الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يفترش الأرض ويلتحف السماء
طفل رفض أهله .. سگن المقابر ودار الأيتام
نشر في الجمهورية يوم 15 - 09 - 2008

التفكك الأسري عنوان عريض لمجتمعات ينتظرها تحد كبير لتأهيل وتهذيب جيل يعاني خاماته البشرية من غياب دور الأسرة في إنشاء جيل صالح تربى على الأخلاق والأسس الصحيحة ليستفيد المجتمع من جيل يبني لا يهدم.. جيل الشارع كان مدرسته ومعلموه في مراحله الأولى كانوا الشحاذين والمتسولين.. تثقف من الأزقة وتعلم فنون قتال الشوارع ليتخرج بعدئذ من أكاديمية “ دبر حالك والرزق يحب الخفية” ليقبل على المجتمع فهلوياً لا ينصاع لأي قانون ولا يهمه شيء والباحث في واقعنا سيجد حالات كثيرة لعينات سالف الذكر وأطفال يتموا رغم أن الأب والأم مازالا على قيد الحياة.. أطفال تشردوا في الشوارع وذاقوا قسوة الحياة منذ نعومة أظفارهم.. حكايات موجودة وكثيرة نراها ونسمعها تطلب منا العون فتارة نخرج لها ما قسم الله وتارة أخرى ننهرها وندفع بها لتبتعد عنا.قصص الشارع مليء بها ينتظر من يقلب أوراقها العشوائية والمبعثرة.. يجمع أحرفها.. يقرأ سطورها.. يكشف خفايا وأسراراً أليمة لقدر محتوم وقصة مظلوم.
من منا استوقف برهة يسأل ويتساءل ما السبب وراء خروج الأطفال إلى الشارع.. بالتأكيد سنستخلص للمثل المصري القائل “ إيه اللي صبرك على المر قال اللي أمر منه “ نستخلص إلى حقيقة مفادها أن وراء كل واحد من هؤلاء الأطفال قصة مؤلمة أجبرته على سؤال الناس.
لم نكن نبحث وإنما ساقنا قدرنا للتعرف على الطفل عبد الرحيم المداح.. قصة من بين مئات بل آلاف القصص الحية التي فتحت أعينها لتجد بيتها الشارع.. نماذج حية لصغار أبوا الاستسلام وظلت أجسادهم الضعيفة تكافح وتناضل.. تجاهد.. نعم تجاهد من اجل البقاء في عالم لا يرحم.
حكاية لم نجد لها دفترا أو عنواناً 11 عاماً بين العيش في الشارع والمقابر ومن ثم الانتقال للعيش في دور للأيتام والالتقاء بالأسرة بعد أربع سنوات مضنية في البحث وبعد إن صار الطفل غلاماً.
حكايتنا اليوم عميقة حزينة عن طفل قهره التفكك الأسري ليصبح يتيماً بلا مأوى.. هي غامضة في بعض تفاصيلها لكن الخيال سيسافر بنا لنرى معا ونعيش سوية أحداث حياة عبد الرحمن كما كانت..فما هي إلا كلمات قليلة خجولة غير مرتبة تخرج من فوه غلام في الحادية عشرة من عمره ليحكي لي ولكم عن احد ضحايا أسرة تركت الشارع العائل والمسكن والمدرسة لابنها الصغير.
