فرصة ضائعة وإشارة سيئة.. خيبة أمل مريرة لضعف استجابة المانحين لليمن    رابطة الدوريات العالمية تهدد الفيفا    منظمة الشهيد جار الله عمر تعقد اجتماعاً مع هيئة رئاسة الرقابة الحزبية العليا    الحوثيون يمنعون محاكمة مشرف متهم بقتل مواطن في إب... ضربة قوية للقضاء    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    أول تعليق للشرعية على حملة اعتقالات تشنها مليشيات الحوثي بحق قيادات حزب المؤتمر بصنعاء    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    بعثات دبلوماسية تدرس إستئناف عملها من عدن مميز    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    روح الطفلة حنين تبتسم في السماء: تأييد حكم الإعدام لقاتلها في عدن    القادسية يتأهل إلى دور 16 من كاس حضرموت الثامنة لكرة القدم    رئيس مجلس القيادة يكرّم المناضل محمد قحطان بوسام 26 سبتمبر من الدرجة الأولى    أول تحرك للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد احتلال اسرائيل لمعبر رفح    أنظار العالم تتجه إلى الرياض مع انطلاق بطولة رابطة المقاتلين المحترفين    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    اعتدنا خبر وفاته.. موسيقار شهير يكشف عن الوضع الصحي للزعيم ''عادل إمام''    الأسطورة تيدي رينير يتقدم قائمة زاخرة بالنجوم في "مونديال الجودو – أبوظبي 2024"    تصرف مثير من ''أصالة'' يشعل وسائل الإعلام.. وتكهنات حول مصير علاقتها بزوجها    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    إعلان عسكري حوثي عن عمليات جديدة في خليج عدن والمحيط الهندي وبحر العرب    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية اليوم الخميس    تصاعد الخلافات بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر والأخير يرفض التراجع عن هذا الاشتراط !    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    من فيتنام إلى غزة... حرب النخبة وغضب الطلبة    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    سقوط نجم الجريمة في قبضة العدالة بمحافظة تعز!    قناتي العربية والحدث تعلق أعمالها في مأرب بعد تهديد رئيس إصلاح مأرب بقتل مراسلها    أحذروهم في عدن!.. المعركة الخطيرة يقودها أيتام عفاش وطلائع الإخوان    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    حقيقة ما يجري في المنطقة الحرة عدن اليوم    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني
مذكرات أول رئيس تحرير ل «الجمهورية»
نشر في الجمهورية يوم 14 - 12 - 2007

قصور في التعليم والابتعاث إلى الخارج وقصة كرسي الوزارة
مسيرة نضال كتاب وثائقي سلط من خلاله الكاتب، والإعلامي محمد حمود الصرحي على صفحات مجهولة من سفر النضال الوطني في سبيل مقارعة البطش والجبروت ونيل الحرية وقيام الثورة والدفاع عن نظامها الجمهوري، لقد حرص المؤلف على تضمين الكتاب مشاهد واقعية للظلم والقهر والاضطهاد الذي عاشه شعبنا إبان الحكم الإمامي البائد وما تعرض له الأحرار قبل الثورة من المآسي والآلام وأبرز الكاتب دور الطلاب في مسيرة النضال الوطني من خلال الأحداث التي عاشها وسرد ذكرياته مع زملاء دربه السياسي.. إلى جانب رصد دقيق للحظات ما قبل انبلاج ثورة سبتمبر وما أعقبها من أحداث ودور الإعلام وإذاعة صنعاء وصحيفة الجمهورية على وجه الخصوص في حشد التأييد الشعبي لمناصرة الثورة وتشكيل لجان المقاومة للدفاع عنها حيث كلف الصرحي بعد الثورة بتحمل مسئولية الإعلام في تعز كما أصبح أول رئيس تحرير لصحيفة الجمهورية وفيما بعد تقلد الأستاذ محمد الصرحي العديد من المسئوليات في الحكومات المتعاقبة آخرها نائباً لوزير شئون الرئاسة ومجلس الشورى في حكومة المهندس عبدالله الكرشمي.
الحلقة 10
مقابلتي للرئيس السلال في القاهرة
وفي يوم من الأيام وصل الرئيس السلال إلى القاهرة بعد أن كان قد مضى عليّ فيها ثلاثة أشهر ونصف ونزل في قصر (الطاهرة) وكنت وأنا فيها «أي في القاهرة» ألتقي ببعض الإخوة الزملاء .. بعضهم حالته لا بأس بها والبعض في مأزق كما أنا .. وكنت أشرح حالي مع من له مركز ويمكن أن تسمع كلمته .. وكان أن التقيت مع بعضهم وفكرنا في أن نزور الرئيس في قصر الطاهرة مع من يزور.
وهناك .. قابلناه .. وأذكر أنه قال لي وقد مددت يدي لمصافحته : وأنت هنا ..؟! فقد قالوا لي إنك في المغرب.
فأجبته : نعم .. كنت في المغرب وأتيت هنا لأبحث مع اللواء / الجائفي أمر مرتبي حيث لم يُصرف لي مرتب منذ غادرت اليمن.
ثم تركت الجو يهدأ في مجلسه وبدأت أحدثه عن نفسي وإذا به يمتعض ضدي كالثعبان المفزوع ويقول لي : أنت ثائر (فرص) لا تعرف الظروف ولا تقدر .. تفعل لك أحابيل و(شوشرة) في صنعاء وتصدق لك الأوباش..وتركته يتكلم حتى أنهى حديثه ثم عقبته وقلت : ماذا عملت ..؟ ماذا عملت ؟ أنا لا أدري ما عملت ..؟ وأرجو أن تذكر لي أي شيء قمت به أنا .. أو ارتكبته، إلى الآن لا أدري ما ذنبي ..؟ لقد شفيتوا بي الرجعية وأرحتوا قلوب أعداء الثورة وكان يحسن أن تستدعوني إليكم وتسمعوا مني حول ما يمكن أن يكون قد نقل اليكم.
