رغم ما قطعته اليمن من خطوات متقدمة في طريق اللامركزية والتي مثلت بتطبيق نظام السلطة المحلية ثورة حقيقية على صعيد الفكر التنموي والممارسة الإدارية الرشيدة في اليمن والمعززة بإرادة سياسية تتجه بقوة نحو بناء أسس الدولة اليمنية الحديثة، وفي مقدمتها تعزيز اللامركزية وتفعيل الدور التنموي للسلطة المحلية، التي خاضت تنافس انتخابي لدورتين منذ عام 2000م ، ليعزز ذلك في مايو الماضي بتنفيذ انتخابات أمين العاصمة ومحافظي المحافظات لاول مرة في تاريخ اليمن ، ترسيخاً لمبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه ، وتأكيداً للنهج الديمقراطي الذي أرساه الرئيس علي عبدالله صالح، وإيفاءً بوعوده الانتخابية.. غير ان معطيات التجربة في السنوات الماضية تبرز خللا كبيرا في الجهود الحكومية بكونها لم تستند إلى رؤية إستراتيجية واضحة لتعزيز اللامركزية حيث لم يتم النظر إليها بوصفها منظومة متكاملة تتكون من مكونات سياسية وإدارية ومالية يجب توافرها لكي تحقق السلطة المحلية الأهداف التي أنشئت من اجلها... ويبرز في محصلة تلك الجهود ، افتقارها إلى الاهتمام بإرساء ثقافة اللامركزية التي من شأنها توحيد الرؤية وتحقيق الإجماع من قبل كل الأطراف المعنية بتحقيق التنمية المحلية (السلطة المركزية، السلطة المحلية، المجتمع)... وكما جاء في أحد الدراسات التمهيدية لإعداد الإستراتجية الوطنية أن معرفة بعض الوزارات بقانون السلطة المحلية، مثلا، لا يعدو حدود المعرفة السطحية (وفي بعض الأحيان تعبر بعض الوزارات عن استيائها من القانون) بينما هناك وزارات أخرى على علم كامل بحالة عدم الانسجام في الأُطر القانونية لكنها لا تدري ما العمل. وتخطو اليمن باتجاه وضع قواعد متينة في بناء محصلته الحكم المحلي واسع الصلاحية من خلال وضع إستراتيجية تشخص الواقع وتحدد مشاكله وأدوات معالجته برؤية واضحة تنظم الجهود لتعزيز اللامركزية باتجاه الانتقال إلى الحكم المحلي واسع الصلاحية... وأقرت اللجنة الوزارية لتعزيز اللامركزية في اجتماعها يوم الاربعاء إحالة مشروع الاستراتيجية الوطنية للانتقال للحكم المحلي ( 2008-2020م) المقدمة من وزارة الإدارة المحلية إلى مجلس الوزراء لمناقشتها واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها... وتثير الإستراتيجية جملة من العوامل التي أظهرت الحاجة الملحة لقيام الحكومة بتبنيها ولمواجهة التحديات التي تقف في طريقها... فعملية الانتقال إلى اللامركزية واحدة من أعقد المشاكل التي يمكن أن تواجهها أي دولة من الدول في الوقت الراهن على اعتبار أن البناء المؤسسي والهيكلي للدولة اليمنية لم يستكمل بعد، مما يجعل الدولة، في كثير من الأحيان، غائبة عن عمليات تنظيم حياة المجتمع، وخصوصا في المناطق النائية والتي يعتبر تواجد أجهزة الدولة فيها ضعيفا للغاية. وربما تعد اليمن الدولة الوحيدة في العالم التي نهجت أسلوب اللامركزية وهي لم تستكمل البنى التحتية للدولة بالمفهوم المعاصر، مما يجعل عملية الانتقال إلى اللامركزية تتزامن بالضرورة مع عملية بناء الدولة اليمنية الحديثة التي يعول عليها الشعب والقيادة في النهوض بأعباء التنمية الشاملة ، الأمر