بداية الحكاية
عبد الرحمن لا يعرف من أين يبدأ ولا حيث سينتهي.. (11) سنة مروا عليه عاش عارياً فكان يفترش الأرض ويلتحف السماء.. وفي النهار الشمس أشعتها تلفح وجهه الطفولي ولم يجد مخباً أو ظلاً يهرب منها وفي الليل كان القمر سراجه والنجوم المعلقة البعيدة أمله وأصدقاءه يتسامر مع النجوم وفي حضرة القمر.. يشكي لها وما تزال تستمع إليه حتى يغلبه النعاس وفي كل ليلة خدوده تغتسل بقطرات الدمع من عينيه.. قطرات تسيل وتلمع وكأنها أصبحت نجمة مضيئة ومن حولها النجوم.. وما إن يلتصق جفناه بعضهما يدخل في سبات عميق.. يحلق في عالمه منفرداً لم يكن ليكشف لنا أو لأحد عنه عالماً يفضل أن يظل شيئاً خاصاً به يحتفظ بأسراره وسبله.. عالم مثالي وأحلام وردية.. يهز برأسه مجيبا عن سؤالنا هل ستتحقق أحلامك ليشير بعد ذلك إلى السماء وكأنه يريد أن يقول ستتحقق وإن لم تكن في الدنيا ستكون في الحياة الأخرى الحياة الأبدية التي لن يكون فيها شقاء أو تعب حياة للصابرين حظ فيها.. كان صابراً على ما أصابه راضياً بقضاء الله حامداً عطاه آمناً في منامه ساعياً في النهار..فكان كالكبار ورب البيت ما إن يشعشع ضوء الصبح حتى ينهض باحثا له عن رزق يتمثل بريالات يتصدق بها احدهم عليه ليتناول إفطاره وان لم يجد يظل صائما حتى يجد من يعطف عليه ويهبه من فضل الله.. يستمر بالبحث فيجوب شوارع المدينة وحينما يحل الظلام يفترش الرصيف لعل وعسى أن يرتاح جسده المتعب ويجد السكينة لكن من سيترك ذي الخمسة أعوام يرتاح ويهنأ في نومه.. أينما كان يولي لينام يجد ما يزعجه ويقلق منامه وكل ليلة كان يجرب مكانا غير الذي قبله لعله يعثر على مكان اهدىء.. تعز كلها كانت سرير مفتوح يتقلب يمنا ويسرى.. فينام على جنبه الأيمن في المدينة ليفتح عيناه في صاله.. هكذا يترحل ليل نهار ويتنقل من مكان لآخر داخل نطاق محافظة لم يكن يعرف غيرها وان كان هناك أصلاً غيرها ورغم سعة سريره وحجمه الفريد من نوعه لم يبلغ هذا الطفل السكينة التي يبحث عنها فبعد يوم شاق وطويل بحثا عن اللقمة والماء التي تساعده على الاستمرار في الحياة.. لزم لهذا الجسد النحيل أن يكن ويستكن فكانت مقبرة الاجينات الخيار الأفضل والأنسب بعيدا عن أضواء المدينة وإزعاج المارة وأبواق السيارات وأصوات الدراجات النارية وأذى الكلاب المتشردة
النوم في المقبرة
أخيراً وجد الطفل المتشرد ضالته وسريره الجديد الهادئ المنعزل بعيداً عن شيء (يطير النوم من عيونه) عثر على راحته بين الأموات والمدفونين تحت التراب.. عثر على مكانه المراد والذي لن يزعجه فيه احد بعد الآن أو يقتسم معه فراشه.
وجد له مكاناً في أحد أركان المقبرة المزدحمة والمكتظة بالنائمين الذين لن يصحوا إلا في يوم لا يعلمه إلا الله عز وجل.
حي بين الأموات أم ميت مع الأموات
لم يكن بحاجة إلى أي أثاث أو تجهيزات لغرفته الخاصة فجسمه الصغير يسمح له أن يغرسه بين قبرين أو حتى حجرين.. الكبار يخافون دخول المقابر في الظلم وعبد الرحمن ما إن ينزل الليل يسارع سعيداً بالعودة إلى بيته يتحسس ويتلمس القبور وصولا إلى فراشه الترابي ليبدأ معه ليلاً طويلاً وكما كان يفعل دوماً يبدأ بمسامرة النجوم مع فارق أن هذه المرة لن يقاطعه شيء أو يزعجه إنسي.. سلسلة حكايات يومية ظلت النجوم تستمع إليها من طفل لم يكمل عامه السادس بعد.. يستمتع بالنظر إلى السماء ومحادثتها وتستمتع بدورها النجوم بالإصغاء إليه.. ألفة وصداقة صادقة على غرار تلك الصداقات التي أنشأها مع أطفال آخرين هم وجدوا أنفسهم أيضا في الشارع بلا مأوى يتشاركون التسول ويقتسمون