وانبرى واحدٌ من الحضور وقال : سيدي الرئيس / الأخ محمد كما تعرفون ليس من ذوي اللوايا أو التعرجات وقد يكون أي مغرض حاول أن يسود صحيفته عندكم والآن هو ذا بين يديكم ومستعد لأن يكون معكم ونكون جميعاً في صف واحد ونحو هدف واحد.وحضر هذا الحوار اللواء / حمود الجائفي رحمه الله والقاضي محمد الربيع رحمه الله وآخرون لم أعد أذكرهم وتم الكلام في الأخير على عودتي معه إلى صنعاء في وئام وسلام وعدت معه في نفس الطائرة، ونحن في الجو خرج إلينا من مقصورته في مقدمة الطائرة وقصدني بالذات وجلس معي بعد أن ابتدع من كان بجنبي من الركاب وأستمر العتاب فيما بيننا لأننا كنا زملاء قضية وزملاء لقاء ومنهج طيب من زمان بعيد.
وفي تاريخ 20 ذي الحجة 1383 هجرية الموافق 3/5/1964م شكلت حكومة برئاسة اللواء /حمود الجائفي تعينت فيها نائباً لوزير التربية والتعليم بدرجة وزير كما تعينت في نيابة التربية مرة أخرى في حكومة الفريق العمري وكان الوزير في النيابة للأولى هو الأخ / قاسم غالب وبدأت أمارس عملي ويعلم الله إني كنت أتسابق على باب الوزارة أنا وحافظ مفتاح الباب واستمر في الدوام إلى نهاية الوقت قاصداً من وراء ذلك أن نكون قدوة لكل الموظفين وفعلاً كان الدوام منتظماً وكانت الأمور الإدارية تسير سيراً جيداً لأنه إذا صلح الرأس صلح الجسد كله والكثير من الموظفين الذين عاصرونا وعاصرناهم في هذه الوزارة ما يزالون أحياء ولو سئل أحدهم لما قال غير هذا.
والأمور في ذلك الوقت كانت محدودة الأمر الذي ساعدنا على ذلك وبدأت مع مجموعة من الشباب نخطط .. ونضع الحلول لمراحل قادمة..
الطلبة وتوجههم المخيف إلى الوزارة
وأذكر أنه في يوم من الأيام ومن نافذة غرفتي رأيت مجموعة كبيرة من طلاب المدرسة الثانوية يرفعون في مقدمتهم العلم ويؤدون تشيداً وطنياً بأصوات عالية وهم في طريقهم إلى الوزارة.
وكانت في مقر العمارة التي تتبع البنك اليمني للإنشاء والتعمير اليوم وهي في شمال غرب ، وإذا بالموظفين الذين بجانبي والذين بالغرفة المقابلة لي يتهامسون فيما بينهم ذا يغمز لذا وذاك يشير لذاك ... وأحدهم يأتي إليّ يهمس في أذني واللهجة عند الجميع الطلبة .. الطلبة..
الأمر الذي جعلني أتعجب : ما لهم .. لماذا تخافون منهم ؟! وإذا بالقريب مني يقول لي لقد جاءوا هكذا عندما كان الأخ/ أحمد الشجني نائباً لوزير التربية والتعليم وكسروا الزجاج والكراسي وكل شيء في الوزارة.
فشدني كلامه .. وجعلني أستعد لمعركة معهم .. وأول ما فعلت أن استدعيت الجندي الواقف بالباب واسمه / راجح سعد وقلت له : أنت هنا في معيتي وأنا آمرك ومعنى هذا أن تنفذ كل ما أقوله .. حتى لو أمرتك بضرب النار أضرب النار..
فأبدى استعداده الكامل .. وعبأ بندقيته وجلس على الباب وجعل بندقيته تعترضه.
وصعد الطلبة سلم الوزارة بالهجيج والضجيج وكان باب غرفتي إلى الحجرة التي تجمعوا فيها وأمامي بعض الأوراق كنت أقوم بمراجعتها والجواب عليها ولم أتركها حتى لا يقال بأني قد خفت منهم .. بل تابعت مطالعتها والإجابة فيها حتى انتهيت واتجهت بعد ذلك بشخصي كله نحوهم وسألتهم : ما شأنكم أيها الطلاب ماذا تريدون ..؟!
فتكلموا جميعهم بهرج ومرج .. فقلت لهم : أنا معي فم واحد وأنتم كم ..؟! ولا أستطيع مناقشتكم جميعاً ولذا يحسن أن تختاروا طالبين ممن ترونهم .. ويدخلوا إليّ ويتفاهموا معي وأنتم تستمعون..
وفعلاً دخل الطالبان .. وطرحا عليّ مسألة البطانيات وما البطانيات لأن الوقت كان شتاءً وكان البرد يوجعهم وأنهم قد طال انتظارهم مع أن المسألة قد طرحت منذ وقت بعيد ..ومعنى هذا أن أحداً لا يهتم بهم وأن الوزارة لا تقوم بواجبها في الإشراف على حياتهم .. ولا تحس بمشاكلهم .. ومن الصدف العظيمة أن هذه القضية كنت قد أشرفت عليها بنفسي شخصياً وتابعتها أولاً بأول فاستدعيت الموظف الذي كلفته بملاحقتها وجاء بالقضية وأوراقها وجلس على الكرسي معي والطالبين وفتح ملف القضية من أولها إلى أن وصلنا إلى تحويل نصف مستحقاتهم من هذه البطانيات وإلى الأوراق الأخرى التي تتابع البقية وكانت تواريخ المعاملة متقاربة.
