مواضيع ذات صلة استند على يديه ونهض.استغرب أن أحدا من المارة لم يضحك عليه. ألم يكن يرونه؟.. هل تزحلق بسبب قشرة موز أم بلغم انطلق من فم مصدور؟. أبصر أمامه بائعا متجولا، يبيع الزازير المشوية في قدر كبير. تقدم من البائع ووضع في يده دينارا. لم يتكلم مع البائع، وبدوره لم يكلمه البائع، بل وضع عددا من الطيور المشويّة في كيس من النايلون، مضيفا إليه قليلا من حسائها من القدر الكبير الذي كان يغلي فوق العربة. نظر إليه البائع متسائلا: هل سبق وان تعارفنا؟. ربما ولم يزد. أخذ يمر من تحت المظلات التي كانت تحمي واجهة الدكاكين من المطر. كان المدخل إلى مقهى الديوك رطبا، ولم يكن ثمة احد أمامه. دخل المقهى ملقيا التحية على الجالسين.جلس على نفس الطاولة التي تغوط عليه الديك أمس بعد انتهائه صراعه الدامي منتصرا. ارتفعت شتيمة من أحد الجالسين. طلب فنجانا من النادل. هل كان الوقت مبكرا؟. سأل النادل: أليس هناك صراع للديكة هذا المساء؟. ليس ثمة عراك هذه الليلة.. ثم قال له كمن يحذره: إياك أن تهمل المجيء إلى هنا ليلة الأربعاء فسيكون هنالك عراك شرس بين الديك الجديد لتحسين بيك، وديك مجيد قهوجي. سأله الرجل الذي أطلق شتيمته قبل قليل: ترى بكم اشتراه؟. يقول تحسين بك أن صاحب الديك، امتنع عن بيعه لفترة طويلة، إلى أن تمكن من إقناعه بثمن مغر، يكفي لشراء حصان!.. ياله من رجل! انه معتاد على الانتصار دائما! قال له بائع التذاكر، وهو يقدم له بطاقته: لم تمر إلا دقائق قليلة على عرض الفيلم. كان على الشاشة رجلان يتلاكمان بعنف. لم تكن القاعة مزدحمة. كان بطل وبطلة الفيلم غارقين في قبلة عنيفة. كانت تقول له، سأرافقك أنا أيضا، بينما كان البطل يقول لها، كلا، لا أريد أن تقتحمي المتاعب، وهو يضع يده على صرتها ويلمسها برقة في حركات متتابعة من يده اليمنى،بين صفير بعض المراهقين من المتفرجين. هبط على روحه نوع من الضجر الذي لا يقاوم.نهض يحاول الخروج، اصطدم في الظلمة بأحدهم، الذي مالبث أن سمع صوته وهو يقول: انتبه أيها السكير القذر! هل ثمة من يخاطبه، أم أن الصوت جاءه من الفيلم؟.. وجد نفسه خارج الصالة. فجأة انزلقت قدمه بسبب قشرة موز أو بصقة بلغم، انطلقت من فم مصدور. أحس بيد تساعده على النهوض.كان يد بائع التذاكر في السينما. مشيا معا حتى الشارع. هل استدعي لك سيارة؟ أومأ له بالإيجاب. ساعده الشاب حتى باب التاكسي. إلى أين؟ إلى فندق الوطن. * * * كان قد مرّ زمن طويل على آخر زيارة له لفندق الوطن. ولا يعلم ماالذي ذكره في تلك اللحظة بهذا الفندق، الذي يمتاز بصالته الواسعة التي تقدم فيه مختلف المشروبات وأنواع من الطعام في جو من الود والألفة، كانت تقبل زيارة حتى غير المقيمين في الفندق. نزل من السيارة على أمل أن يرى المتقاعد أبو إكرام وهو يسكن قريبا من الفندق، وكان قد جلس معه عدة مرات، حيث كان يشكو له صعوبة الحياة بعد التقاعد، وخوفه من العزلة بعد انتشار أبناءه الخمسة في الشتات. لكنه رغم ذلك كان دائم الترديد: لم يبق لي أحد هنا بعد وفاة زوجتي وسفر أبنائي، ثم يضيف بألم: أصبح فندق الوطن، وطني! دخل صالة الفندق وما أن رأى النادل أبي يونان، حتى طلب بصوت مسموع: أبو يونان، كأس فودكا من إيدك الحلوة! فوجيء من النادل بإشارة تحذير، ثم يشير بإصبعه للوحة على جدار الصالة وبحروف كبيرة ( ممنوع تناول وبيع المشروبات الكحولية)، ( ممنوع لعب الطاولة والورق).. استغرب كثيرا من هذا التغيير الطارئ على الحياة في الصالة. في السابق لم تكن هناك الا ممنوعات قليلة، كانت تبدو مضحكة وغبية، خاصة وأن معظمها كان على وزن: (ممنوع البصاق)،( ممنوع الغناء بأمر السيد مدير الأمن)، ( ممنوع تغيير الكاسيت بأمر المدير)..