تبقى الأبوة كدافع غريزي مقبولٌ ومحبب لفلذات الأكباد متى التزمت جذوتها بالتوهج في عمق كل من حاز على مرتبة الأب لتعمر خلجاته بدفء الحنان وتنضح بالطمأنينة على امتداد المحيط الذي يُدين له بالود من سرائرٍ خالصة من كل تمويه أما أن تشتعل الجذوة ليصبح جوف حاملها مسرحاً لألسنة الإشفاق المرهفة الحادة الحواف فهذا ما أسميه طوفان الأبوة الرحيم الذي لا يرحم والذي من شأنه الدفع بالآباء إلى النظر لأولادهم في عداد المقدسات حينا واحتسابهم من جملة ملائكة الله في أرضه أخرى، فيعلقون عليهم الآمال البعيدة كثيراً عن تكويناتهم والتوقعات التي يجدون أنفسهم ملزمين بالضرورة في السعي لأجل ترجمتها على صفحة واقع حياتهم العملية وبكل إتقان وحيث لم تتح لهم حرية في الإخفاق أو يُفتح لهم مجال لمجابهة الإخفاق على اعتبارهم صهوة ليس لها كبوة بفضل تجارب صاحب السمو التناسلي وفراسته التي لا تخطئ الهدف ، وتحت طاولة الأبوة القسرية يُقحم الكثير من الشباب في غمار الواقع بخطى وجلة وتصورات متذبذبة ترتجف في طياتهم الثقة بقدراتهم وينتابهم الريب في أهليتهم في التناول مع المجريات فيتجرعون الفشل كؤوساً تعقبها كؤوس، لقد شاءت لهم قدرة الأبوة ذلك فمنها يستقون الأوامر والنواهي فينقادون لحسابها ويخنعون لعقابها على مضض ، لم يكن لهم أن يتكيفوا مع واقعٍ مرسوم بريشة فناني القرن الثامن عشر الذين لا يأبهون كيف يسحق الزمان إذ يدور ؟! منهم الغافلونً عن كروية الأرض والجاهلون بعوامل المناخ والتعرية و...و....الخ. ثمة من الآباء من يعانون من وباء التبلد العاطفي إذ تكاد أن تكون صدورهم مقفرةُ إلا من تداعيات السطوة حيث يستغلون المربع الذي يحتلونه على خارطة الأسرة والمجتمع لممارسة القمع بأصنافه والعنف بألوانه ويجتهدون في تجسيد طقوس الاستبداد في حق الرعية من الأبناء والأحفاد وغيرهم ممن وجدوا أعناقهم تحت نير الحيز من مساحة المجتمع البشري الذي يكتض به ، وقد يكون كل ذلك لا لشيء سوى تفريغ شحنات الانتقام التي اكتنزها في حفيظته على امتداد مسيرة مراحله العمرية باختلافها وإلى الحين الذي آن أن يكون له عرش كعرش من تولى أمره بالأمس لتبدأ رواية انطلاقته من حيث تبدأ مأساة الكثيرين من شحمه ولحمه، وإن كان هناك من الآباء الناشئين في مثل الظروف الأنفة الذكر قد أخذ بهم السبيل في الاتجاه المعاكس فيكون منهم ذلك الأب ذو العينين المغرورقتين بدموع الرحمة وحنية الإشفاق المفرط يكاد سنا وده أن يغرس مقلتيه في قلوب أبنائه وأحفاده والآخرين من البؤساء ليسهر على راحتهم وينتزع من خلف ترائبهم خَبَثَ السنين وقد يبدو هذا النوع من الآباء هو جل ما ينشده الكثيرون إلا أنه يمارس سطوة من نوع آخر وتبقى النتيجة واحدة مهما تباينت الوسائل واستحدثت الأدوات ، ولا فرق أن يشقى الأبناء ويكابدون ضروب التعنت بفعل سادية الأبوة أو إسراف إشفاقها. حدثني أحد الشباب - ولا أجد ضرورة لتعريفه- عما يشغل فكره وخلاصة الحديث بأن له اباً وبرغم ثرائه الذي بالإمكان أن يكفل له ولأخوته العيش الكريم إلا انه يدفع بهما إلى الشقاء عنوة .. يضربون في الأرض طولاً وعرضاً ليجدون أنفسهم ولأكثر من مرة أمام والدهم يكررون عليه الاقتراح في أن يقتص لهم مبلغاً من المال ليبدأون به مشروعهم الخاص، وله الخيار في توجيههم مالم يسعده توجههم ... فيجيب عليهم عند كل مرة وبضحكة عريضة ملؤها السخرية إن هذه الثروة التي تتحدثون عنها هي بفضل جهودي وحصيلة رحلة كفاحي ردحاً من الزمان فلا تسول لكم أنفسكم بأني سأفرط منها بريال واحد ولا سبيل لكم سوى أن تركضوا في البراري ركض الوحوش، والرجل منكم من سأجده عما قريب بمثل ثروتي أو أكثر مالم فلستم أبنائي - من الممكن أن يصبح لكل منهم ما يضاهي ثروة أبيهم ولكن ما الذي يمنعه من أن يختصر عليهم المسافة ويعفيهم من سواد الأيام ؟!