعره متشحاً هالة من الشجن والشوق إلى مراتع صباه،ومغاني شبيبته.
وإذ كان الحداد قد تغنى شعراً ببلاد أخرى غير بلده فإنما كان الباعث لهذا التغني انبهاره بهذه البلاد لاحبها لها وهو انبهار آني سرعان ما تقتله الألفة،وتمحوه المعايشة،ومن هذا الباب كتب قصيدته في مدينة البصرة التي كانت محطة من محطات سفره الطويل:
ما أحسن البصرة الفيحا وأزهارها
كأنها جنة قد طاب مجناها
نهر الفرات الذي طابت مواردهُ
يطوف حومتها الخضرا وأرجاها
يأتي إلى أهلها يروي البقاع ولم
يترك زيارتها يوماً وينساها
فأي جمال يمكن أن يدرك في هذه الأبيات وهي تقرير سطحي عن مدينة فيها نهر يروي بقاعها الخضراء.
إن قلب الحداد ظل عالقاً بواحدة أخرى من بنات التاريخ وهبها فيض وجدانه وظل يتغنى بها حتى أسلم روحه لبارئها في مدينة «صير»،وفي قلبه شوق عارم لمدينته الغناء التي فارقها ذات يوم على أمل العودة غير أن الرياح جرت بما لاتشتهيه سفنه التي أبحرت..دون عودة.
سالم بن عبدالقادر بن حسن بن عمر السقاف
مهجر تيمور
1357ه - 1938م
بين جزيرة الشمس، ومطلع القمر «تيمور» بسط الله الرزق والخير لمن يتطلع إليها تاجراً أو صانعاً أو مدرساً،أو مزارعاً.
قد كان سالم السقاف واحداً من أولئك الأعلين عزماً وهمة،فآوى إليها مهاجراً من ديار مدينة سيئون في حضرموت،وبدلاً من أن يتذاوب وينصهر في ذلك المجتمع الآسيوي ولغاته الكثيرة ،فقد عقد للغته العربية لواء لاينطوي،ونشرها في أرجاء «تيمور»،وجزيرة «منادو» الأندونيسية.
وأقنع أهالي الجزيرتين بأنها لغة العلم،والدين والثقافة،وأقام نفسه مدرساً لآداب اللغة العربية والدين الإسلامي.
ولم يشغله ذلك عن نيل مناه في العمل التجاري،قد كان ماهراً في تجارته،مرزوقاً في صفاته التجارية، ورحلاته المالية حتى كان يعد من أصحاب رؤوس الأموال المرموقين،فأحيا في نفسه إرادة التفرغ للتدريس،والعبادة ونشر العلم،غير منتظر من أحد عطاء يساعده به على مآربه حتى إذا دنا منه موعد اللقاء مع ربه،وجده الموت قد عاد إلى بلدته سيئون التي درس فيها معارفه وعلومه حين كان طفلاً يافعاً ،فلحق بالرفيق الأعلى بعد أن بلغ السابعة والسبعين من العمر.
فرحم الله هذا الطود الشامخ ورضي عنه.
سالم بن علي خرد
داعية من حضرموت
13/4/1398ه - 22/3/1978م
في مدينة تريم الغناء من بلاد حضرموت ولد ونشأ،وفي أروقة مساجدها التي لاتنفك مكتظة بالعلماء تفتحت مواهبه العلمية ندية رقراقة لاتشوبها شائبة من جهل،أو تعصب.
ولما لمح فيه شيخه «عبدالله بن عمر الشاطري» مخائل النجابة والذكاء كان يكلفه بإدارة حلقة الدرس نيابة عنه وهو لايزال طالباً،وحين شعر أنه حاز على قدر من العلوم يؤهله لأن يكون داعية إلى الله.رحالة في سبيل نشر دعوته هاجر إلى مدينة جدة في المملكة العربية السعودية،وجعل منها محطة ينطلق منها إلى بلاد كثيرة دون كلل ولا ملل،فمن مصر إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى أندونيسيا إلى غيرها من الدول التي كان يرودها محاضراً وخطيباً أعطاه الله سبحانه وتعالى من بلاغه القول وقوة الحجة مايشنف به الآذان ويأسر القلوب ويسحر الألباب ،وفي إحدى مستشفيات مدينة جدة رقد رقدته الأخيرة. بعد عمر حافل بالدعوة قضاها ساعياً لتحقيق ولو جزء من قوله صلى الله عليه وسلم « بلّغوا عني ولو آية».
