حتى الموت، لا تريد اسرائيل لنا إلا موتاً مهيناً، وموصوماً بالعار، ورغم ما وصف به الإعلام الصهيوني من حيادية وشفافية، إلا أنه ليس محايداً في التعاطي مع القضايا الأمنية، وليس محايداً إطلاقاً فيما يخص أمن اسرائيل، بل يصبح مجنداً إلى درجة يستحيل معها أن تفصل بين الخطاب الإعلامي والبيان العسكري، ناهيك عن أن الجمهور المستهدف من الخطاب الإعلامي الاسرائيلي هو المستمع العربي بدرجة أساسية ؛ ولذا فإن من ينهض بأعباء هذه الرسالة الإعلامية في الوقت الراهن.. هم العرب وحدهم، وليس ذلك فحسب، فقد دأب المثقفون ورجال الصحافة والمهتمون بالتحليل السياسي، على توفير جهد الإعلام الاسرائيلي، في إدانة الرموز العربية، وإهانة تاريخهم النضالي ورصيدهم البطولي في التصدي للصلف الاسرائيلي والعدوان الحضاري الذي تشنه اسرائيل على كل ماهو عربي، أو ما ينسب للعرب، فما يحدث اليوم،من امتهان صارخ لتاريخ الرموز العربية، هو تأكيد على حقيقة أن هذا الكيان الحقير والمتغطرس، قد أمعن في إذلال الذاكرة العربية، ولم يكتفِ بمطاردة رموز النضال العربي في أوطانهم، حتى لحق بهم في منافيهم، وبأساليبه الاستخبارية المعتادة منذ فجر التاريخ، استطاع أن يصل إليهم ويقضي عليهم معتمداً على المكر والخديعة، والاصطياد من الخلف. فالطريقة التي قتل بها المستشار السياسي المصري/أشرف مروان في لندن هذا الأسبوع ليست جديدة، ولن تكون الأخيرة، فذات المصير الفاجع لقيه الليثي ناصيف قائد الحرس الجمهوري المصري في حرب 1967م، ولم تكن صدفة أن تلقى الفنانة العربية/سعاد حسني مصيرها في نفس العمارة، دلالة أكيدة على أن المرسل هو نفسه، وما على الاستخبارات العربية، والمصرية على وجه الخصوص إلا أن تعيد الكرة في قراءة متأنية لبرنامج عملها، والاستعداد الفعلي لمواجهة حقيقية ما دمنا غير قادرين على المواجهة المسلحة، رغم إمكاناتنا المتفوقة وقدرتنا المطلقة، وفي حزب الله بجنوب لبنان الصيف الماضي خير دليل. شرفات الفنادق في لندن، مشرعة بانتظار رموز النضال العربي وعلماء الذرة ومثقفي الأمة، فالمصير هو نفسه الذي لاقاه يوسف السباعي، وهو نفسه الذي لاقاه علماء الطاقة الذرية، وهو نفسه الذي لاقاه كبار ضباط الجيش المصري، في كارثة الطائرة المصرية قبل سنوات، ولا تكتفي إسرائيل بذلك، بل إنها تستهدف وبطريقة مباشرة، تاريخ الرموز المتساقطة كأوراق الخريف بإهانتهم ووصفهم بالعمالة والجاسوسية والارتهان للخارج. إنها المواجهة الحقيقية للصراع الحضاري العربي الصهيوني، معركة الوجود لا الحدود، فبدلاً من التغني بأمجاد المخابرات العربية عبر المسلسلات والأفلام وعنتريات نادية الجندي وأحمد مختار في أفلام الجاسوسية وما فات مات، وتلك أمور قد خلت.. حري بنا أن نفكر بصوت عالٍ ونعيد للمواجهة شكلها الحقيقي، ودورها الفعلي وألا تترك مصر وحدها لتدفع ثمن هذه المواجهة، وإلا فالشرفات تنتظرنا، وموتنا المهين، قاب قوسين أو أدنى أليس من حق العرب أن يموتوا كيفما يشاؤون، أليس من حق أجهزة المخابرات العربية أن تختار وطناً أوروبياً كفرنسا أو برلين مثلاً والبحث عن شرفات نتخلص فيها من خصومنا، بدلاً من تكميم الأفواه واستعراض الجيوش؟!. قذارة هذا الموت المهين تزكم أنوفنا، لكن الرد بذات الطريقة، سيعيد لنا اعتباراً فقدناه، ويبدو أن حديث رد الاعتبار العربي، سيطول مداه فنحن نريد رد الاعتبار لكل شيء، ولا نقول شيئاً هذه الوسيلة الرخيصة، ستوفر علينا عبء تشكيل اللجان وانتظار نتائج التقارير، وكيل الاتهامات. الشرفات أفضل، يا أصدقائي، فموت رفيق الحريري، كان ضجيجاً مزعجاً لم يجلب لأمريكا غير فرصة جديدة، لدور استعماري منتظر للقطر العربي السوري، كان بالإمكان انتظاره حتى يذهب إلى لندن، وما أكثر ما ذهب إلى هناك، وما أكثر الشرفات هناك!.