نظر الطالبان إلى الموضوع نظرة جد وتمعن ولم ينبسا ببنت شفة وإنما أدارا طرفيهما في وجوه زملائهم وإذا بزملائهم وهم كانوا يرون ويستمعون ما يجرى أمامهم داخل غرفني يقولون لهم : إن هذا عمل طيب ولا نستطيع أن نقول فيه أي شيء.
فعقبت على كلامهم بوقته وقلت : هل نصرف لكم النصف من مستحقاتكم التي حصلنا عليها ؟
أو نبقيه حتى نحصل على الكل ..؟!
فقالوا : مادامت الأمور تجري هكذا فسننتظر للبقية..
وشكروني شخصياً لجهودي وقالوا : لقد كنت أنت طالباً مثلنا ولا تزال إلى الآن طالباً لذا فأنت تحس بمشاكلنا وإنما كان ظننا فيمن قد عرفناهم أهل لوايا.
وانصرفوا وهم يؤدون نشيداً آخر ولاحظت الموظفين وهم في دهشة من الأمر .... وأذكر أننا كنا أنا وزملاء العمل قد كوّنا فريقاً واحداً ونعمل يداً واحدة وأننا كنا في بعض أيام الأسبوع نشتغل بعد الظهر ولم يكن لنا طبيعة عمل ولا كنا نحسب لمثل ذلك أي حساب .. وكنا نشعر جميعاً بأننا نقوم بواجب وأن الظروف دقيقة والحرب تقرع طبولها في كل أنحاء الجمهورية ولهاث الأعداء يشتد ولذا فما كنا نفكر في أنفسنا أكثر مما كنا نفكر في العمل ويشهد الله على ذلك والكثير من الزملاء لا يزالون أحياء ويذكرون ذلك وبلا شك.
كانت فجوة المدرسين هائلة وعدم التغطية للتعليم تؤرقنا جميعاً إذ لا يوجد معلم يمني بشكل يغطي احتياجات المدارس ولاكنا قادرين على استجلاب أساتذة من البلاد العربية نظراً لظروف الحرب القائمة وكان المعوّل حينذاك وفي فترة حرجة من عمر الثورة على الإخوة المصريين ولكنا كنا قد لاحظنا قصورًا في التعليم ووجدنا بعد زيارة قمنا بها إلى المدارس في صنعاء وتعز والحديدة ثغرات كبيرة في مستوى معلومات الطلاب .. وأذكر أنه عقب جولة من جولاتي في مدارس العاصمة وكنت قد دخلت الى (مدرسة الوحدة) أن طلابها أعطوني ورقة وأنا في طريقي للخروج من عندهم في ظرف مختوم فتحت الظرف وأطلعت على ما فيه فوجدتهم يعيشون الفكرة التي نحن فيها بالنسبة لقصور التعليم .. وجدتهم يشكون من أنهم لا يفهمون الدروس وأنهم قد قالوا هذا الكلام لبعض الأساتذة المصريين.
محاولة تدريس الطلاب بعد الظهر
وأثرت فيّ هذه الورقة تأثيراً كبيراً وجعلتني أفكر فيما عسى أن نفعل فالمسئولية أمانة والتعليم أساس حياة الشعوب وأساس مستقبلها .. فكيف سيكون مستقبل حياتنا إذا كان التعليم بهذا المستوى المنحط..؟!
في الصباح اجتمعت مع بعض زملائي في العمل وناقشنا القضية واتفقنا على أن نعمل بجد على تغطية تدريس المدارس الرئيسية في العاصمة وننتقل بعدها إلى مدارس الحديدة ثم تعز وهكذا وذلك في فترة ما بعد الظهر.
واعترضتنا أزمة المدرس وفكرنا في أن نلاحظ بين مطلوبنا لذلك من فيهم دافع وطني يساعدونا مجاناً ونتكلف للذين لا يريدون إلا النقود تحصيل ذلك .. ونبحث لنا عن أي مجال..
وتكلفنا جميعاً بالبحث عمن نريد كلُ من ناحيته .. حصلنا على البعض ممن درسوا هنا في اليمن ويحسنون اللغة والدين .. كما حصلنا على بعض اليمنيين الذين درسوا في الخارج..
وكان المحصول لا بأس به .. غطى الثلاث المدارس .. «الثانوية والمتوسطة ودار الأيتام» واجتمعت بهم وأشرت لهم إلى الاجتماع بالطلبة في مدرسة الوحدة كما أشرنا للطلبة بذلك.
وكان قصدنا أن يعرفوا مستواهم وما هي الكتب التي يحتاجون لها لتدريسهم .. وفعلاً كان وعاد إليّ نخبة من هؤلاء الأساتذة وأطلعوني على المستوى وعلى الاحتياج للكتب وصرفت الكتب المطلوبة جميعها.
وبدأوا بالتدريس وما إن مر يوم أو يومان إلا وضج الإخوة المصريون من مثل هذا العمل وكان لكل وزارة حينذاك مستشار وكان هو الحاكم بأمره نظراً لظروق الحرب ولاحتياجنا اليهم .. إذا بالمستشار المصري لوزارة التربية / علي الزيتون ..يجول من الغرفة التي أنا فيها إلى غرفة الوزير كأنه قائد معركة .. سمعته يسأل العزي اليريمي أولاً : ياعزي من الذي أمر بفترة التدريس للطلاب بعد الظهر ؟
أجابه : إنه لايدري ويمكن يسأل الوزير أو النائب..