سالم بن عمر بن حامد بن عمر بن محمد السقاف
شاعر قتله قلبه
1294 1324ه
1877 1906م
في ضاحية من ضواحي مدينة سيئون من بلاد حضرموت ولد ونشأ في بيت علم وتقوى وأدب متشحاً بردة الطهر والعفاف منذ صباه لا يعرف نزوة ولا هفوة،مقبلاً عن العلم ،مسجور قلبه بالنقاء والجمال، يصغي إلى أصوات البلابل فيخالها معزوفة ملائكية تناغي قلبه،ويتأمل في الطبيعة الفاتنة من حوله فيجد كل زهرة بسمة حانية من شفاه أسطورية تناجيه.
إنه شاعر مسكون بالوجد...متصوف ناسك في محاريب الحب والجمال.
التقى بواحدة من بنات حواء، فرأى فيها مثار خياله ،ومبعث شوقه،فإذا بها ملء سمعه وبصره،فعاش حباً جارفاً لها وبها،كلله الطهر بجمع الحبيبين على أساس من الشريعة متين، وعاش معها أياماً مجنحة ترفرف في فضاء المحبة الخالصة،وسكنت إليها نفسه فمضى يتمثل قول مجنون لبنى:
لقد ثبتت في القلب منك محبة
كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ
ولم يكن السقاف يعلم أنه يسير على هدى من حياة هذا المجنون العاشق الذي شاءت له الأقدار أن يطلق محبوبته لبنى ،ثم يهيم على وجهه بعدها،وعلى نحو من ذلك جرت المقادير على العاشق السقاف حين قلب له الدهر ظهر المجن ،وأبدل كأسه المترعة بخمرة الحب السماوية صاباً وعلقما،وتعكر صفو الوداد بينه وبين زوجته الحبيبة، فإذا بصروف الحياة وريحها الزعزع تهبط بهما من مقصورات العالم العلوي المثالي إلى سرداب مسكون بالوحشة،محاطاً بوجيب الصمت،فما كان منه إلا أن طلقها خارجاً بطلاقها من فراديس حبه إلى بلاقع من الهيام،وكهوف من الندم والشوق.. ندم عليها ولم يكن في ذلك أول نادم لفراق حبيبته ،وطلاق زوجته،فمن قبله بقرون متطاول قال الفرزدق:
ندمت ندامة الكسعيَّ لما
غدت مني مطلقة نوارُ
غير أن أمل العودة إليها لم يبارح فؤاده،فكان هذا الأمل أشبه بشجرة خضراء صغيرة تخفف عنه شيئاً من سموم الهاجرة،وماهي إلى أشهر معدودات حتى حملت إليه الأنباء خبر زواجها،فطار صوابه،وهام على وجهه ليضيف إلى قائمة مجانين العشق العذري اسماً جديداً وبلغ به هذا الأمر شأوا بعيداً فكان يمشي إلى بيتها ذاهلاً مدفوعاً بقوة عاتية لايستطيع ردها بعد أن سيطرت على عقله وتفكيره.. وكثيراً ما وجده بجانب بيتها مطيلاً النظر اليها طائفاً بسكنها أياماً وليال حتى صار شبحاً نحل عودة ورق عظمه مسبلاً دموعه الغزيرة لا يبارحه ألم الوجد ولا أمل اللقاء ،وربما فتح له أهلها وأسمعوه صوتها من خلف ستار رحمة به وإشفاقاً عليه.
ولما لم يعد أمره محتملاً ،فقد هاجر به أبوه إلى اندونيسيا ظاناً منه أنه بإبعاده عن موطن المحبوبة،.سينسى المحبوبة غير أن لواعج الحب أكبر من أن تطفئها مسافات البعد فعمد أبوه إلى وسيلة أخرى لجلب السلو له حين زوجه بفاتنة من بنات تلك البلاد،غير أن مغاليق فؤاده أبت أن تُفتح لإنها أوصدت على فاتنته هناك...فاتنته التي ابيضت عيناه من الحزن عليها وبدأت ملامحه تتغير، وقواه تخور،واستمر على ذلك حتى فاضت روحه في بلاد الغربة بعيداً عن بلده وعن معشوقته التي تبتل في حبها ولم يكن يعلم أنه طلق الدنيا يوم طلاقها.
