في احدى المرات عندما كنت ماراً بمحاذاة احد الأزقة في الساعة 11مساءً بمديرية كريتر، فجأة!! رمقت عيناي شيئاً غريباً يتلوى في العثمة ويخربش بين كومة من الأوراق البالية والجرائد والكراتين فحسبته قطاً جائعا أو فاراً يبحث عن بقايا الطعام ،فشدني فضولي الصحفي للاقتراب ،وحين اقتربت بشكل كبير اضطررت إلى إزاحة بعض تلك الأشياء لأتأكد ماذا يوجد تحتها ، فما الذي رايته ؟!!طفل صغير لا يتجاوز 10 سنوات يغط في سابع نومة،تحت هذه الكومة لكي يتوارى عن الأنظار وملتحف بورق الجرائد يتصف بهزال جسمه وشبه عار من الملابس إلى جانب انه متسخ تفوح منه روائح كريهة إلى ابعد حدود التصور،وبالطبع الناس في ذهاب وإياب لا تلقي له بالاً وكأنه إحدى تلك الأوراق المتكدسة على حافة الزقاق أو ربما لم يعلم به احد منهم. وبعد أن كشفت عنه النقاب اندهش المارة ورمقوه بأعينهم ومنهم من رثى لحاله ومنهم من مصمص شفتيه على وضعه ونومته في الشارع بعيداً عن أهله.. إلا أنهم في النهاية تخطوه بإقدامهم وتركوه يواجه مصيره ..حيث لم يتجرا أحد منهم على مد يد المساعدة له أو وجه إليه أي أسئلة .. من أين أنت ؟ أو ماذا تفعل هنا؟ أين اهلك ؟. صراحةً المنظر ووضعية الطفل لفتت نظري وآلمني ما يعانيه فبقيت متردداً ..هل أرحل أم أبقى معه؟ وبقيت ابتعد قليلاً واقترب وأمشي وأتخيل منظره وهو نائم فوجدت شخصاً أخر متردداً مثلي وهو شيخ في الستين من عمره.. وواضح عليه انه كان مغادراً محله إلى منزله وبينما هو مار بجانبي وأنا مع الطفل نظر إلي ونظرت إليه وقلت له :- كيف حالك أيها الشيخ ما بالك بماذا تفكر؟ فقال لي ورد لي نفس السؤال وأنت يابني بماذا تفكر؟ فقلت له إذن توكلنا على الله وتوجهنا نحو الطفل لإيقاظه فنظر إلينا وهو يرتجف ويبكي ويقول-لم افعل شيئاً ..وقلت له لاتخاف يا عزيزي نحن نريد مساعدتك وسنعطيك شيئاً حلواً .. فقام من نومه وكانت ملامحه توحي بالشقاوة وهو طفل أسمر ويملأ وجهه وبقايا ملابسه وجسده تراب وقاذورات الشوارع فقام بسرعة وحاول أن يجرى فمسكته بيدي وقلت له .. إلى أين أنت ذاهب فاقتربت منه وطبطبت عليه وقلت له أنا والشيخ يابني سنساعدك أنت من فين ؟ وجاءنا الرد كالتالى: أنا فار من بيتنا المبني من القش والأعواد والكرتون من حوالي شهر تقريبا. وصديقنا عواد من فئة المهمشين من ضواحي محافظة عدن.. وبالطبع كان صديقنا يتعامل في بداية الأمر بحذر شديد وكنت أتظاهر بتصديقي لرواياته ..وكان قليل الكلام .. ولكني أمسكته بيدي وأخذته معي وايضاً مبادرة مني لكسر حاجز الخوف ولأبتاع له العصير ووجبة عشاء لان الجو كان حاراً جداً كما يعلم الجميع إننا في فصل الصيف..وبعد أن أحس الطفل بأمان بدأ يحكي لنا انه لا يريد أن يرجع إلى البيت لان أباه يقوم بضربه وكانت تظهر على جسمه أثار الضرب المبرح الذي كان يتعرض له أما والدته فليست متفرغة لرعايته وتعمل منظفة في أحد البيوت وهو من عائلة فقيرة جداً لا يجدون إلا فتات الطعام الذي لا يسد رمق جوعهم . وحكى لي عن شقاوته وكيف جاء إلى هنا .. وأنا معه مستمر بمحاولة أن اصدق أي شيء من حكايته ولم استطع أن استوعبه لان كلامه سابق لسنه تحس انك تكلم شاباً جاوز العشرين من كلامه ووثوقه من نفسه وهو يتحدث إليك فسألته عن اسمه فقال لي عواد فقلت له عاشت الأسامي يا عم عواد فضحك وقال لي أنت اللي عمنا ..وبعد المزحة بدأ الطفل يحس براحة وأمان لي وللشيخ وفي الأخير جاءت لحظة المواجهة بأننا نود عودته إلى البيت ولأسرته وحضن والدته فرفض فقلنا له هل تشعر بالراحة بعيشة الشارع وعجبك هذا الحال؟؟ فرد عواد قائلاً: بالنسبة لحالتي هذه العيشة أقضيها بحرية.. يوم هنا ويوم هناك.. وقلت له ماذا لو خطفك أحد أو استغلك في السرقة فتصبح لا سمح الله لص وبعدين يزج بك في السجن ومن ثم يسلمونك لمركز الأحداث حتى تبلغ السن القانونية ويحاكمونك وتقضي سنوات بالحبس ..فأجاب عواد : وهو في حالة خوف وتوثر مما قلناه له لا ياعم لا أريد!!فحاولنا نقنعه أن يقول لنا أين يقع منزله ؟ فلم يخبرنا ..وقال للأسف أنا نفسي لا اعرف أين يقع ..وفجأة لم اعرف كيف تملص من يدي؟! أظنه عندما شاهد احد رجال الشرطة يمشي في الخط المحاذي لنا فاختفى عواد بلمح البصر ولم اعرف أين ذهب !. في ختام حكايتي هذه أريد أن أوجه رسالة هامة جداً لأولياء الأمور واحثهم فيها على أن يكونوا صدراً حنوناً لأبنائهم فالقسوة والشدة المفرطة قد لا تنفع مع الأطفال وإنما يجب على الوالدين توفير جو أمن وبيئة أسرية مليئة بالحب والود كل حسب إمكانياته وظروفه فهم بالأول والأخير أمانة في أعناقكم فحافظوا على هذه النعمة قبل أن يصيروا رفقاء سوء والشارع ملاذ لهم وينضموا إلى صديقنا في هذه الحكاية (عواد) الذي من بعد ذلك اليوم لم أجد له أثرا سوى صدى يتردد في ذاكرتي لن أنساه ما حييت.. «معاً لشوارع خالية من ظاهرة أطفال الشوارع» ودمتم سالمين.