كاد الدخان يغطي سماء الديوان،والسكون والسكينة قد سادا الجالسين وكأن على رؤوسهم الطير..ما عدا قرقرة المدايع «1»اللاتي يبددن الصمت بين لحظة وأخرى..أما أشعة الشمس فقد بدأت خيوطها الذهبية بالاختفاء وراء الأفق البعيد..وبدأت خيوط الظلام تزحف بتأن على الديوان الممتلئ بالمقيلين منذ الظهيرة..أما عيدان القات فقد تناثرت هنا وهناك وتجمع بعضها بأطراف مناديل المشمع التي اختلفت ألوانها...والخمول والسرحان أطل من عيونهم وكأن النعاس يداعب جفونهم..ويتنحنح أحد الجالسين ليستأذن بالانصراف إلا أن صاحب الدار أكد أن الوقت مبكر وطالبه بالبقاء..وقام نحو النوافذ الواسعة ليزيح عنها الستائر البيضاء التي كانت شبه منسدلة حتى يترسب النور المتبقي من النهار، ولكن ظلام الليل أبى إلا أن يحل على الديوان ليثبت وجوده..قام عفيف مصمماً على الانصراف لتحمله قدماه الثقيلتان بطول الجلسة ورأس مثقل بهموم حاول أن يتناساها بمضغ القات وبمنادمة الصحاب..أما ساقاه المتعبتان وجسده المنهك فقد حاول أن يشدهما حتى لا يقع على الأرض..اتجه إلى باب الديوان ليبحث عن حذائه التي كبست بين أحذية الرفاق وتلمس طريقه في الدرج الطويل حتى لايكلف نفسه عناء البحث عن أزرار النور وخرج إلى الشارع العام ومنه قطع الرصيف المقابل ليدخل بداية الزقاق الذي يصله بغرفته إلا أنه وجد الظلام وقد عم طرف الشارع وكذلك الزقاق.. تساءل ما الذي حدث فردعليه أحد المارة أن التيار قد قطع إثر حادثة عمود الكهرباء بطرف الشارع المجاور للزقاق.. تنهد بعمق إذ تذكر حالة الدكان الذي يسكنه مع زميله وقد عمه الظلام الدامس..تحسس طريقه في الزقاق الخالي من المارة..فالكل قد هجع بمسكنه بعد انقطاع التيار..فجأة تسمرت قدماه عند رؤيته ثلاث فتيات جالسات .بجوار منزل قديمة برأس الزقاق.. متكئات على كومة من التراب كانت بجانبهن حاول الاقتراب منهن علهن يردن مساعدته ولكنه تردد فقد يعتبرنه متطفلاً وقليل أدب..أراد أن يتراجع ويعود لمتابعة الطريق إلا أنه رأى أنظارهن متجهة نحوه وكأنهن يستنجدن به..تقدم مغامراً: مساء الخير.. لم يردن التحية وإنما أشرن بأيديهن..تشجع عندما رأى الإشارة وعرج نحوهن مركزاً نظره حتى يتبين ملامحهن فرأى اللثام وقد طوينه بإحكام على وجوههن فقط ظهرت أعناقهن البيض الجميلة..وأيديهم الناعمة التي تلمع وتتلألأ على الرغم من الظلام الحالك..فرك يديه وهو يجمع كلماته الهاربة: أعرف أيها الأخوات أن فتياتنا اليمنيات قد اتسمن بالحياء الشديد فمعذرة..انتظر منهن الرد الرادع..إلا أنه رأى أيديهن تؤشر له بعدم المبالاة.. أي مساعدة أنا على أتم الاستعداد، فلا تخجلن وافترضن أنني أخ لكن،فالليل قد هبط وقد تكن خائفات من مغباته.. توقع الرد هذه المرة ولكن الإشارة أيضاً توقفت..فكر بصديقه المشارك له بسكن الدكان..فقد استأجراه معاً بنصف دخلهما..زميله طالب وموظف بنفس الوقت أما هو فبائع بإحدى البقالات الكبيرة بأجر شهري محدود بالنسبة للمعيشة اليومية.. أخذ يحدث نفسه بصوت منخفض حتى لاتسمعه الفتيات الجالسات أمامه فهل زميله قد عاد إلى الدكان..