الخبز القليل فيما بينهم.. هم لا يشبعون وأبدًا بطونهم لا تمتلىء لا يجدون ما يسد رمقهم ومع ذلك تراهم يبتسمون ويمرحون وتسمع تلك الضحكات ترتفع وتعلو والرحمة من عند ربي تنزل.. المطر قطراته الناس يهرب منها وأطفال الشارع وبينهم عبد الرحمن يسارعون للاستمتاع بها والاغتسال تحتها.. دش رباني بارد منعش يداوم عليه عبد الرحمن ورفاقه كلما فتحت السماء أبواب الرحمة وانهمر المطر.. وبه تغتسل أجسادهم ومن قبلها لباسهم الممزقة والملتصقة بجلادهم.. هم لا ينزعونها عنهم وليس لديهم غيرها لا يخشون المرض وإذا ما مرضوا فالله وحده يشفيهم أليس هو القائل في محكم آياته “ وإذا مرضت فهو يشفين “ صدق الله العظيم
هو طفل رغم الشقاء الذي كان يعيشه كان يحاول أن يستمتع لتكون علبة المياه الفارغة كرته التي يدحرجها ويتفاخر بمهاراته وهو يتفنن اللعب بها وكانت الحجارة بديلا له عن الفتاتير أو الخرز كما يسمونها.. الخيارات أمامه كانت متوفرة ولم يكن لشيء يمنعه من الاستمتاع لكن وقت اللعب كان اقصر ما يكون ووجب عليه السعي وراء طلب الرزق والعمل بجد لتوفير ما أمكنه ولا يظن أحداً أن التسول وسؤال الناس بالأمر الهين.. أي نعم هي مهنة لا تعترف بعمر وليست متصلة بشروط.. أي نعم أنها مهنة من ليس لديه مهنة لكنها على حد قول عبد الرحمن صعبة ومريرة بحاجة إلى من يتعلمها.
الآن أصبح عمره ستة أعوام فمرت الأيام والأشهر وربما قليل من السنوات سريعا وما زال عبد الرحمن في الشارع يعمل وفي المقبرة يسكن إلى أن حدث شيئ غير من حياته.
ترى ما هو ذلك الشيء الذي قد حدث وتشقلبت معه حياة طفل لم يكن ليعلم انه يعيش آخر أيامه في الشارع الحياة التي لم يكن هو من اختارها.. ومن منا يستطيع أن يختار حياته أو حتى والديه.
الشرطة تمسك بالطفل
ففي مقبرة الاجينات لفت انتباه احد أبناء المنطقة أن صغيراً في السن يدخل خلسة إلى المقبرة ولا يكون ذلك إلا عندما يحل الظلام في حين يغيب تماما عن المقبرة طيلة النهار.
استغرب الرجل للأمر فحاول أن يعرف ماذا يفعل أو ماذا يدور بخلد ذلك الغريب فعلا انه لشيء لا يقوم به إلا من كان غريب الأطوار.. حيرة الرجل وفضوله دعياه إلى مراقبة الطفل وبعد أيام من الترقب والمراقبة عرف انه يأتي لوحده في الليل إلى المقبرة لينام بجوار الأموات ليصحو مع صياح الديك وصوت الطير في السماء يصحو مبكرا لينطلق مسرعا دون ضجيج.. حينها تنبه الرجل إلى أن الطفل مشرد بلا مأوى أو مسكن فما كان منه إلا أن أبلغ عنه قسم شرطة المنطقة وكانت خطتهم أن يكبسوا على عبد الرحمن في حين غفلة منه يأتوه وهو نائم.. وبينما هو يغط في نوم عميق يحلم ومن بعيد النجوم والقمر تسهران عليه فتح عينيه ليرى شابا اسود كثيف الشعر يقترب منه أكثر فأكثر لوهلة ظن انه حلم مزعج ليسمع صراخا في وجهه وكلمات لا يزال يتذكرها “انهض تحرك” أيقن حينها انه لم يكن ليحلم نهض وهو يرتجف خائفا.. أربعة رجال يحيطون به وبفانوس يد يضيئون نحوه.. خاف الفتى فهو يعرف أن من يحيط به رجال شرطة لا يلاحقون إلا المذنبين والمخطئين فحاول عبد الرحمن الهرب من ذنب لا يعرف ما هو.. هو يحفظ المقبرة جيداً كيف لا.. وهو مسكنه منذ فترة ليست بالقصيرة.. أفلت منهم وراح يتنقل من حجرة إلى أخرى ومن فوق قبر إلى آخر تاركا الأربعة خلفه وما إن هم بالخروج من المقبرة إذا به يصطدم بشيء أوقعه أرضاً حائطاً لم يكن موجوداً حينما دخل إلى بيته لم يكن يعلم انه اصطدم بحائط بشري.. هو ذلك الشخص الذي كان يراقبه وهو نفسه الذي أبلغ عنه وكان متأكدا أن الطفل سيحاول الهرب ومن أين سيخرج من المقبرة.
