كان الليل قد أظلم، ولكنني كنت أستطيع أن أتبين الطريق إلى الجانب الآخر... كنت أرتجف.. ليس خوفاً، فقد كنت أحمل بندقية فيها ست رصاصات، وكنت على استعداد لاطلاق النار على أي شخص يقترب مني، غير أن المسافة الطويلة التي قطعتها جرياً على قدمي، والمفاجأة المذهلة التي صدمتني دون سابق انذار، جعلتاني أرتجف من التعب والانفعال. يجب أن أمشي بحذر دون إحداث صوت مسموع، نظرت حولي: ليس ثمة مايبرر الوقوف طويلاً في هذه البقعة المعتمة، لابد من عبور هذا الممر الضيق باحتراس وحذر، إن أي صوت أحدثه كفيل بايقاعي بين أيديهم. لم يصلوا بعد لاريب أنهم يفتشون عني في مكان آخر، لابد أن أسرع، لن أدعهم يتمكنون مني، فليس ثمة مايستدعي قتلي، كنت أعتقد أنني لم أفعل شيئاً منكراً.. والواقع أنني لم أجبر "فاطمة" على الاتيان بشيء لاتوده، لست بلا "شرف" أو "أخلاق".. كلا.. ولكنني كنت أرفض أن أفكر بطريقتهم. تقدمت خطوة، ثم أنصت بانتباه، خُيِّل إلي أن ثمة شخصاً يقترب من مكاني، رفعت البندقية سأطلق النار في أية لحظة: لاشك أنهم يعرفون ذلك عني، ولكنهم كثيرون.. سأقتل منهم ثلاثة.. أربعة.. وبعد ذلك سينتهي كل شيء ويقبضون علي. أصبعي على الزناد.. من المفيد جداً للمرء أن يكون مسلحاً، إني أستطيع بهذا السلاح أن أدافع عن حياتي بقوة، لاشك أني أحب هذه الحياة ولا أريد أن أموت ببساطة: إن الموت من أجل شيء تافه أمر مؤلم جداً، ثمة أمور أخرى تستدعي بقائي حياً، ثمة في بقعة غالية من وطني أناس قذرون يمشون بأحذية ثقيلة على رؤوس أبنائنا وآبائنا واخواننا، ويسومونهم مر العذاب، لاشك أننا نستطيع أن نضادهم مادمنا نملك سلاحاً... كنت غارقاً في التفكير بتمزق: لابد أن أحافظ على حياتي مهما كان الثمن، دهشت: لم أفكر بهذا من قبل... الآن فقط أدركت أهمية حياتي، عندما أحسست أنني من الممكن أن أموت قريباً.. لا ريب أنني أناني وتافه، من قبل كنت أستطيع أن أذهب وأقاتل أعداء وطني بالسلاح.. أما الآن فلا أستطيع.. أني مهدد بالموت.. مطارد.. ومجرم في نظر أولئك الذين يتبعونني ليقبضوا علي. .. إصبعي على الزناد خطوات إلى الأمام خطوة أخرى، كل الأشياء حولي جامدة ساكنة، ولكنني كنت أنظر إليها باهتمام: الجدار المتآكل.. رؤوس الاشجار.. جذوعها.. الباب الخشبي في نهاية الممر.. كلها كانت تحت نظري: قد يكون خلفها أو بجانبها أحد من مطاردي. ... ليس ثمة مايسمع أو يثير الانتباه، مشيت بحذر وأنا أتلفت حولي، إني أقترب من نهاية الممر. بقيت خطوات قليلة، بعدها سأكون في الجانب الآخر... داخل حدود قبيلتي تقدمت بضع خطوات... وفجأة دوى طلق ناري: إرتميت على الأرض، ثم زحفت ببطء مقترباً من الجدار، فترة صمت رهيبة طلقة أخرى نهضت ببطء واحتراس خطوات إلى الأمام ملتصقاً بالجدار، لم أر أحداً، وكان الظلام قد بدأ يرحل، شعرت بأني أحتاج ظلام الليل، الآن أكثر من أي وقت مضى، تلفّت حولي بقلق: خُيّل إلي أن ثمة أشخاصاً يقفون بالطرف الآخر، غير بعيد مني، قررت: سأقتلهم فوراً إن اقتربوا. عامر. قف. أني أراك! دوى صوت مزمجر، لاشك أنه اخوها "سعيد".. لم أرد. لا تحاول الهرب.. رحت أزحف بحذر حتى اختفيت وراء جذع شجرة في تلك اللحظات وجدتني أفكر، بالرغم مني، في "فاطمة" وفي هذه النهاية التي لم أكن أتوقعها، لاشك أنها تتألم من أجلي يقيناً ستنسحق حزناً علي، فقد كانت تحبني كثيراً مذ كنا أطفالاً صغاراً نلعب معاً: هي وأنا وأخوها وبعض أطفال القبيلتين، حتى يقترب المساء فنفترق بحزن. ... باختصار كانت هذه هي طفولتنا.. بريئة.. ولاهية.. ثم سافرت بعد بضع سنين إلى الحجاز، غبت هناك مدة طويلة، عشر سنوات أو أكثر، عدت بعدها لأجد أن "فاطمة" قد كبرت.." تفتحت".. وبدأت تعلن عنها أنوثتها الصارخة!. ... كنت ما أزال أحبها، غير أن فكرة الزواج لم تخطر لي على بال.. وكنت أمامها، أنسى كل شيء.. حتى نفسي.. وهكذا بقيت أتردد عليها.. حتى