وهل ياترى لو كان معه سيتقدم إليهن بنفس شجاعته واهتمامه بهن..لاشك سيفعل أكثر مما فعل فهو جريء أكثر منه وكل يوم يصف مغامرات قام بها أغلبها فاشلة وما تبقى منها مباهاة ليس أكثر.. هل تقصدن مكاناً بعينه حتى أقوم بتوصيلكن إليه..أشرن بعد الموافقة. أوقف تاكسي على الشارع العام حتى تصلن إلى منازلكن، أشرن إليه بعدم الموافقة أيضاً..تذكر القنبلة التي تركها قبل مكوثه فيها ثلاث ساعات متواصلة..سمع الهمس بين الموجودين عن فتيات منحرفات.. بعض الدارسين بقسم الاجتماع يقومون بدراسة موسعة عن الأسباب والمبررات التي تدفعهن إلى الانحراف..فهل هؤلاء ممن تحدثوا عنهن..ما العمل وهل هناك طريقة أستطيع أن أتحدث معهن..ثم كيف السبيل إلى رفع القناع فيما بيننا..خواطر شتى كانت تتوارد وتختلط لارتباكه الشديد...أما رجلاه فقد بدأت ترتعش من هول الموقف. ياريت وصديقي يبدو عليّ عله يسندني ولو بكلمة..ولكن إلى متى سأتخوف سيستهزئن بي..أنا رجل عقلي أكبر من جسمي..سأتشجع وأتقدم وأمري إلى الله..لم يسمع منهن الرد أيضاً وإنما لمح إشارة من أيديهم أن يجلس..وتقدم بتأن ورجلاه تكادان تتعثران وجلس بجانبهن وبدأ يرفع نظره من الأرض ويدير رأسه نحو إحداهن وبالذات الآتي بجانبه ولكنه سمع حركة بينهن فأعاد بصره إلى الأرض..وهو يجمع كلماته الشاردة ليعبر بها عن سعادته لتلك الفرصة السعيدة التي التقى فيها بهن..كلماته خرجت متقطعة وغير منسقة كما كان يريدها أن تكون.. إذا لم يكن مكان محدد اعتبرنني صديقاً أو أخاً إذا شئتن ويمكن أن نذهب معاً إلى غرفتي المتواضعة التي يشاركني فيها صديق فهو لن يمانع أو يتضايق..فما صديق إلا وقت الضيق..ويمكن أن تبقين فيها حتى الصباح..الصمت أيضاً كان ردهن.. يالفتياتنا..دائماً خجلات..صحيح أن الحياة من الإيمان، ولكن ليس دائماً فالظلام حالك..وأولاد الحرام كثيرون..هيا معي لأوصلكن إلى بر الأمان..انتظر الرد إلا أنه لم يسمعه فسكت برهة ليغير ألفاظه وينتقي كلماته فلعلهن يردن كلمات معسولة من تلك التي تعود أن يلقيها على بعض الفتيات المارات في الشارع، واللتي كن دائماً يردعنه بكلمات سخيفة وشتائم مقذعة. لكنه لم يسمع الرد أيضاً..فقط سمع حركة فيما بينهم،قد يكن مرتبكات، وقد يكن راضيات عنه ويتشاورن فيما بينهن سينتظر الرد..لا عليهن فليتشاورن كما يشأن ... فليس وراءه عمل..وأمامه الليل بأكمله.. مارأيكن..هل اتفقتن ياجميلات؟ فأنا واقف أطرق الباب وما عليكن إلا الرد..لا صوت أيضاً، اقترب منهن أكثر وأكثر وحاول الإمساك بإحدى الأيدي المتدلية والمكشوفة إلا أنه أمسك في الهواء.. تحسس بكلتا يديه..اقترب أكثر ولكنه سمع كشكشة أوراق فالتفت ليرى ما الحديث، رفع عينيه ليدقق فيهن النظر ولكنه صعق حينما رأى ثلاثة أكياس سوداء للزبالة ربطت أعناقها بشاشة بيضاء يخيل لمن رآها أنها أعناق مكشوفة..أما الإشارات والحركة فليست إلا هبات الرياح التي كانت تحرك الخيوط المتدلية من الربط. قام مسرعاً لا يلوي على شيء..تلفت يميناً ويساراً خائفاً أن يكون قد رآه أحد.