امسك بعبد الرحمن وتم نقله إلى القسم وبعد البحث والاستعلام لم يتعرف عليه احد فلم يكن له أهل وظن الجميع انه يتيم الأب والأم وليس له أصل أو من يسأل عليه ولم يجد رجال الشرطة شيئا أنسب من أن يتم تسليم الطفل إلى دار الأيتام وهو ما كان.. فقد تم إيداع عبد الرحمن عبد الله المداح في دار الأيتام بتعز ليبدأ حياة جديدة ونمط حياة غير مألوفة له وليس بشيء يشبه عالمه الذي اعتاد العيش فيه.
العيش في دار للأيتام
انتقل عبد الرحمن إلى الدار وتم استلامه من قبل الإدارة التي سعت جاهدة للاستعلام عن الزائر الجديد ما من شأنه يهديها إلى أسرته خيط ولو رفيع من خلاله تبدأ البحث لكن لا فائدة وكل ما خلصت إليه من عبد الرحمن هو اسمه فقط.
في البدء لم تكن الحياة الجديدة بسهل تقبلها فالحياة هنا تختلف عن الحياة في الشارع لم يعد يشعر انه حر يحلق أينما يحلو له يأتي ويذهب دون أن يراقبه احد لم يكن هناك من يمنعه عن فعل أو تجربه شيء لم يكن هناك من يخاف عليه ويهتم بمصلحته الوضع الآن اختلف عما كان عليه في السابق.
الدار في بادئ الأمر كان عالما غريبا عنه وللوهلة الأولى كان يعتقد الطفل انه مسجون لا يسمح له بتعدي السور فحدوده تتوقف عند ذلك الجدار والبوابة التي يقف عليها حارس يمنع خروج احد دون أن يكون مصرحاً له بذلك.
إذاً الحياة في الشارع أفضل رغم صعوبة العيش فالحرية كنز لا تشترى بالذهب.. هكذا كان شعور عبد الرحمن في البداية.. لم يرض بوضعه الجديد ولم يكن من السهل عليه التأقلم معه أو مع من هم حوله.
الحنين للأصدقاء
شعر عبد الرحمن بالحنين ولم يكن ليبتعد عن الذين ظلوا معه لأعوام فكان ما إن ينام الجميع يسير متخفيا إلى حوش الدار ينام في زاوية هناك على التراب وتحت شجرة يحدق إلى السماء فيبتسم متمتماً بصوت خافت غير مفهوم خوفاً من أن يسمعه احد وهو يحدث أصدقاءه القمر والنجوم.. الآن عاد ضوء القمر ولمعان النجوم .. القمر اكتمل وصار أحلى وأجمل برؤية عبد الرحمن.. ما أروعه من مشهد حتى أن الشعراء يعجزون عن وصفه وكذلك ريشة أشهر الرسامين ليس بإمكانها رسم المشهد
منظر لا يضاهي جماله شيء أي ورب الكعبة.
وكما يقال دوام الحال من المحال.. من سيعطي الحرية لعبد الرحمن ينام أينما يشاء ويسمح بهروبه اليومي في الليل للنوم في ساحة الدار.. الإدارة علمت بالأمر وفرضت إجراءات تمنع تكرار فعل الطفل.. ومع مرور الأيام والسنين عبد الرحمن بدأ يندمج مع حياة السجن تلك.. كون صداقات جديدة مع أطفال زملاء له في الدار لكنه ابداً لم ينس أول صديق له القمر والنجوم.. شرع يحكي لأصدقائه الجدد ما كان يقصه للأولين انخرط معهم ضحك معهم ناموا سوية.. أكلوا من صحن واحد تشاركوا الأيام حلوها ومرها.. كانت السعادة تغمره وهو يتعلم القراءة والكتابة شعر بآدميته وانه طفل غير ما كان عليه.