فعاد إلى الوزير وسأله نفس السؤال .. فأجاب عليه بنفس الجواب وأنه يمكنه سؤال الوكيل أو النائب . وعاد إليّ ووقف بجانب مكتبي وكأتي به يريد محاكمتي.
وقال لي : سيدي النائب من الذي أمر بفترة التدريس للطلاب بعد الظهر ؟
فقلت له : ما رأيك فيها يا أستاذ علي ؟فقال : لا فائدة فيها .. وإنما قد تضر أكثر مما تنفع..
فقلت له متسائلاً : من أي ناحية ..؟
فقال : الاتجاهات الحزبية .. يا سيدي النائب ؟
أجبته : اطمئن يا أستاذ علي نحن لا نعرف الحزبية والثائر عندنا وهو الواعي والمطلع والعارف يعني مخلصاً لبلاده لا ينتمي لأي حزب من ثوار 48 إلى الآن.
أجابني : بإنه سيوقف الأساتذة المصريين عن التعليم إذا لم يتوقف التدريس بعد الظهر.
فقلت له : يا أستاذ علي هذه الخطوة عظيمة تساعدكم في تفهيم الطلاب وتساعدكم على انجاحهم وفترة بعد الظهر هي ليست وقت تدريسكم وهي فارغة ولا تتعارض مع أوقاتكم .. وأظن أنه لا يقدر أحد على منع الطلاب من أن يدرسوا فيها..
فتركني وانصرف..
والواقع إني خشيت إثر ذلك ولكني ((أقمرت)) وراح من وقته وقابل رئيس الوزراء اللواء حمود الجائفي وإذا به يرسل لي الاخ العميد/ حمود بيدر .. ووصل وطلب مني الذهاب معه إلى رئيس الوزراء وهناك في القصر الجمهوري قابلت اللواء الجائفي فأبتدرني بقوله : «يا ولدي لا تفعل لنا مشكلة» الجمهورية (بتقاتل) في كل سهل وجبل والمصريون معنا في الميدان وليس معنا غيرهم والموقف دقيق..
فقلت له يا سيادة الرئيس ما فعلت شيئاً .، أحب الطلبة أن يدرسوا بعد الظهر فحولنا لهم بكتب.
فقال لي .. لا .. لا لازم تترك هذا العمل ..
فقلت له : ياسيدي أظنني لا أقدر على منع الطلبة من أن يتعلموا في وقت فراغهم وأظنهم سيتصرفون ضدي تصرفاً أهوجاً .. ويمكن أن تقبلوا استقالتي.
فقال : لا .. لازم أن توقف هذا العمل .. لازم أن توقف هذا العمل .. لازم أن توقف هذا العمل..
ووعدت خيراً وانصرفت..
عدت إلى الوزارة وأشرت لبعض الإخوان أن يستدعي لي النخبة من الأساتذة الذين جاءوني في المرة الأولى وأذكر منهم الأخ/ أحمد الجرادي والأخ/ محمد خشافة والأخ/ علي عبدالله الواسعي وآخرين انساني الزمن اياهم فالتقيت بهم وشرحت لهم الموقف .. ورجحنا في الأخير التوقف .. وأعدنا الكتب إلى محلها.
الاختلاف مع الأخ قاسم غالب
والوزير / قاسم غالب رحمه الله كان بعيداً عن هذا كله لا يمارس عمله دون استشارة الخبير محمود زايد ..وأذكر أنه كان الوالد قاسم غالب قد طرح في مجلس الوزراء فكرة المنح التي تأتينا من الدول الأخرى وأنه يجب أن تكون موزعة على المناطق .. يعني هذا أنه إذا جاءتنا منحة من أي دولة لعشرين طالباً فإن علينا أن نعين اثنين من تعز واثنين من الحديدة واثنين من حاشد واثنين من بكيل واثنين من لواء البيضاء وهكذا ..من دون نظر إلى مستواهم.
وشروط المنح كانت تأتي على مستوى معين وفي يوم من الأيام جاءتني رسالة من الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر .. أصحبها ستة طلاب من حاشد وقال : «إن هؤلاء ينبغي أن يكونوا في المنحة التي جاءتنا من الاتحاد السوفيتي وهم حصة حاشد وأذكر منهم الاخ علي الكبش ولا يزال حياً وبخير فتعجبت واحترت كيف أرسل طلاباً على مستوى الكتاتيب التي كانت موجودة في وقت بيت حميد الدين ، واتصلت بالكثير من الإخوة المسئولين وقلت لهم : هذه الفكرة خاطئة وأن المفروض أن يرسل الطالب على حسب مستواه لا على حسب منطقته..
ومن هذا المنطلق قد كان معنا أربعين طالباً بلغوا المستوى النهائي في المدرسة الثانوية في العهد البائد وعلى هذا الأساس فهم بحاجة إلى دراسة جامعية ولذا فقد امتحناهم وأعددناهم لهذه المنحة .. وكان معنا مستشار الوزارة حينذاك الأخ/ أحمد حنيبر وكذلك الوزير نفسه كان معنا في ذلك ووقعت أنا والوزير والمستشار ووكيل الوزارة العزي اليريمي في محضر تمام إرسالهم وبدأنا نجري الاتصال بوزارة الخارجية لمنحهم الجوازات وإذا بالوزير رحمه الله يبعث للخارجية برسائل أخرى وبأسماء أخرى أكثرها من لواء تعز ونتلقى من الخارجية رسالة تقول أي الطلبة تريدونهم أن يذهبوا لروسيا جاءتنا مذكرة بأربعين طالباً وتأتي رسالة من الوزير بأسماء أخرى ؟ ونجيب عليهم بما قد اتفقنا عليه.