- وهل يجد الأب في مقامه هذا لذة في معاناة أبنائه المتقلبين على جمرات الشظف فلا يتوانى في أن يضرم بين جنباتهم حمم الأبوة ؟! ربما ذلك وارد مادام الأب يحرص التعقيب على ما سبق ذكره بقوله : لن أموت إلا وقد أفنيت كل ما في حوزتي من سيولة وموجودات ثابتة ولن أغادر ما يسد رمق عصفور!! آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه إنه طوفان الأبوة الطاغي وإن أبحث له عن مسبب لن أجد سوى الأبوة بعينها وقد يكون ذلك منها إما بدافع التفريغ كما ذكرت وإما إظهار العداء والبغضاء رغبة في صنع الرجال بأسلوب الطرق والطرق إذ لا مجال للسحب والتبريد وقد يكون بدافع الحنان المتدفق من ذوي الأعين المغرورقة بدموع التماسيح الذين تكاد أجسادهم أن تنصهر من خشيتهم على أبنائهم وكل ما في الأمر يرغبون في أن يرونهم على كراسي الملك مصدراً لفخرهم والعرب قاااااطبة... وفي مقام آخر ومع شاب آخر يسرد النزر من تفاصيل الهموم العالقة على سطحه بقوله: لقد تزوج والدي وهو في السابعة عشرة من عمره وها أنا اليوم قد جاوزت الثلاثين من عمري إلا أن أبي يقف بالمرصاد أمام فكرة زواجي كلما بدأت أن أفتح معه الحوار متذرعاً بصغر سني ! يضفي عبارةً اعتراضية بابتسامة منهكة - صغيراً ربما بالنسبة إلى سنه وإن أردت أن أتزوج فلا بد لي أن ألحق به وأكبره بكذا سنة لأصبح أهلا لها في نظره ولم لا ؟! أو أنتظر حتى يوافيه الحمام ولكني أخاف أن أسبقه- ليواصل بعدها الحديث إن أبي يضفي على صغر السن نوتته التي يعزفها عن ظهر قلب تلك التي يحكي فيها مجريات السنين العجاف التي مر بها على إثر زواجه المبكر وكأن به يريد أن يُذيقني إيَّاها..متناسياً بأني قد شاركتهم الاستلقاء على حلبة الموت المزعومة في حينها ولم أجد بداً اليوم إلا أن أتناول الكورس الذي يصفه أبي "صالح" حتى الثمالة (يتنهد عميقاً) آه كم أنت مشفقٌ عليَّ يا أبي ....! وتلكم ألوان مما تزخر به الأبوة والتي تبدو جلية للرؤية المجردة فكم من شباب نذر الرحيق من عمره وما يزال على الهامش فراراً من الطوفان يبحث عن جبل يعصمه فلا عاصم له ...! وعلى ذلك فإن الصدع القائم بين الشبابٍ وآبائهم جدير بأن يقف عنده خطباء المنابر وقنوات الاتصال بالجماهير بمختلف ألوانها وهذا أجدر بكثير من احتدام الخُطب والمحاضرات في ساحة اللحى والشوارب وإعادة بث غزوة حنين للمرة الألف، ويا حبذا لو نحاول أن نمرر ثقافة الأبوة الحقة ولو عبر الفواصل الإعلانية ولحظات جمع التبرعات مادمنا نحن الشباب صُناع الغد وأمل الأمة نفتقر إلى من يرشدنا ويشد من أزرنا ويساندنا في سبيل تهذيب علاقتنا وأقرب المقربين إلينا..آبائنا.. ، إذ أن المجد الذي ينتظره الآخرون منا لا ينحصر في التحرر من سطوات الأبوة وهذا ما أراه إذ لا بد للمجد أن يتجاوز هذا الحجم بملايين الأطنان وكم سأكون سعيداً وإلى جانبي كل أبناء المرحلة على سواء السبيل... [email protected]