وعندما ظهر جهاز الفيديو، أضيف إلى قائمة الممنوعات (ممنوع وضع شريط فيديو في الجهاز بأمر الإدارة). كل المطلوب لو كنت وحيدا أن تجلس وتشرب بصمت مثل مومياء إن لم يكن إلى جانبك من تثرثر معه. ماالذي حصل يا أبا يونان..انقلاب أم ثورة؟! أجابه النادل وهو يزفر دخان سيكارته بسأم بالغ: لقد تغير صاحب الفندق، ومعه تغير كل شيء، وقد طلب مني الاستمرار في العمل حتى نهاية الشهر.. ثم واصل جملته التي لم تنته بسؤال مرير: أين سأجد عملا في هذا العمر؟!. أحس بأن تغييرا ما طرأ على الزبائن.لم تكن الضحكات الجذلى منطلقة كعادتها من الصالة الكبيرة. استغرب عندما تناهى الى سمعه أحاديث الحلال والحرام، وإرضاع الكبير، والمفاخذة، وعبارات عن الشيعة والسنة يطلقها رجال ذوو لحى، لم يرهم من قبل قط. نظر بحيرة الى (أبو يونان) كمن يبحث عنده عن جواب. كانت وحدها الهمهمات ترتفع في حديث لا ينقطع. ترى ماذا حل بتلك الأغاني الجميلة التي يسبح فيها نهر دجلة، متغامزا مع الفرات؟.. أين صوت عفيفة اسكندر الذي كان ينزل كالندى على قلوب رواد صالة الفندق، وهم في جلسة صفاء مع خلانهم، لترحل بهم الى اللحظات السعيدة والمترعة بالبهجة في حياتهم. كانت الصالة التي طالما قهقهت، واستمعت الى النكات، وأشواق العشاق، ثقيلة الظل تبدو غارقة في نقاشات عقيمة متقطعة مع حماس أو لحظات غضب على وجوه أصحابها.. نظر الى وجه ( أبو يونان) فوجده واجما بعد أن وضع قدحا جديدا من الشاي أمامه.. استغرب من وضعه. ما الذي يجبره على البقاء هنا، مادام سئما الى هذا الحد؟.. لمَ لا يغادر الفندق الذي بدأ بهويته الجديدة غريبا عليه؟!.. إذا كانت خيمة الضجر قد هبطت على روحه الى هذا الحد، وهو الذي لايربطه علاقة وثيقة بالفندق، فكيف الحال ياترى مع ( أبو إكرام) الذي كان لا يفارق صالة الفندق إلا للذهاب الى بيته بقصد النوم فقط؟.. وجد نفسه يسأل ( أبو يونان): ترى ما أخبار صديقنا (أبو إكرام)؟ سمع رده الذي أتاه كالهمس: لقد زارنا مرة واحدة،بعد بيع الفندق الى صاحبه الجديد..وعندما لم يجد أحدا من أصحابه القدامى الذين كانوا يقاسمونه الثرثرة ولعب الطاولة وشرب الشاي،والبيرة مع بداية حلول المساء قبل ذهابه الى البيت، قال لي في زيارته الأخيرة بعد أن رأى تغير وجه الفندق وروحه: " لقد فقدت آخر ملاذ لي..فقدت وطني، فندق الوطن ". دخل أبو يونان، الصالة الكبيرة وهو يحمل أقداحا من الشاي. سمع قرقرة الناركيلة،وسعالا، وكلاما لا ينتهي.. كانت وجوهم تشي وكأنهم يتحدثون عن أمر سري، أو يتأمرون. وجد نفسه يغادر فندق الوطن دون أن يودع (أبو يونان) الذي كان مشغولا في المطبخ بغسل الأقداح وإعداد النركيلات. أن أفضل شيء ينبغي القيام به هو الذهاب غدا لرؤية سباق العراك بين ديك تحسين بيك الذي عمت شهرته بين محبي الديوك قبل ان يخوض أي سباق ضد ديك مجيد القهوجي، والذي هو من أشهر مربي الديوك في كركوك. فهو يعرف عن ظهر قلب الديكة الشرسة، المغرمة بالعراك: هرات، كرمنشاه، أورفه. ولو سألته عن مكان هذه المدن على الخارطة، لما استدل عليها أبدأ. ومثلما يجوز الغش في كل شيء فيمكن إعطاء الديكة قبل العراك حبوبا منشطة، والبعض من مدربي الديكة يضعون مرآة أمام الديك بحيث يعتقد أنه أمام منافس له فيروح يهجم على صورته في المرآة نقرا ورفسا. كان الليل قد قطع مسافة طويلة، بحيث ازدادت الأزقة الجانبية ظلاما على الرغم من النور البائس الذي كان لا يكاد يضيء أسفل أعمدة النور فيها. كان التعب قد تمكن منه، وكان يود الوصول مسرعا الى بيته وفراشه الذي سينطرح عليه دون أن يخلع ملابسه. أمام باب البيت ارتعب من وجود ديك ضخم ينتظره، وازداد رعبا حينما سمعه يحدثه قائلا: أنا ديك تحسين بيك!.. هل ستأتي غدا لرؤيتي؟ 12/1/2013