كانت تعلم جيداً أنه لن يأتي، فستظل تنتظره حتى غروب الشمس، وتعود خائبة كالعادة، ومع ذلك حارت في اختيار الثوب الذي سيزيد من جمالها أمامه. أخرجت الثوب الأحمر، إنه جميل هل ترتديه؟ لا، وضعته جانباً وأخذت الفستان السوارية الأسود إنه سبب تعرفّها به. تتذكر جيداً ذلك اليوم، لقد كانت في الصالة الداخلية لنادي ليالي الشرق كانت في انتظار خطيبها الذي كان التأخير طبعًا متأصلاً فيه. كانت الموسيقى الهادئة، والجو المحيط يبعث في النفس الاستقرار والطمأنينة، لهذا كانت تحب هذا المكان ربما لأنه يعوضها عن ما تفتقده في حياتها، رغم مظاهر الغنى والرفاهية التي ترعرعت عليهما. كانت تشرب القهوة الإيطالية المعروفة الكابتشينو، فقد كانت من عشاق الأكلات والمشروبات الإيطالية برغم أنها لم تمكث في إيطاليا سوى عامين أو ثلاثة. هيّأ لها ذلك الجو بيئة رائعة لتتذكر حياتها التي تغيرت فجأة من النقيض إلى النقيض. لقد كانت تعيش بين أفراد عائلتها في بيت جميل راقٍ رغم صغره، وكان جميع أفراد العائلة يجتمعون على طاولة الطعام لتناول وجباتهم الغذائية مجتمعين، ولم يحدث أن تخلف أحد عن المائدة. تتذكر غرفة الجلوس التي كان يجتمع عليها كل أفراد العائلة يتناقشون ويتضاحكون ويتسامرون، كانت تشعر بأن الجميع حولها، وكانت تشعر وكأنها ملكة العالم بقربهم. قطعت خلوتها قهقهات لبعض الشباب والشابات في ركن من أركان الصالة، التفتت إليهم وقد أحزنها أن ترى الشباب وقد انحطت أخلاقهم، ولكن ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ ألم تكن في يوم ليس ببعيد كما هم، ألم تكن تبحث عما يعوضها عما تفتقده في عائلتها؟ ألم تكن لها شلة من الشباب والشابات؟ لماذا تحتقر أولئك الشباب؟ هل لأنهم في دولة عربية وليسوا في إيطاليا أو دولة أجنبية كما كانت هي؟ لقد كانت الحياة الجديدة التي نقلتها مع عائلتها من مستوى معيشي متوسط إلى مستوى أعلى كفيلة بتغيير جميع المقاييس المادية والإنسانية، فقد انتقلوا إلى منزل كبير، انفرد كل منهم بحجرة مستقلة وبدأت المسافات تبعدهم عن بعض تدريجيًا، فقد كانت لا ترى أشقاءها إلا مرة كل أسبوع أو ربما كل أسبوعين برغم انهم مازالوا يقطنون معها نفس المنزل ،ولا تجتمع مع شقيقاتها إلا في المناسبات ،حتى عندما ذهبت للدراسة في إيطاليا لم يعترض أحد على ذهابها للدراسة بمفردها رغم الفرحة التي شعرت بها في البداية ، إلا أنها شعرت بمرارة الحزن كون أحد أفراد عائلتها لم يشعر بالخوف أو القلق عليها حتى والدتها لم تجد صعوبة في إقناعها عندما حاولت الاعتراض. وحينما كانت ذكرياتها تجول بخاطرها ،جلس أحدهم على المقعد الكائن بجوارها دونما إذن، كان شاباً وسيماً لا تتذكر أنها رأته من قبل ، وقبل أن تفتح فمها سألها بكل رفق وأدب: -أنت رائعة الجمال لماذا ترتدين لون الحزن؟ بادرته بالإجابة وكأنها تتحدث مع صديق حميم برغم أنها تكره المتطفلين : -أعشق هذا اللون . بعثت كلماتها شيئاً غريباً في نفسه فعاد يسألها وقد اطمأن أنها لن تصده عما يستفسر عنه : -أتمنى أن لا يكون هذا نابعاً من جرح ألم بحياتك . -أو يعرف قلب الإنسان غير هذا اللون ؟أنا لا أنكر طبعاً اللحظات الخاطفة التي تشعر فيها بالفرح تلك اللحظات التي ربما لا تأتي .. كان حديثها مؤثراً، وكان له موقع خاص في نفسه خاصة إنه قد مر بما تمر به هي الآن ،فقد جعل تفكك أسرته منه إنساناً ضائعاً مدمناً للكحول والمخدرات ولكن هاهو الآن بفضل الله قد تجاوز محنته عندما تضامنت عائلته لمعالجته مما سببوه له ..