العثور على الأهل ومن ثم الفرار منهم
اليوم صار عمره 11 عاما ولأول مرة عرف معنى العيد والكسوة شعر انه يعيش وسط عائلته الكبيرة وتحت سقف واحد يلم الجميع بيتهم أصبح دور الأيتام.. يصر عبد الرحمن على عدم استبداله أو تجربة حياة جديدة رفض حتى أهله الحقيقيين وفضل البقاء في الدار بصحبة من اعتبرهم إخوانه.. وقد يتساءل القارئ لم نكن نعلم أن أهله موجودون وكيف تم العثور عليهم ومتى.. ألم يكن الطفل يتيماً وحيداً تتلاعب به أمواج الحياة دون أن يأخذ بيده احد.
واليك عزيزي القارئ بعض من السطور القصيرة لنحتفظ بالتفاصيل لكي لا نقتحم اشياء لم يؤذن لنا أن نأتي عليها أو نتطرق إليها ونحن نسرد قصة الطفل عبد الرحمن وأيضا كي لا نخوض في أمور بطل روايتنا لا يحبذ أن نوردها من اجل أن لا نجرح شعور أسرته.
لنكتفي بإشارات ومن أراد أن يطلع على كافة التفاصيل أو تقديم المساعدة ما عليه سوى التوجه إلى دار الأيتام بتعز.
أسرة عبد الرحمن عثر عليها وهو في سن العاشرة أي قبل عام من الآن تقريبا.. وبعد أربع سنوات من انتقاله للعيش في الدار ومن البحث المتواصل من قبل إدارة الدار التي لم تيأس وظل الأمل يحدوها في العثور على أي قريب لعبد الرحمن.. أربعة أعوام من السؤال والبحث بعد مجيئه إلى أن اهتدت الإدارة إلى الوالدة فتم العثور عليها في منطقة السحول محافظة إب لكن حالها لا يسر احداً.. أصبحت الأم تجوب الشوارع رافضة الواقع ومستنكرة ما تعرضت له وها هي تفضل حياة الرفض غير مدركة تماما لما حولها.. أما والده وإخوانه فقد تم العثور عليهم في العاصمة صنعاء وتم طلبهم إلى الدار وبعد إكمال كافة الإجراءات والتأكد من صلة القرابة تم تسليم عبد الرحمن إلى أهله بعد عشرة أعوام من التشرد والجوع والمرض والعيش في الشارع والمقابر ومن ثم دار الأيتام. تم تسليمه إلى أهله ظناً من الجميع انه سيكون سعيدا جدا بلقياه لأهله أخيراً غير مدركين ما يخبئه القدر.
شهر واحد فقط لم يحتمل عبد الرحمن العيش وسط من اعتبرهم أغراباً عنه ومن يتشارك معهم اسم العائلة الواحدة.. أهله أصبحوا أغراباً عنه.. فر منهم ليتفاجأ الجميع بعودته إلى الدار وهي حادثة تتكرر كلما جاء لاستلامه.
وكلما تم منحه إجازات في الصيف يذهب مع عمه لكن سرعان ما يعود بعد أيام ولوحده إلى حياته الثانية والتي اختارها وفضلها على العيش بين أسرة أصابها التفكك ولم يكن في يوم يجد نفسه بينها أو معها.
سطور النهاية
.. هو الآن يرفض الانتقال للعيش مع احد من أقربائه وما إن يذهب مع احدهم يعود مرة أخرى .
.. عبد الرحمن تعلم الصيام وهذا العام عاقد النية على صوم الشهر بأكمله دون أن يفطر يوما واحدا.. يواصل دراسته في الدار ويأمل يوما أن يكون طبيبا يداوي جروح الناس.. يخفف آلامهم ويخلصهم منها.
.. هو عانى كثيرا ومعاناته تلك ستجعل منه شخصاً يقدر الآخرين ويقدم على مساعدتهم.
.. أحلامه في الحياة كما قال لنا كثيرة وكبيرة ورغم محاولاتنا المتكررة للاطلاع عليها إلا إننا كنا نصطدم برفض قاطع من عبد الرحمن الذي يأبى أن يتحدث عنها وقال متبسماً: اسألوا أول صديقين لي فكل شيء عني يعرفانه ولا اخفي عنهما امراً.. ترى ما إن توجهنا بسؤالنا لصديقي عبد الرحمن كما قال هل سيخبرنا القمر والنجوم بما كان يُحدث به عبد الرحمن.. بالتأكيد لا فصداقتهما أساسها الوفاء والإخلاص وليس من شيمهما إفشاء الأسرار. [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.