حدثت.. الكارثة، ليس لي ذنب، فلقد كانت راضية، وكانت جميلة، وكنا وحدنا، لم أستطع أن أمنع نفسي منها.. يقيناً لم أكن أنا الذي اغريتها بنفسي ولكنها هي التي سلمتني نفسها بهدوء وبرضى تام، وفجأة: دخل "العريشه" أخوها وبصحبته آخرون.. كنا في وضع مخز.. وكانت البندقية بجانبي أخذتها قافزاً بسرعة مذهلة، كنت أدرك ماذا سيفعلون بي.. سيقتلني أخوها.. هذا شيء طبيعي، أطلقت رصاصة في الهواء، ثم مرقت إلى الخارج بينما، كانوا يتفرقون خائفين.. تبعني رجل مسلح.. أطلق خلفي رصاصة ملعونة لم تصب مني مقتلاً، توقفت برهة حتى اقترب مني، صوبت بندقيتي نحوه، تداعى للسقوط على الأرض.. وأصبحت مطارداً: تجمع الناس، ثم انطلق عدد منهم ورائي، بينما كنت أجري بسرعة لأصل إلى قبيلتي، حتى وصلت إلى الممر الضيق.. آه.. يتوجب علي أن أعبره قبل فوات الآوان.. من وراء جذع شجرة أطلقت رصاصة ثم قفزت إلى الأمام، نظرت خلفي: كانوا يقتربون.. وكانوا أكثر من ستة أشخاص على مايبدو، يظهر أنهم لم يرون جيداً، ولكنهم يتقدمون بسرعة فائقة. عامر.. لاتتعب نفسك قف.. قف! إنه هو.. أخوها.. ياله من أبله يظن نفسه ذكياً: يريد مني أن أقف ليقبض علي، سأقتله قبل ذلك.. سأقتله.. سلم نفسك..! رددت بصوت مرتعش: سأقتلكم! ردوا علي بالنار، أطلقت النار من ست بنادق أو أكثر على مايبدو: الرصاصات تأز بجانب أذني، وتمرق بقوة، بادلتهم إطلاق النار، خيل إلي أن أحدهم يقبض على قلبه بيده ثم يسقط، كانوا يقتربون.. إنهم أكثر مما قدرت.. زحفت بحذر. فتحة الممر تبدو من بعيد فاتحة ذراعيها، لابد أن أصل.. لابد.. تاك.. تيك.. آه.. أحسست بشيء مايخترق كتفي.. بل صدري، قريباً جداً من القلب، وثمة سائل حار لزج يغمره، ويبلل قميصي، غير أني لم أقف، مازلت أزحف. بقيت رصاصة في بندقيتي على ماأظن، سأفرغها في صدر أحدهم.. سأفرغها.. سأف. وقفتُ.. ماهذا؟ الدنيا تدور، ضباب كثيف يحجب عني الرؤية أصوات مزعجة تخترق أذني، وقع أقدام كثيرة أذرع قذرة تمسك بي وترفعني في الهواء. الدنيا تدور وأنا أغيب عن الوعي وأتداعى للسقوط. *** بعد مدة أفقت من غيبوبتي: رأيتني في غرفة ضيقة يدخلها النور من فتحة في أعلاها، وثمة جرح في صدري يؤلمني. ... لقد تمكنوا مني وسينتقمون من "فاطمة" أيضاً.. سيحكمون عليها بالموت لأنها "فرطت بشرفها"! بعد ساعة دخل علي أخوها ومعه شيخ قبيلتنا. لم أقم، ولم أرد على الشيخ السلام. قال الشيخ: أنت متهم بالقتل وبالاعتداء على شرف البنت .. هل تريد شيئاً، أعني هل ترغب في ابلاغ أهلك شيئاً؟! عرفت حكمهم، وأن الشيخ قد وافق فلا مناص من تنفيذه. قلت دون أن التفت اليهما: أبلغهم أني قد قتلت من أجل أمر تافه.. صمت، نظرت إليه، كان ينظر إلي بألم. أحسست نظراته تلسعني تحرك خارجاً يتبعه "سعيد"، تمددت منسحقاً من الألم والقهر: «كثيرون يموتون دون سبب وجيه!» آه، لو كنت استطعت عبور الممر لما استطاعوا أن يعدموني حياتي سأجهز كل أصحابي، وسيحكم بيننا الرصاص. أما الآن فقد وقعت الواقعة، ولن يستطيع أحد أن ينقذني، إن موتي أصبح أمراً محققاً. *** في الساعة الخامسة من مساء يوم الاربعاء، عام 1956م، أخذوني إلى الساحة الكبيرة بقرب المزارع، وربطوني بحبل متين إلى شجرة سامقة. .. بعد لحظات سيعدمونني.. لست آسفاً على شيء سوى عليها.. على فاطمة.. وعلى أنني لم أفكر في وطني من قبل ولم أخدمه كما يجب، وها أنا أفكر فيه قبل أن أموت: إنني لم أنسه أبداً، لاشك أن في هذا عزاء لي الآن، وها أنا أنتظر الموت بلا خوف: يجب أن أكون رجلاً شجاعاً بالرغم من كل شيء حتى آخر لحظة. .. جاء أخوها يهمس في اذني بصوت كالفحيح: هل تريد شيئاً قبل أن... لم أرد.. نظرت إليه باحتقار، ثم بصقت على وجهه، كنت أتوقع منه أن يلطمني غير أنه لم يفعل، إبتعد عني بكبرياء ملعونة ثم أشار بيده إلى الرجال الواقفين على بعد عشرة أقدام مني يحملون البنادق. ... و«انطلق الموت»!!