يخرجون ويدخل ، ينزلون ويصعد ، حاملاً في يده إسفنجة النسيان ، ومكنسة الهباء . تفتح عينيها بالحنين جثث القصائد ، ترفع وجهها بالتحية فوضى المكان ..البهو هادئ ومنهك . ثمة أربعائي يضيء وحيداً في الزاوية ، بينما الفرح يجود بأنفاسه الأخيرة شاخصاً نحو البياض . وهناك ، في الزاوية الأخرى ، تبدو الدهشة يابسة العينين ، بليدة كالموت . بين جدران ملطخة بدمالكلام ، يرفع يديه ، يقرأ فاتحة البهجة ، خاتمة السراب ، ويشرع في الكنس . النقطة الهائلة ! كل مساء ، وعلى طاولة أحزانه ، يجلس إلى قلبه ، يفك أزرار كآبته ، وخيوط ذاكرته ، وتلافيف أوهامه ..ينز القلب بالتعب ، تتهلل أوردته بالذكريات ، وتنداح شرايينه بالأسئلة . ينفطر القلب على قلبه ، على أصدقاء يموتون للتو ، وبهجات لا تدوم . على الوعد الذي صار عدواً .. على العدو الذي صار وعداً ! ( وعد بالعين وليس بالغين .. يا للنقطة الهائلة ! ) على طاولة أحزانه يشفق على قلبه ، فيغسله من آلامه بماء التسامح ، ويطهره من أدران يومه بعطر الحب ، ثم يداوي جراحه ببلسم النسيان .. ينام . الكئيب كعادته ، يدخل أبو الطيب المدينة متنكباً قوسه ، ممتطياً قلقه ، لكنه لا يلبث أن يخرج هارباً . كل المدن سواء ، كل السلاطين إخوة . ذات مدينة ، ذات عام ، شاهد الناس أبا الطيب لابساً تاج السلطان . في يده صولجان الملك ، وفي صوته غواية القوة ، ولعينيه بريق الذهب . مر عام تلو عام ،وفجأة ، اختفى أبو الطيب ، بحث الناس عنه ، لم يجدوه . كان _ كعادته _ قد رحل عن المدينة . خرجوا في إثره إلى سور المدينة الكبير . ورأوه يولي المدينة ظهره ، وحيداً ، كئيباً ، متنكباً قوسه ، ممتطياً قلقه ، صوب أفق لا يجيء ، وحلم لا يسمى .. وهناك عند أطراف المدينة ، عثر على التاج مهشماً والصولجان مكسوراً . غربة هبطت الطائرة ، عاد إلى وطنه . تأمل وجوه مستقبليه ، .. لم يعرف أحداً ، ولم يعرفه أحد . وجوه بلا ملامح ، وعيون فاقدة للذاكرة . في قلب المدينة ، حدث أحدهم . لم يفهم شيئاً . سأل آخر وآخرين . اكتشف أن لغة الناس غريبة لا يفهمها . ماذا حدث . ينظرون إليه شزراً ، يمشون شزراً ، يتكلمون شزراً ..تأمل الجبل الكبير الذي تستلقي المدينة بين أقدامه ،هو الآخر ينظر إليه شزراً . أدار قلبه صوب الجبل الآخر ، لم يعد الجبل الذي كان ، أصبح مبتور الرأس ،فهو لا ينظر ، لا يتكلم . تحسس رأسه ، وعينيه ، قرص ذاكرته .. ولول صوته: ماذا حدث .. أين أنا ، من أنا .. ؟ من أنتم .. أين ..؟ أقلعت الطائرة . عاد إلى غربته .. من غربته .