شيخ بن سالم بن عمر بن شيخ بن سالم
بن عمر بن علي بن حسن
العالم المهاجر
26/7/1398ه - 1/7/1978م
في مدينة من مدن حضرموت تدعى حريضة ولد ونشأ في أجواء فضل وعلم إذ كان أبوه عالماً،فدرس عليه بداية،وأكرمه الله تعالى بحفظ القرآن الكريم وعمره لايتجاوز الثانية عشرة ،ولأن الله رزقه قبولاً حسناً للعلم فقد واصل تحصيل العلوم على جماعة من العلماء .
منهم: العلامة أحمد بن حسين العطاس،والفقيه عبدالله بن عمر الشاطري.
ولأن أرض الله واسعة فقد كان داعي الارتحال يلحَّ عليه من أعماقه،ومابلغ السابعة والعشرين من عمره حتى زم ركابه تؤمه آمال وطموحات نبيلة أناخت به في بلاد أندونيسيا التي وجد فيها من جمال الطبيعة وصفاء الإنسان ماأزال عنه وحشة الاغتراب وكسر حدة الشجن،لكن ذلك لم يلهه عن الاستزادة من العلوم خاصة وأن علماء كثيرين من حضرموت كانوا قد سبقوه إلى هذه البلاد،فلم يتأخر في الاتصال بهم،حيث وجد فيهم روح أهله،ونسائم بلده،ومعيناً من العلوم دافقاً لاينضب.
ولأن ضريبة العلم ثابتة قائمة في أعناق العلماء فقد اتجه صاحبنا بعد أن أجازه شيوخه إلى تسديد هذه الضريبة بنشر العلم والتدريس فاشتهر أمره، واتسعت حلقة درسه في مختلف العلوم والفنون،وقصده الطلاب من مواضع شتى في أندونيسيا يدفعهم في ذلك ما وجدوا فيه من سعة علم،وأريحية،وأخلاق حسنة،وروح أدبية ظريفة.
ولم يقتصر نشاطه العلمي على المساجد والمدارس وإنما جعل من بيته موفداً للضيوف،ومقصداً للزائرين يروده العلماء والأدباء،فيتلقاهم بصدر رحب ،ونفس راضية ،وابتسامة صافية لازمته حتى لقي الله راضياً في أرض المهجر من جزيرة «جاوى » ،فخرج في جنازته كبار أعيان البلدة من علماء ومثقفين ومحبين أفجعهم فراقه،فجعلوا يوم رحيله ذكرى يحتفلون بها كل عام ويجتمعون لأجلها من مختلف أرجاء الجزيرة.. فرحمه الله.
شيخ بن عبدالرحمن الكاف
30/3/1328م - 10/4/1910م
بدأ حياته في مدينة تريم طالب علم غير أن الله تعالى أراد له أن يسلك سبيلاً آخر بعد أن أخذ من العلوم من كل فن بطرف،فعمل في التجارة..والحضارمة هم أساتذة في هذا المجال ما دخله واحد منهم إلا وحققه فيه شأواً بعيداً...ولعل ذلك يرجع إلى طيب أخلاقهم وحرصهم على الوفاء والأمانة وغير ذلك مما يُحسن بالتاجر أن يتحلى به.
وكذلك كان صاحب هذه الترجمة تاجراً أميناً وفياً طيب الأخلاق فاتسعت تجارته في حضرموت فأراد أن يخرج بها عن المحلية إلى إطار أوسع يحقق له مردوداً أكبر فرحل بتجارته إلى سنغافورة،وأندونيسيا وحقق لقاء ذلك ثراء واسعاً جعله من أشهر التجار في هذه البلدان.
وحين عاد إلى حضرموت وكان قد تجمع لديه من الفضة الشيء الكثير صك باسمه عملة قضية عرفت باسمه في ذلك الوقت في حضرموت وظلت متداولة بين الناس فترة من الزمن.
ولأنه بدأ حياته طالب علم فقد عمق ذلك في نفسه حب العلم والعلماء فكان يبالغ في تكريم العلماء والتودد إليهم مستجيباً لهم في كل ما يشيرون عليه من المشاريع الخيرية،عطوفاً على الفقراء والمحتاجين.