ووقعت أنا والمستشار أحمد حنيبر والاخ العزي اليريمي وهكذا استمرينا في أخذ ورد .. يوقع معنا ويبعث برسائل أخرى .. والواقع أننا امسكنا عليه أكثر من مغالطة انسد الباب أمامه بالنسبة لما عملناه في المبعوثين الأربعين فنزل إلى تعز وبعث برسالة إلى فرع وزارة الخارجية هناك وكان المسئول فيه الاخ/ أحمد مفرح يطلب منه صرف أربعين جوازاً لطلبة آخرين من تعز وبدوره اتصل بالخارجية فأجابوه : بألا تصرف شيئاً ونحن الآن في صرف الجوازات لأربعين طالباً وفق طلب وقع عليه الوزير ومستشاره ونائبه ثم اشعرني بذلك الأخ/ أحمد مفرح برسالة عاجلة بالموضوع وسألني عن ذلك فأقنعته.
وموظفوا الوزارة كانوا يتفاعلون في كل الأحوال معي ويعتبرونني المسئول الأول الوزير لم يكن مستقلاً في اتخاذ قراراته لذا لقد كانوا يمسكون أية ورقة تمر وهي غير قانونية ويوصلونها إليّ..وسافر الأخ الوزير / قاسم غالب إلى القاهرة ومن هناك أرسل برقية إلى الخارجية أشعرهم فيها بالايتعاملوا مع أي أوامر تأتي من نائب الوزير وإذا بالخارجية تبلغني بذلك .. فتألمت .. وقلت : كيف يقول هذا الكلام وأنا نائب الوزارة بقرار جمهوري مثلما هو وزير بقرار جمهوري وعملي شرعي لا يستطيع أن يقيدني أو يمنعني ولاسيما وهو غائب .. ولقد بعثت له ببرقية قلت فيها : «الأخ سفيرنا في القاهرة .. كلموا قاسم غالب بأن الوزارة في صنعاء لا في جيبه وأنني نائب بقرار جمهوري وسأمارس أعمالي كاملة ولاسيما وهو غائب..
فاشتدت صدمته لقساوة لفظ البرقية .. فارتحل من القاهرة في اليوم التالي تماماً وكنت أنا قد كرهت هذه المهاترات التي شغلتنا كثيراً والهتنا عن أعمالنا الرسمية الصحيحة وبما أنني قد جمعت الكثير من المتناقضات والتي عليها توقيعه والأشياء الغريبة التي لا تتلاءم مع النظام والقانون ومع المصلحة أصلاً لذا فقد استحسنت أن أقدم استقالتي ..
وكتبتها وذهبت إلى الأخ وئيس الجمهورية عبدالله السلال وكان جوابه عليّ (مابش استقالة)) أبق في الوزارة داوم في عملك .. ولم يتح لي فرصة للكلام معه..
عدت أدراجي إلى الأخ الفريق / حسن العمري فقابلني بنرفزة وتشنج وكان بجانبه الحاج / محمد عكارس .. وقال : يا (حج) محمد .. شله .. شله فوق سيارتك للوزارة لا فوق الكرسي .. مابش استقالة يا أخ محمد .. ولا قبول للاستقالة.
وفعلاً مشيت مع عكارس إلى الوزارة وإلى فوق الكرسي لأني ما كنت أحب أن ألفت النظر في المشادة والتمرد.
وجلست على الكرسي قليلاً ثم انسحبت وفكرت في الاتصال بالقاضي/ عبدالرحمن الإرياني وكان وزيراً للعدل حينذاك وفعلاً اتصلت به وأعطيته الاستقالة وقلت له وقد أكمل قراءتها : أرجو أن لا تقول كما قال صاحباك (مابش استقالة مابش استقالة) .. من غير أن يسألني ما سبب الاستقالة.
ولكنه كان متروياً .. فاستوى في جلسته وسألني : ما سبب الاستقالة ؟
وشرحت له كل شيء .. ووعدني أن يبحث الموضوع مع الرئيس السلال .. وانتهى الأمر بتشكيل لجنة كان هو رئيسها .. والشيخ / سنان أبو لحوم وعبدالسلام صبره ومحمد قايد سيف أعضاء فيها..
وحضرنا لدن القاضي/ عبدالرحمن وكان يسكن بيت / قاسم بن ابراهيم الكائن شرق القصر الكائن شرق القصر الجمهوري وسأل القاضي / عبدالرحمن / قاسم غالب (ماهوه) ؟ يا أخ قاسم ما بينكم ..؟!
فأجابه : أنا رجل متدين (وأديتولي) نائب شيوعي ولا يمكن أن أنسجم معه وسكت..
فقال القاضي / عبدالرحمن : وأنت ما عندك با ولد محمد ..؟!
فأجبته : أنا لن أتكلم ضد الوالد قاسم غالب بلساني ولكن سأتكلم بلسانه هو .. وأخرجت كل المخالفات والتناقضات التي وقع فيها وبقلمه ..