الذي يجعل تفعيل الدور التنموي للسلطة المحلية عملية شبه مستحيلة من دون إستراتيجية وطنية. وأظهرت الجهود السابقة على صعيد تعزيز اللامركزية ضعف التنسيق بين أجهزة السلطة المركزية، ذلك أن مسئولية تحقيق التنمية المحلية في بلادنا لا تزال متناثرة بين عدد من الوزارات التي قد لا تتفق بالضرورة على مفهوم اللامركزية وكيفية تطبيقها. ومن المعروف، أن عملية الانتقال إلى اللامركزية وتفعيل الدور التنموي للسلطة المحلية تقتضي التنسيق بين كل مكونات الدولة والحكومة على اعتبار أن تحقيق التنمية المحلية ليس مقصورا على جهة مركزية بعينها، وإنما هو مجهود مشترك تتقاسمه كل الجهات الحكومية، وبالأخص تلك الأجهزة ذات العلاقة المباشرة بالتنمية المحلية... وبرغم قيام الحكومة بتوفير القدرات البشرية وتسخير الإمكانات المادية للسلطة المحلية، إلا أن تلك الكوادر البشرية لم تكن بمستوى التأهيل اللازم لقيام أجهزة السلطة المحلية بالمهام والوظائف المتعلقة بإدارة عملية التنمية المحلية وتقديم الخدمات التي يحتاجها المواطنون في المحليات، كما أن تلك الإمكانات المادية لم تكن بالقدر الكافي لتحقيق أهداف التنمية المحلية... ورغم قيام وزارة الإدارة المحلية باستحداث قطاع للمعلومات الخاصة بمنظومة السلطة المحلية، إلا أن الجهود على هذا الصعيد لم تؤت ثمارها بعد. الأمر الذي يظهر الأهمية القصوى للإسراع في استكمال إنشاء مركز لمعلومات السلطة المحلية يعمل على الاستفادة من آخر ثمار الثورة المعلوماتية لتوفير البيانات والمعلومات اللازمة التي تمكن وزارة الإدارة المحلية من القيام بعمليات الدعم والتوجيه والرقابة الفعالة لمنظومة السلطة المحلية... وعلى الرغم من أن الحكومة قد قامت بجهود ملموسة على صعيد إشراك ممثلين عن المنظمات النسوية، منظمات المجتمع المدني، القطاع الخاص في الإعداد للخطط الخمسية للتنمية والمشاركة في تنفيذ بعض الفعاليات الواردة فيها، إلا أن الواقع يبرز غيابا واضحا لتلك الفعاليات والمنظمات في عملية الإعداد والتنفيذ للخطط التنموية على المستوى المحلي... ولعل من أهم العوامل التي أضعفت الجهود التي قامت بها أجهزة السلطة المحلية في المرحلة السابقة تكمن في عدم العمل على تفعيل المجتمع المحلي في اتجاه تحقيق أهداف التنمية المحلية. وقد أشارت نتائج التجارب التي قام بها الصندوق الاجتماعي للتنمية إلى وجود فجوة في التواصل بين السلطة المحلية والمجتمع المحلي والتي اتضحت معالمها في عدم وجود آليات تمكن أفراد المجتمع من تحديد الأولويات والمشاركة في عملية التخطيط واتخاذ القرارات وإعطائهم الدور الأساسي في تقييم أوضاعهم والتعبير عنها ومناقشتها ضمن الأطر الرسمية، الأمر الذي يجعل الخطط التنموية المحلية بعيدة عن الواقع. كما تبرز الإستراتيجية التحدي الذي تفرضه عملية تعزيز اللامركزية وتفعيل دور السلطة المحلية في النهوض بأعباء التنمية المحلية ويتمحور في جانب منه في عملية التوضيح لأهداف ومفاهيم اللامركزية والتوفيق بينهما على مستوى الحكومة والمجتمع. وبتأكيدها فأنه في غياب إجماع وطني على أهداف ومفاهيم اللامركزية وعملية تطبيقها لا يمكن تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها السلطة المحلية، وفي مقدمتها تحقيق التنمية المحلية. وترى إن من المعوقات الرئيسية التي تقف حاجزا أمام عملية توضيح أهداف ومفاهيم اللامركزية والتوفيق بينهما هو عدم وجود نقاش بناء ومثمر على الصعيد الوطني، سواء على مستوى المحليات أو على مستوى منظمات المجتمع المدني. فعلى صعيد المحليات، تخلو الساحة من حلقات للنقاش والتدارس تمكن هذه المحليات من تبادل الرأي والمعلومات بحيث تشكل قوة ضغط لتطبيق اللامركزية، علاوة على هذا لا تزال السلطة المحلية بحاجة إلى بناء تحالفات راسخة مع منظمات المجتمع المدني. وعلى صعيد منظمات المجتمع المدني، تقترب الإستراتيجية من تشخيص دقيق للخل الذي تسهم فيه حيث لا يبدو أن هناك نقاشا حيويا في وسائل الإعلام الجماهيرية حول اللامركزية وضرورة تفعيل الدور التنموي للسلطة المحلية. الأمر الذي تحاول ان توجده هذه الاستراتيجية الطموحة لتكون بذلك حافزا ومنطلقا لخلق وعي لدى العاملين في الحكومة وكذا بين أوساط الشعب بمختلف جوانب السلطة المحلية والأهداف التي تستهدفها، وخصوصا على صعيد تحقيق التنمية المحلية، والدور الذي يجب أن تقوم به الفعاليات الشعبية المختلفة لتحقيقها.. كما وفرت الإستراتيجية ذلك (الإطار) الذي يمكن شركاء التنمية من المساهمة الناجحة في دعم جهود الحكومة لتحقيق التنمية المحلية المنشودة... فبالرغم من الاهتمام الذي تبديه الدول والمنظمات المانحة تجاه نجاح التجربة اليمنية، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن معظم المساعدات الخارجية لا تمر عبر السلطات المحلية على اعتبار أن القسط الأكبر من الإعانات المالية للتنمية المحلية يتدفق عبر هيئات وبرامج مركزية عوضا عن السلطات المحلية وخططها وبرامجها وموازناتها. كما أن معظم الدعم الفني الخارجي لبناء القدرات المحلية يتم توجيهه من خلال هيئات أو "وحدات تنفيذ مشاريع" أو عن طريق فعاليات شعبية بدون التنسيق مع السلطة المحلية. يذكر ان مشروع الاستراتيجية الذي ينتظر ان يرى النوار يتكون من خمسة أقسام تشمل المقدمة ومنهجية الإعداد وتحليل البيئة الخارجية والداخلية للامركزية والتحليل الاستراتيجي لمكوناتها ومبادئها العامة ومحاورها الرئيسية والتنفيذ والمراجعة والتقييم.. وتسعى الاستراتيجية إلى الانتقال من نظام السلطة المحلية إلى نظام الحكم المحلي واسع الصلاحيات القادر على تحقيق التنمية المحلية وترسيخ الديمقراطية وتعزيز المشاركة الشعبية في إدارة الشأن المحلي من خلال تمتع وحدات السلطة المحلية بكامل الاستقلالية المالية والإدارية إلى جانب تحقيق التناسب بين الموارد المالية والمهام والوظائف المحلية والتدرج في ممارستها مع الأخذ بعين الاعتبار الرقابة الشعبية والمركزية على وحدات السلطة المحلية في اطار القانون... وتضم الاستراتيجية أربعة محاور يركز الأول منها على بناء وتطوير المنظومة التشريعية والثاني على بناء وتطوير البنية المؤسسية والثالث على تنمية القدرات البشرية، فيما يشمل المحور الرابع متطلبات وآليات بناء وتطوير المنظومة المالية المحلية من جانب تحديد مصادر التمويل والإدارة المالية والمراقبة والمحاسبة.