وذات صباح خرج مئات من الناس يبكون خلف جنازة هذا المحسن الكبير ليودع جثمانه ثرى مقبرة زنبل في مدينة تريم.
صلاح بن أحمد الأحمدي
المغترب الشاعر
1374ه 1954م
في صحوة يوم صائف ،والشمس تنضح جبال يافع الشماء،كان يبدو للعين على مرمى البصر شاب،كان يلقي بنفسه من صخرة إلى صخرة ،هابطاً نحو مسيل الوادي،لايلوي على شيء، ينحدر انحدارالسيل،لايظله من القائضة سوى كوفية بيضاء تطوق هامته،وبقية رداء كان قد قدم به من مسقط رأسه،حين وفد من قرية العين ،من منطقة القطن،من وادي حضرموت.
وصل الأحمدي إلى عدن،وهو ينفض ميعة الصبا عن خده في زهو الفتوة،وطموح الشباب،يجيل عينيه نحو مهجر يدر عليه من الرزق أوسع إدرار يتردد في دخيلة نفسه،أيمضي إلى افريقيا حيث الغابات والمراعي والماشية واللون الأسمر؟أم إلى حيث التجارة والغزل ،وتجارة العود والبخور والصندل والنسيج تلقاء بلاد الهند؟
وبعد تردد شرح الله صدره للهجرة والاغتراب نحو الشرق،حيث إمكانية اللغة العربية،والاتجار بين الهند وعدن وحضرموت ومصر والحجاز،واستقر به قدر الله في مدينة «حيدر آباد الدكن» ،من بلاد الهند فأقام فيها وعمل بيده من الأعمال التجارية والمهنية،وشارك في نشر الثقافة العربية في المجتمع الهندي،وباع واشترى وجمع ثروة تميزه بين قومه وفي مهجره ،فأحسن بها إلى ذويه ،وعاد بجزء منها إلى بلده سنة 1323ه /1905م..
كما عاد بثروة ثقافية عن المجتمع العربي في الهند،وعن المجتمع الهندي وحضارته.وثقافته ،فأفاض على بلده أدباً رفيعاً،وزجلاً مفيداً،وفي رحلته هذه إلى اليمن اشتعلت عاطفته حماساً،واستنارت مداركه سياسياً،فندد بالاستعمار الإنجليزي لجنوب اليمن،وأشعل الحماس وروح الثورة في قلوب سامعيه،في دعوة صارخة الوضوح تندد وتدين كل الذين ساهموا أو غضوا أبصارهم عن معاهدة حاكها الإنجليز وسموها«معاهدة الاستشارة» كان أبرمها ووقعها مع الإنجليز سنة 1938م السلطان صالح بن غالب القعيطي.
ولكن الجرح الذي كان صغيراً في كبد هذا العلم المهاجر أصبح أكبر وأعمق وأنكى عندما فوجئ أهالي حضرموت بمعاهدة استسلامية أخرى سميت أيضاً «معاهدة استشارية» بين الإنجليز،وبين السلطان جعفر بن منصور الكثيري.
وهذه الأوضاع التي رآها هذا المهاجر المغترب بجسده الحاضر المقيم بروحه دفعته لإطلاق هواجسه الشعرية في غناء شعبي،يدعو فيه ربّه، ويناجي مولاه أن يمنح اليمن وبلاد الجنوب خاصة الحرية والاستقلال.
وأطلق شعره العامي في استعراض الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمغتربين اليمنيين في القارة الهندية:
ومن أشهر قصائده تلك التي مطلعها:
أبديت بك وادعوك ياجيد غيرك مايجود
ياحي ياقيوم
يامطلق من الساق القيود
وعاد من مهجره إلى مدينة عدن بعد أن جمع ثروة الجهد،وكد العمر الذي ناف عن مائة عام،وفي «حيدر آباد الدكن» حيث قضى أواخر عمره،وخواتيم أيامه،أسلم الروح إلى مولاه ،وتوسد لحده المعد لجسده البعيد عن مسقط رأسه طاهراً ،مطهراً سنة 1374ه الموافق 1954م،وكان أشهر ما ورثه بعده ديوان شعر كبير مخطوط.
فعليه رحمة الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.