وعند ذلك تألم الأخ قاسم غالب وتكلم بحدة ورفع صوته وقال : تأمل في هذه البرقية التي بعثها إليّ وأنا في القاهرة هل فيها شيء من الأدب أو الأخلاق : يقول للسفير ((كلم قاسم غالب)) فما كان مني إلا أن أظهرت برقيته التي بعث بها إلى الخارجية والتي قال فيها أن لا يمتثلوا لأي أمر يأتي اليهم مني.
وما كان من القاضي عبدالرحمن إلا أن قال «الواقع يا أخ قاسم أنك غلطت كثيرًا وأن الولد محمد ما عنده أي خطأ .. ولكنني أدعوكم إلى التسامح والتعاون وإلى تقدير الظروف .. التي تمر بها البلاد.
وعاد بوجهه إلي وقال «هذا أبوك يا استاذ محمد تعاون معه .. وهو من الأحرار وأنت تعرفه.
وخرجنا كل في سبيله.
المحافظة على النظام والقانون
وكنا في وزارة التربية والتعليم نحاول بكل جد وإخلاص أن تسير الأمور بانتظام ولذا فقد حرصنا على الالتزام بالقوانين التي كانت قد وجدت لكل إدارة للشئون التعليمية للبعثات لشئون التوظيف ولو كمرحلة وقتية لأنه لم يكن هناك في ذلك الوقت نظام كامل للإدارة وعممنا في الوزارة أنه يجب على كل مسئول ألا يتخطى القوانين وألا يخرق هذه النظم وأن نسير في ركبها جميعاً ، وشددنا على ذلك وفي يوم من الأيام جاءني شاب هو ابن الأستاذ/ عبده نافع الجندي وهو أستاذ سوري كان يدرس فيما يسمى في المدرسة الثانوية والمتوسطة بالعهد البائد وكان قد تعرف على الكثير من الزملاء الأحرار بحكم الانجذاب إلى كل أخ عربي خارج اليمن للانتفاع والالتماس منهم بصفتهم قد انفتحوا نوعاً ما على حضارة العصر وتمدنه ورقيه .. وقد أعطاه الأخ رئيس الجمهورية أمراً بأن تبعثه الوزارة إلى سوريا بلاده للدراسة وقد أطلعت على الأمر واحرجت لكني استدعيت مسئول إدارة البعثات وطلبت منه قانون البعثات وأطلعت هذا الشاب على المادة التي تقول إنه لابد وإن يكون المبعوث إلى أي دولة من أبوين يمنيين ومعنى هذا أنه لا يمكن أن نوافقه على طلبه وهو طبعاً قد كان مسلحاً بأمر رئيس الجمهورية وهو قمة السلطة ولذا فقد نهض غاضباً وراح من فوره إلى الرئيس وفي اليوم التالي أتى إليّ الأخ العميد/ علي عبدالله السلال ابن رئيس الجمهورية.وقال لي : إنه من اللزوم أن أنفذ أمر الرئيس ، فأطلعته على قانون البعثات وعلى المادة ذاتها فأقتنع بعد اطلاعه على تلك المادة المتعلقة بذلك.
وأضفت أننا خرجنا يا أخ علي من دولة الأوامر ودولة الفوضى، الدولة التي كانت تمشي عفوياً وبلا نظام دولة الأئمة التي كانت أوامرهم تنفذ بلا نقاش حتى قال أحدهم : «إن أوامرنا شريعة» وإننا الآن في بداية الطريق لإقامة دولة النظام والقانون ومن الوجوب علينا جميعاً أن نستمر في هذا النهج وأن نحميه حتى يشعر الناس بالفرق بين النظام البالي والنظام الجديد.
أشياء كثيرة كانت تقابلنا ونحن في طريقنا للعمل بعضها كنا ننتصر عليها وبعضها كان يعرقلنا ويشدنا إلى الوراء والفترة كانت فترة حرب وبحمد الله أدينا بعض الواجب في هذا المجال.
قامت حكومة أخرى برئاسة الأخ المهندس/ عبدالله الكرشمي بتاريخ 19جمادي الثاني 1389ه الموافق 2/9/1969م تعينت فيها نائباً لوزير شئون الرئاسة ومجلس الشورى القاضي / عبدالكريم العنسي وهذه الوزارة كانت شكلاً أكثر منها واقعاً فلم نؤثر في شئون الرئاسة لأنها كانت كلها في يد الأخ/ أحمد الرضي أمين عام الرئاسة حين ذلك وقد تشنج وأظهر بعض الامتعاض والمشادة مع الأخ الوزير.
وبالنسبة لمجلس الشورى كانت تديره الأمانة فيه وكان إشرافنا يسيراً .. ولكن ومع ذلك فقد جاء إلينا الأخ رئيس الوزراء المهندس/ عبدالله الكرشمي وكان مكتبنا في القصر الجمهوري فسلم علينا ثم استأذن من الأخ القاضي عبدالكريم العنسي على أن يأخذني معه فأذن وذهبت معه إلى أن ركبنا سيارته وسارت وإذا بي في باب التربية والتعليم وترجلت معه وأخذ بيدي ودخلنا الوزارة وصعدنا درجها إلى أن وصلنا إلى أحد المكاتب وإذا به يقول لي بالحرف الواحد اشتغل (هنا) غطِ لنا التعليم وأطلب ما تريد من العون والمساعدة.
