صدرت حديثاً باكورة سلسلة "كتاب الغرّاء" عن مجلة الغراء التي يصدرها فرع اتحاد الأدباء و الكتاب اليمنيين بمدينة زبيد بعنوان" الواقعية وسؤال الالتزام في شعر عبدالله محمد عطية" للشاعر الناقد العراقي الدكتور علاء الدين المعاضيدي - رئيس قسم الدراسات العربية بكلية التربية زبيد جامعة الحديدة . وفي تصدير الكتاب،الذي يقع في (88) صفحة من القطع الصغير، أوضح رئيس تحرير المجلة نائب رئيس اتحاد أدباء زبيد خالد الأهدل أن كتاب الغراء إصدار دوري يرافق صدور أعداد المجلة ويقدم دراسات نقدية و نصوصاً إبداعية لكاتب واحد أو منتخبات شعرية وقصصية لمجموعة من المبدعين،وأن الاتحاد" يتفرد به ليس عن بقية دوريات اتحاد الأدباء و الكتاب اليمنيين الأخرى وإنما أيضاً عن كثير من الدوريات الثقافية و الأدبية اليمنية ، بما فيها الدوريات الحكومية". مشيراً إلى أن هدف المشروع الأدبي" تسليط الضوء على مفردات المشهد الأدبي التهامي بصورة أكثر عمقاً وشمولاً من خلال نشر الدراسات و الأبحاث التي تتمحور حول هذه المفردات،وتوثيق أعمال وإبداعات الراحلين الذين لم يتمكنوا من النشر في حياتهم وحفظها من الضياع، و إصدار منتخبات شعرية وقصصية مشتركة تقدم رؤية بانورامية لأشكال و اتجاهات وتنوع الخارطة الإبداعية في هذه المنطقة من يمننا الحبيب". مستعرضاً قيمة ومكانة المدروس (عطية) والدارس ( المعاضيدي ) اللتين رشحتا الموضوع ليكون باكورة كتاب الغراء . فيما بدأ المعاضيدي دراسته بمقدمة تحدث فيها عن الإضافة النوعية للمكتبة الشعرية اليمنية التي شكلتها الأعمال الشعبية الكاملة للشاعر عطية التي صدرت بعد انتظار طويل كما قال عن وزارة الثقافة . وتابع:"وتضيف في الوقت نفسه وثيقة أدبية تاريخية إلى وثائق النضال الذي خاضه مبدعو اليمن الكبار على طريق تحقيق نهضة اليمن الشاملة و الانتقال بالوطن الأم من عصور التخلف والظلم والاستعباد والتمزق إلى عصور الثقافة والعلم و النور و الوحدة المباركة". لافتاً إلى أن صدور هذه الأعمال يفتح أمام الباحثين فضاءات جديدة تدعو النقاد المعنيين بأدب هذه المرحلة إلى التحليق عبر آفاقها الممتدة ، و سبر أغوار هذه التجربة الرائدة التي شكلت نقلة نوعية على صعيد الأدب اليمني الحديث بانفتاحها على الآفاق الشعرية والثقافية العربية. ويسترسل في حديثه مبيناً قدرة الشاعر على إثارة الأسئلة فيقول:" إن هذه الأعمال الشعرية التي بين أيدينا تثير أسئلة شتى تستدعي من الباحثين البحث عن مفاتيحها ليتمكن القراء من الدخول إلى العوالم التي يرسمها الشاعر بريشة الفنان المدرك لحركة الواقع " . ويمضي الدكتور علاء المعاضيدي معرّفاً معنى الالتزام الذي قامت عليه الدراسة قائلاً :"وليس الالتزام المقصود هنا ، هو ذلك الالتزام الأيديولوجي الضيق ، أو المحصور ضمن حدود التحزب إلى فكرة ما،وإنما الالتزام المؤمن بأن الفن عموماً ينطوي على رسالة إنسانية وينطلق من موقف ، وهو إنتاج بشري يعبر عن عاطفة منتجة نحو الوجود،وموقفه منه ومن الحياة بعدها جزءاً من ذلك الوجود ، فالعاطفة والموقف هما جوهر الفن ولا يمكن أن يصدرا إلا عن التزام ما . ومثل هذا الالتزام لا نعتقد انه يتنافى مع جماليات الفن عموماً والشعر خاصة. " ويؤكد على أن دراسته التي اعتبرها تناولاً مبكراً لديوان الشاعر " لا تدّعي الاستقصاء أو الإحاطة بموضوعها،ولكنها تزعم أنها تقدم كشفاً ما و تلقي ضوءاً على تجربة حافلة،وتأمل أن تكون حافزاً لدراسات جديدة حول أعمال وتجربة الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله محمد عطية انطلاقاً من كونها تجربة ناضجة و رائدة تستحق الوقوف على تفاصيلها و جزئياتها للكشف عن أبعادها و خصوبتها وفنيتها في الوقت نفسه " . و تعرّف الدراسة بالشاعر المولود في زبيد عام 1315ه - 1932م تقريباً،و تحلق مباحثها في فضاءات أعماله الشعرية انطلاقاً