كانت تجربة مريرة لا يحب أن يمر بها أي شخص .. أفاق من ذكرياته وقد عزم على مساعدتها لتجتاز هذه المرحلة فبادر بالقول : -لا احب أن يكون لون الحزن لونك. نظرت إليه بدهشة، وتنبهت إلى حديثها معه، كيف يجرؤ أن يصارحها بما يحب وما لا يحب؟ من يكون حتى يسمح لنفسه بان يشترط عليها لونها ؟نظرت إليه بازدراء ورحلت مسرعة وكأنها تهرب من جريمة اقترفتها! رحلت دون ما اكتراث بموعد خطيبها . قررت أن لا تذهب لمقابلته بهذا الثوب لأنه يكره اللون الأسود ،إلا أنها لا تزال تحبه فقد كان سبب تعرفها به . ارتدت أخيراً الثوب الأبيض، إنه ثوب أنيق جداً ،كماً أنه الهدية التي قدمها لها ليعبر لها أن الحياة صفاء وسعادة وليس حزن وكآبة منذ تلك الليلة في النادي وهي لا تستطيع أن تمنع نفسها في التفكير فيه، وترديد كلماته، ومحاولة اتباع مذهبه في الحياة، وبرغم أنها عزمت التخلف عن الذهاب إلى النادي وكأنها اقترفت شيئاً مشيناً لا تريد أن تتذكره، إلا أن لوعتها وإعجابها به شدها إليه فذهبت أخيراً، فقد كانت تشعر أيضاً بأن شيئاً ما يشدها إلى النادي غير الموسيقي الهادئة والقهوة الايطاليه كان يشدها حديثه الدافئ .لم تستطع التأخر عنه أكثر من ذلك فذهبت دون أن تخبر خطيبها بذهابها، بل إنها لم تخبره بخلع الخاتم من إصبعها، ربما لأنها لا تزال حائرة بين حياتها وبين ما قال لها ذلك الشاب في النادي ،ذهبت دون أن تحاول سؤال نفسها ماذا تريد منه ولماذا تعود إليه . وما أن وطأت قدماها أرض الصالة حتى وجدته جالساً على نفس طاولتها وعيناه مسمرتان نحو الباب كأنه في انتظار شخص ما يخاف عدم مجيئه .وما إن رأى عينيها حتى هب واقفاً، أسرع إلى باب الصالة قائلاً: -خفت أن لا تأتين الليلة أيضاً. لم يزعجها كلامه ،بل إنها فرحت كثيراً لاهتمامه بها، ذلك الاهتمام الذي افتقدته منذ زمن ولم تجده حتى عندما ذهبت للبحث عنه في إيطاليا ،حاولت أن لا تبدي فرحتها فردت عليه ببرود مفتعل : -لماذا؟ -منذ تلك الليلة وأنا انتظرك كل يوم حتى بات الأمل يهجرني رويداً رويدا -وماذا تريد مني ؟ سألته رغم أنها لا تدري ماذا تريد منه .توجهت إلى الطاولة التي اعتادت الجلوس عليها والتي كان جالساً عليها . مد يديه لإعطائها شيئاً ملفوفاً بغلاف جميل : -أريد أن أعطيك هذا ! أخذته وهي مندهشة : -ما هذا !؟ -أتمنى أن أراك به غداً. ومضى وانثنت هي خلفه عائدة إلى منزلها لترى ثوباً أبيض في غاية الرقة والأناقة .إنه أجمل من تلك الثياب التي اعتادت أن تشتريها من باريس، ومن تلك الثياب التي اعتاد والدها أن يشتريها لها من أماكن سفره ،فهذا الثوب يشعرها بأهميتها وأنوثتها . ارتدت الثوب الذي كان مناسباً جداً لها وكأنه صنع خصيصاً لها واستغربت كيف استطاع أن يعلم قياسها برغم قصر المدة التي انقضت بينهما. كانت مشتاقة للذهاب بالثوب الذي أهداه لها كاشتياق الأطفال للعيد. وجاء المساء ولم يأت، انتظرت ساعة ..ساعتين ..ثلاث ساعات الناس ينصرفون وهي تنتظر، أخبرها النادل بأن النادي يجب أن يقفل أبوابه الآن ،لايهم لعله لم يتمكن من الحضور الليلة وسيأتي غداً. في اليوم الثاني ارتدت الثوب الأبيض ذاته وذهبت ولكنه لم يأت ..جاءت الليلة الثالثة، والرابعة ، والخامسة وانقضى الأسبوع الأول وتلاه الثاني و كذلك الثالث وهي مازالت ترتدي الثوب الأبيض، وخاتم الخطوبة بعيد عن إصبعها . نظرت إلى نفسها في المرآة والدموع تختلط بالكحل لتتلون بلون الحزن الذي لم يحبه، ولكن كيف لا تكون كذلك وقد ذهب عنها تاركاً لها ثوباً أبيض ودموعاً سوداء .مسحت دموعها ولملمت ذكرياتها لتذهب إلى قبر من أحبته دون أن تعرف اسمه.