وكانت قد قامت مظاهرات في صنعاء وتعز والحديدة لهذا السبب فأحرجت كثيراً إذ كيف استطيع وقد مر من العام الدراسي بعضه أن أعمل على تغطية التعليم وكم سأحتاج من الوقت والأستاذ عزيز وطلب المساعدة من أية جهة يحتاج إلى جهد ووقت ومال ولكني رضخت للطلب وتلفت يميناً وشمالاً لأبحث عن زملائي سابقاً ووجدتهم وتعاونا ليل نهار وغطينا التعليم في صنعاء وتعز والحديدة ولو كان ذلك بصورة غير متكاملة إنما ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
ومن فترة طويلة كانت أحوال البلاد غير هادئة وتموجات القدر تعصف بها من بحر إلى آخر وكان جسم الثورة ينهش من كل مكان والنكبات عليها تتوالى من كل جهة وحار الفكر فيما يمكن أن يلم الشمل ويجمع الكلمة ويوحد الصف بين البلد الواحد والشعب الواحد وكان أولي الأمر وأولي الرأي السديد والراجح ومن يهمهم مصير البلد وحفظه واستقامة حياته يجتمعون ويتلاقون ويتبادلون الكلام والرأي إلى أن اهتدى الجميع إلى العمل على قيام مؤتمر يدعى إليه كل وجهاء اليمن من كانوا وأينما كانوا وسرت الفكرة وسرت الكلمة بين الناس وقوبلت بالترحيب من الكثير والكثير جداً وبدأت الرسائل تُرسل والمساعي تبذل إلى أن قر الرأي عند الكل على قيام هذا المؤتمر في مدينة «خمر» وقد دعا إليه الأستاذ الشهيد/ محمد محمود الزبيري رحمه الله وسارعت القوى الخبيثة في قتله لإجهاض هذا المؤتمر ولكنه انعقد رغم ذلك برئاسة القاضي / عبدالرحمن الإرياني رحمه الله بتاريخ 3 محرم 1385ه الموافق 5/5/1965م.
وجاء إليه المدعو وغير المدعو من كل فج عميق وكان مؤتمراً ناجحاً وكان يُوجد في برامج سيره ما يمس السلطة ويحد من تصرفاتها ولذا فإنه عندما وصل الأمر عند الجد إذا بالانقلاب يأتي على رؤساء مؤتمر خمر وزعماء قيامه وكل من شارك فيه.
ليلة الشؤم الخامسة
وكنت أنا قد حضرته وشاركت في لجانه وتحركت فيما ينفع فيه وقمت بعمل متواضع من أجله لذا فقد كنت واحداً من المسجونين بسببه، ففي ليلة من الليالي إذا بي أفاجأ بعشرة جنود يقرعون باب بيتي ، فناديتهم وأنا داخل البيت : من تكونون وماذا تريدون ؟ قالوا : افتح وسنتكلم معك..
فتحت الباب وإذا بهم يأخذوني معهم إلى سيارة وبها ساقوني إلى حبس الرادع الذي كان شرق المتحف الوطني والذي قد صار الآن مقراً للباصات وكان يدير هذا السجن ضابط يدعى / علي العروسي وأشهد أنه كان يوزع نقمته على المساجين وبالأخص الأحرار المخلصين وكأني به موظف من الإمام .. وجمعتني غرفة واحدة بالأخ الحر / محمد بن محمد البازلي وكان زميلاً لي في الصحافة والشيخ/ أإحمد محمود عبدالحميد وكان رجلاً عظيماً وطيباً ومؤدباً أخذ عني بعض الدروس في اللغة العربية وفي التاريخ وجمعتنا زمالة عظيمة وكنا نتذاكر في كثير من الأشياء ونتذكر أسماء بعض الكتب وما كانت تحتوي عليه من مباحث وتذكرنا فيما تذكرنا «علم الكف» وأحسست برغبة مني ومنه في أن نتناوله بالقراءة ونتفهم ولو بصعوبة ما عُرض فيه وكنت أملك هذا الكتاب فاستحضرته وبدأت أنا وإياه في دراسته وأذكر أنني وقد جاء إطلاقه أهديته له وكتبت هذا الإهداء في أول الكتاب وقد قتل مظلوماً على يد عبدالله عبدالعالم وهو والد الدكتور/ أمين بن أحمد محمود.
وكان يتواجد في السجن الكثير من الجواسيس الداخل داخل والخارج خارج وكل منهم ينقل ما سمع وما لم يسمع حتى الحقير والتافه .. ومما كان يحز في نفسي أنا وغيري من أمثالي ما كنا نراه من النعيم الذي كان يتوالى على من حُبسوا من الرجعية ومن أهل الضغائن على الثورة والبغض للجمهورية حيث كانوا يُدعون في الصباح من الرسم الذين كانوا يساعدونهم لما يتلقونه منهم من عطاء .. يدعونهم ليأتوا لتناول «الصبوح الدافئ» وما أن يمضي وقت قصير حتى يدعونهم للفاكهة ثم يأتي وقت الغداء فيدعونهم لأخذ الزنبيل المليء بكل مالذ وطاب ثم بعد ساعة من ذلك ينادونهم للقات بينما نحن لاندعى من أحد ولا تمتد إلينا يد وكأننا غرباء في بلادنا.
ولم يكن يهمنا ما يؤتى إليهم لأننا لسنا من القطيع الذي يعيش ليأكل وإنما تكفينا الكسرة من العيش لنعيش من أجل مبادئ كريمة نرسخها وقيم عظيمة نؤسسها ونبنيها ليوجد بعد ذلك مجتمع السعادة والأمن والرخاء لكل الناس، وهذا هو هم الأحرار في جميع أنحاء المعمورة .. ولم يكن يهمنا ويؤلمنا ما أشرت إليه وإنما كان يؤذينا ما نلحظه عليهم من نظرة التعالي والازدراء والتشفي بما نحن فيه من الموقع البائس مع أن المفروض أن يتوزع النعيم بين الحاكم والمحكوم ونحن من الثوار والمفروض أننا الحكام بعد الثورة وأن يكون النعيم من حظنا ولكن على الوجه الحلال كما وأنهم قد كانوا حكاماً وعاشوا في النعيم ويعلم الله أنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، عسى الله أن يتوب عليهم.
