وردت في القراءة المشهورة- للقرآن الكريم رواية حفص عن عاصم- كلمات محركة بغير الحركة المألوفة المشهورة، وذلك في نحو قوله تعالى في الآية «10» من سورة الفتح: «ومن أوفى بما عاهد عليه الله»- بضم الضمير «ه» في كلمة «عليهُ» وفي قوله تعالى في الآية «63» من سورة الكهف «وما أنسانيه إلا الشيطان أنْ أذكره» بضم الهاء في كلمة «أنسانيهُ» مع أن المشهور في نحو هذا كسر الهاء، كقوله سبحانه في الآية «109» من سورة الشعراء «وما أسألكم عليه من أجر» وفي الآية «11» من سورة القصص قال تعالى «وقالت لأختهِ قصَّيهِ».. قال الدكتور فاضل صالح السامرائي في معرض شرحه وتوضيحه أسباب ذلك، ويحسن أن نشير هنا إلى أن ضم الهاء في نحو هذا «لغة الحجاز»، وأما غيرهم فيكسرها.. جاء في «شرح الرضي على الكافية»، وحركة هاء المذكر ضمةٌ إلا أن يكون قبلها ياء أو كسرة. فإن كان قبلها أحدهما، فأهل الحجاز يبقون ضمتها ويقولون: «بِهُو» و«لَدَيْهُو» وغيرهم يكسرونها». والقرآن نزل في هذا بلغة سائر العرب، وهنا يعرض سؤال، وهو: لماذا ورد في هذين الموطنين الضم دون الكسر؟ وينبغي لنا قبل أن نجيب عن السؤال أن نشير إلى حقيقة لغوية معلومة اتفق عليها علماء اللغة قديماً وحديثاً، وهي أن الضمة أقوى الحركات وأثقلها، ثم تليها الكسرة، ثم تليها الفتحة، وهي أخف الحركات.. ولا عبرة بقواعد الكتابة الإملائية للهمزة. ونعود إلى مسألتنا لنرى سر التعبير في نحو ما مر.. قال الله تعالى: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليهُ اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً» سورة الفتح.. فقال «عليهُ» فجاء بالضمة التي هي أثقل الحركات للدلالة على ثقل هذا العهد وعظمته، وذلك من جملة نواحٍ منها: أنه قال: «إن الذين يبايعونك» وهذه البيعة كانت يوم الحديبية، وكانت بيعة على الموت في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرة دينه، والبيعة على الموت أشد وأثقل أنواع البيعات وأقواها. وقال: «إنما يبايعون الله»، وهذا تعظيم لهذه البيعة التي يكون فيها الله هو الطرف المبايع. وقال: «يدُ الله فوق أيديهم» وهذا توكيد لما قبله وتوثيقٌ لأمر هذه البيعة العظيمة. حذر من نكث هذه البيعة ونقض هذا العهد، وقال: «إن ضرر نكثه يعود على الناكث نفسه. وذكر أن من أوفى بهذا العهد سيؤتيه الله أجراً عظيماً، فهو كما ترى عهد عظيم ثقيل، فناسب أن يأتي بأثقل الحركات، وهي الضمة مجانسة لثقل هذا العهد. ثم أن الضمة يُنطق معها لفظ الجلالة بتفخيم اللام، بخلاف الكسرة، فإنها ينطق معها لفظ الجلالة بترقيق اللام، فجاء بالضم ليتفخم النطق بلفظ الجلالة، إشارة إلى تفخيم العهد، فناسب بين تفخيم الصوت وتفخيم العهد، وهو تناظرٌ جميل.. جاء في كتاب «روح المعاني» لشهاب الدين الآلوسي في هذه الآية: «وقرأ الجمهور «عليه» بكسر الهاء كما هو شائعٌ وضمها حفص... وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشِعر به الكلام، وأيضاً إبقاء ما كان ملائم للوفاء بالعهد، وإبقائه وعدم نقضه».