من المبحث الأول "بين يدي القراءة"متناولاً حياة الشاعر والظروف الصعبة التي عاشها وجعلته يحس بألم الملايين التي كانت تعاني ما يعانيه من شظف العيش والكدح والظلم،ونضاله مع مبدعي اليمن لكي تفيق تلك الملايين من كراها و تنفض عن جسد الوطن غبار التخلف و ركام عهود الاستعباد. و يقرأ المبحث الثاني"تجربته الشعرية بين الالتزام الفني والوطني " التي حاول عطيه فيها أن يضعنا أمام خلاصة تفاعلات تجربته الشعرية موجزاً تحولاتها موضوعياً و فنياً في أبيات كثيرة استشهد بها الناقد العراقي في دراسته، منوها بالنمو المتسارع و انفتاح الشاعر على التجارب الشعرية الحديثة و التقلبات الكثيرة في تجربته الشعرية التي " لم يعد بالإمكان معها وضع التجربة كاملة ضمن إطار أو مذهب فلسفي فني واحد،وإذا فعلنا ذلك قسراً فإننا نكون بذلك قد ظلمنا التجربة". أما المبحث الثالث الذي حمل عنوان " الواقعية و سؤال الالتزام في شعره " فيحاول الوقوف عند فضاءات الواقعية في شعر عبدالله عطية على وفق المفهوم العام للواقعية،أو للأدب الواقعي الذي يقوم على تغليب عامل الخير والثقة بالإنسان وقدرته على التغيير، إذ يقول المعاضيدي: إن النتاج الشعري لعبدالله عطية "يتوزع ما بين هموم الواقع الاجتماعي و السياسي لليمن بشكل خاص وواقع الأمة بشكل عام،وبين همومه وأحزانه الذاتية و واقعه النفسي الحزين،ولذلك يصعب الحديث عن واقعية خالصة أو حتى عن رومانسية خالصة". و قسّم المؤلف تجربة الشاعر إلى قسمين "مرحلة البواكير الشعرية"التي يُلاحظ فيها أن دائرة شعر عطية تتسع و تضيق على وفق اللحظة الآنية لتقلبات الواقع المحيط به ،وظلت عيونه فيها معلقة بين أمل يراه قريباً و فجر يبشر ببزوغه،و بين واقع مرير وإحساس مر بالوحدة تارة و بالغربة تارة أخرى. فيما يحدد ملامح شعر"المرحلة الثانية" بميلاد ثورة سبتمبر 1962م التي تحول فيها شعره من ثورية البحث عن الفجر الضائع إلى ثورية الحفاظ على الفجر الوليد. و في المبحث الأخير "الالتزام القومي" يستعرض الدارس القومية في الشعر العربي ،و يقف على أبعاد و منطلقات القومية في شعر عطية الذي ظل ملتزماً بقضايا الشعب والوطن والأمة في جميع مراحل تجربته الحياتية و الشعرية مستشهداً بالقصائد الوطنية والقومية التي قالها الشاعر في عدد من المناسبات والأحداث القومية. وتوجز الخاتمة أهم المعطيات التي انتهت إليها والتي أكدت أن الشاعر عبدالله محمد عطية واحد من أهم شعراء الرفض و التحرر و الثورة في اليمن ،وأنه كان مدركاً لحدود الخطاب الشعري و طبيعته،و انفتاح تجربته الشعرية على آفاق التحديث الشعري،و أن حرص الشاعر على الالتزام بالقضايا الكبرى الوطنية منها و القومية لم يؤثر سلباً على بنيته الشعرية التي حافظت على فنيتها. و أثبتت الدراسة أن الشاعر لم ينقطع عن التجربة العربية وظل يواصل ارتحاله إلى آفاق القضايا القومية رغم انشغاله في كثير من قصائده بالعابر و الحَدَثي و الآني . و دعا المؤلف إلى ضرورة الوقوف على أبعاد تجربة عطية الغنية و عدم تجاوزها لأن قراءة واحدة لا يمكن أن تكشف عن تفاصيلها . و قال المعاضيدي: إن دراسته "كشفت عن إشكالية ما زال المشهد الثقافي اليمني يعاني سلطتها القهرية وهي إشكالية التهميش لهذا المشهد و هو ما يدعو إلى وقفة جادة لتجاوز ذلك و العمل على إطلاق مبدعي اليمن ليحلقوا في فضاءات المشهد الثقافي العربي والعالمي من جهة وبعث التراث الأدبي المشرق الذي ما زال في جوانب كثيرة منه يعاني الإهمال و عدم الالتفات إلى كنوزه " . وأعرب عن أمله في أن تكون دراسته قد سلطت ضوءاً على جانب من جوانب شخصية كان لها و ما زال حضورها المبدع الريادي رغم غيابها جسداً ،و أن يكون قد فتح النوافذ أو الأبواب مشرعة أمام الإخوة الباحثين لتسليط الأضواء الكاشفة على جوانب التجربة الأخرى أو حتى تعميق هذا الجانب و تعزيزه.