وكان من جملة السجناء في هذا السجن الشيخ/ منصور حسن أحد مشايخ ريمة وأحد رجالها المهمين حيث كان قد اختصم مع أهل بلاده وأدت به النتيجة بعد ذلك إلى الحبس ، وعلم «الرسمّ» حراس الباب أنه ذو يسر وأن لديه جنيهات من الذهب فاستمروا في أذيته فتارة يقيدونه حتى إذا ما أعطاهم فكوه ثم يعودون فيقيدونه مرة أخرى حتى يعطيهم ثم يقيدونه وهكذا دواليك.
فاختليت به في مكان من السجن وقلت له : يا شيخ منصور لا تعطهم .. فيتعبوك دائماً طلباً لما عندك ولا تظن بأنك بالعطاء قد تكسبهم ويتركوك ! لن يتركوك ويحسن أن لا تكرر العطاء لهم أصلاً وإلا فسيتخذون منك مادة دسمة يتغذون بها.
وفعلاً نفعت المشورة . وقنعوا منه .. وكان له إلمام ب«علم الرمل» لذا فقد كنا ترى المساجين حوله كل يطلب منه أن يصرب له الرمل متى سيخرج ؟!
وقد مات رحمه الله وهو والد الأخ الدكتور/ عبدالملك منصور .. أمضيت في هذا السجن ستة أشهر خرجت بعدها إلى ماخرجت من مثله قبله حائراً لا أدري على ما ألوذ ولا إلى أين أتوجه ؟! وعدت لما كنت أقوم به من لقاءات بالإخوة المناضلين والذين كان بعضهم في المسئولية وبعضهم خارجها وكذلك الاتصال ببعض المشائخ من ذوي الشأن في البلد وفي ذات بوم كنت مع مجموعة منهم في لقاء غير مرتب في ميدان الشهيد العلفي وإذا بالرئيس السلال يمر في موكبه تحيط به ثلة من الجنود المصريين ونزر يسير من اليمنيين وكأني به وقد رأنا ظن فيما ظن أننا اجتمعنا لشيء ، وتفرقنا وكل ذهب في سبيله.
رحلتي إلى خولان
أحد تلامذتي في سجن نافع كان الشيخ/ علي بن علي الغادر أخو الشيخ / ناجي وكنت ألاحظ عليه حُب التفتح على الحياة وحُب الاستماع والإصغاء التام لكل كلمة أقولها وكنت متفائلاً بيقظته وتفتح فكره واستعداده التام لأن يكون شيئاً آخر غير ما عهدناه من أمثاله الذين لم يستنيروا بنور العلم والمعرفة وقد فرقت بيننا الأيام بأن أطلق مع من أطلق هو وزملاؤه من المشائخ وتأخر إطلاقي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير وانقطعت بيننا الأخبار ولم أعد أسمع عنه شيئاً إلا أني ذكرته عندما انتهى أخوه من المسرح بعد الثورة وفكرت في أنني ربما أجده وقد ترأس القبيلة في وعي جديد وفي فكر ميال إلى الخير فخامرتني فكرة الذهاب إليه في حولان لأساعده على نهجه في الدرب السليم الآمن لأنه قد ربما تزحمه عصبية ممن حوله من الجهال فيسير في نفس النفق المظلم الذي سار فيه أخوه وقد يكون عنده استعداد ولكنه بحاجة إلى من يمسك بيده ويشجعه على السير في الطريق الواضح.وكان للأخ/ علي حسن عشيش رحمه الله (( وهو صديق من الماضي دكان في شارع علي عبدالمغني وفي هذا الدكان التقيت بالشيخ/ حسين الصلاحي وهو من مشائح خولان من «قروى» وجرى الحديث بيننا حتى أنس بي وأنست به ثم أظهرت له رغبتي في أن أزور الشيخ/ علي بن علي الغادر في بلاده خولان «الأعروش» وأبدى لي استعداده التام لأن أكون معه وسافرت معه إلى بيته وبت عنده ليلة وفي الصباح أصطحبني واحد من أصحابه إلى أن وصلت إلى الأعروش ووجدت الشيخ/ عليا في بيته والواقع أنه استقبلني بحفاوة وأرادني أن أبقى لديه لوقت ولكني أشعرته بأنني جئت من أجل فكرة ولا أستطيع أن أبقى بعدها لحظة واحدة، وقد أطلعني على «دار عقبة» وهي دار مبنية من الزابور أطلعني على مافيها من الألغام والأسلحة والذخائر التي حصل عليها أخوه وجمعها من الملكية والجمهورية ، وتحاورت معه كثيراً وناقشت معه أحوال القبيلة التي تعيش في جهل جهيل وفي تخلف مهيل وفي فقر مدقع وفي حالة من السوء لا يعلمها إلا الله وناشدته وبحراره «العمل من أجلها والنضال في سبيلها ولكني وجدته بعد الحوار الطويل والذي استغرق يوما وليلة وهو الوقت الذي بقيت فيه عنده بعيداً في فكره عما أريد لذا فقد عدت أدراجي إلى صنعاء وفي نفسي من الحزن مالايعلمه إلا الله مع بقاء جذوة الأمل عندي قوية بأنه لابد وأن يضاء في فكره نور الحياة مهما طال الزمن إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.