أمضيتها مشدوهاً كشاعر تسكنه الوحشة .. أرِقاً أنفخ دخان التبغ في وجه الضجر ، وفضاء المكان المزدحم بطوابير من الفراغ .. حَبِلاً بشعور وأحاسيس غريبة نأت بي بعيداً عن تضاريس المكان تمنيت لو أُجهِضتُها.. على ضوءٍ أصفر شاحب يثير الشعور بالذنب .. قلبي منقبضٌ بشدة تماماً كما لو كان آلة استشعار ورصد أو نزع ألغام ... شيءٌ ما سيحدث ..!!؟ ذلك ما أنبأت به عينايّ التي كان رمشاها يرفان بسرعة عجيبة ، ولكن متى ؟ وكيف ..؟ ولماذا ..؟ وأين ..؟ ذلك ماكنت أجهله البتة .. مددت يمناي مع هزيع الليل الأخير وأدخلتها من تحت قميصي ووضعتها على صدري ..؟ ياإله الكائنات ..! قبائل ترقص على صوت قرع الطبول .. هكذا بيّن نبض قلبي ...كنت قد فقدت قداحتي بذات الليلة فاضطررت لاسباب اقتصادية اقتناء علبة كبريت رغم أنها ليست عادتي وربما كانت الأولى منذ ميلاد ادماني التبغ ...لم أدرِ ما حدا بي واجترني إلى تأمل علبة الكبريت طيلة الليل ومع كل لفافة تبغ أشعلتها ..، كلانا سلّم للآخر نفسه وكلانا سعى بكل ماأوتي من طاقة إلى استنزاف صاحبه ، أنا والسجائر وأعواد الثقاب.. ولاح الفجر أخيراً بعد ليلة حزن وقلق طويلة وصاح الديك السادي وأذن مؤذنُ الصلاة ، فنسيت كما عن غير قصد ما دار بخلدي وصال وجال بخاطري .. وتركت أذنيّ تستجوب الميكرفون بالإصغاء حتى فرغ المصلون من صلاتهم وماهي سوى لحظات حتى جذب أحدهم الميكرفون معلناً موت شخص لم أتبين اسمه أو اسم عائلته لخفوت الصوت وحزنه رغم ذلك فلم يفتني معرفة موعد مراسم الجنازة " الثامنة صباحاً"حوقلت وهللت ونويت الذهاب للصلاة عليه كائناً من كان ودُخت من الأحاسيس الغريبة والشكوك التي استفردتني واستحوذت عليّ وعجزت عن سبر غورها .. في الثامنة إلا دقائق قصدتُ المسجد يرافقني الحُزن الذي أُتخِمَ لفرط ما أسرف فيَّ..وانتظرت حتى جيء بالنعش في تابوت وطفقنا نصلي عليه وحرصت أن أكون في الصف الأول ..كنت جائعاً إلى موقفٍ كذاك يعيد لي صوابي ويوقظني من غفلتي .. تعب ريحان النعش -كنت أتأمله - من إراقة رائحته ورونقه ، وتدلت رؤوس "المشاقر" وأوراقها من فرط النعاس ، ولدى مغادرتها مكان مراسم الجنازة " المسجد " كانت قد أُتخِمت ، كانت ماتزال تتجشأ.. عقب ذلك مضينا نغذ الخطى مهللين محوقلين حاملين النعش في موكب مهيب صوب المقبرة ، وصلنا إليها وانشغل الجميع وانهمك في هيل التراب على القبر بعد أن وضِع التابوت في أحشائه ، وخلصت من ذلك قبل ان تصنع عليه تلة وابتعدت لخطوات وطفقت أنفض كفيّ وأصفق إحداها بالأخرى ليتطاير غبار التراب ، تراب القبر، الذي تعفرت به ..ومن ثم أدخلتها جيبي مطرقاً ، وفي أحد الجيبين وجدتُ علبة أعواد الثقاب والتي لم تشرق الشمس إلا وهي فارغة ..، تحسستها ولم يكن الأمر هيناً حتى أخرجها وأتخلص منها وسط ذلك الجمع المهيب ... شردت وأوغلت في الشرود متأملاً ما بجيبي وما يحدث وحدث وكان رهيباً فالتابوت الصغير " علبة الكبريت " لم يك ثمة فرق بينه وبين التابوت الكبير "النعش" الذي أودعناه منذ لحظات إلى القبر خصوصاً في عالم الطرود ،إلا أن التابوت الصغير لم يكن به جثة علاوةً على أن جيبي لم يكن ذا صبغة دينية .. وقفلت عائداً متثاقلاً لا ألوي على شيء عدا النوم بعد زوال ماأرقني وانقباض قلبي ورفت عيني السريعة ..حاملاً ذلك التابوت الصغير بجيبي جاعلاً منه رابطاً يذكرني بالموت كلما نسيته ...