في زمن أصبح القابض على لغته العربية الفصيحة كالقابض على الجمر بيئتنا وأحياؤنا ومدارسنا فيها من اللهجات المحلية مايشتت ذهن كبارنا فمابالكم بصغارنا إضافة إلى بعض مسلسلات فضائياتنا اليمنية الصنعانية والتهامية والعدنية والحضرمية والتعزية والإبية. كل هذا كوم وماتتلقاه آذان أطفالنا من أطياف اللهجات عبر الفضائيات المصرية والخليجية و..الخ لاسيما وقد أضاف اخواننا المصريون عملية «روشتة» على مسلسلات الأطفال من خلال استعاضة العامية المصرية بالعربية الفصحى بصرف النظر عن الأهداف التي يتعللون خلفها . بالطبع ليس هذا هو لب الموضوع الذي نحن بصدده لكنه يدور في ذات الفلك الذي جذبني إليه قسراً ذلك الطفل «الخارقة» إن جاز لي التعبير الذي يعيش في حارتي «الجحملية» دون أن أعلم به والكثيرون. زكريا علي المقدشي الذي نطق العربية الفصحى في عامه الثاني للكلام كيف حصل ذلك وكيف انسلخ عن العامية واستأنس الفصحى في هذا الزمن الذي أشرت إليه سلفاً أهو معجزة أم سيبويه فلتة في حارة الجحملية المتخمة بلهجات صنعاء والعدين وصبر وريمة ووو..أم كيف كانت الحكاية تعالوا معي. إرادة الله والأسرة سجلت ابنتي «آية» في المدرسة التعليمية الحديثة بتعز الصف الأول الابتدائي لهذا العام الجاري وخلال الشهرين الماضيين من بداية العام كانت تحكي لنا لأكثر من مرة عند عودتها وباستغراب قائلة : يابابا زكريا اللي في المدرسة يتكلم زي اللي في قصص الأطفال ومايتكلمش زينا..الحكاية أثارت فضولي فتوجهت إلى المدرسة لأسدد القسط الشهري ولأسأل عن «زكريا» الطفل الذي شغل بال ابنتي آية خشية أن تهيم به ويقع الفأس في الرأس!! وفي المدرسة قيل لي إن لزكريا أختاً تعمل في ذات المدرسة اسمها «بغداد» وهي خريجة كيمياء من جامعة تعز 2003م ولها يعود الفضل الأول لكنني لم ألتقها ذلك اليوم فقد أكملت حصصها وكان الوقت يقترب من الظهيرة، عدت في اليوم التالي باكراً التقيت زكريا قبل أخته بعد أن استأنسني في اليوم السابق استأذنت مربية الفصل بأن أصطحبه إلى الساحة بالعامية وحييت زكريا ذا الست سنوات بالعربية الفصحى حسبما نصحوني مضينا سوياً إلى ساحة المدرسة نتبادل أطراف الحديث الفصيح كيف حالك يازكريا؟ بخير والحمد لله..هل تحب مدرستك؟ نعم.. أثناء ذلك كنت أتلذذ حقيقة بالمفردات التي يلفظها زكريا وأستمتع بالحديث معه لكن الصغير كانت لسانه معي وعيناه على صغار يلعبون حصة رياضة..تركته يلعب ولا أخفيكم أني ماصدقت أنهيت الحوار القصير معه بمشقة لذيذة، فقد نجري حواراً صحفياً مع مسئول ما لساعة كاملة بالعامية أو العربية الممزوجة بالعامية بدون رسميات في الحديث وبكل سهولة..لكن الأمر كان مختلفاً مع زكريا إذ لم أجرؤ على مخاطبته بكلمة عامية لعلمي أنه يمقتها ولايستسيغها مطلقاً..المهم أن زكريا مضى وأنا تركت زفيراً عميقاً أراح رئتي أحسست بعدها أنني خرجت من خشبة المسرح وأن السمعيات والبصريات ترصدني..إي والله والراجل ولا في حسه، بل إنه كما قلت كانت لسانه معي وعيناه على الملعب والكرة ، بمعنى أنه لايُلقي لي بالاً ولايكترث بصحافة ولا أم الجن«ولايتكلف أو يصطنع الكلمات..بالفعل أحسست وأنا معه أني في زمن العصور الإسلامية وأن الواقف أمامي سيبويه «جحملاوي» مع فارق بسيط هو زيه المدرسي وربطة العنق الحمراء بعد ذلك نودي بشقيقة «زكريا» المعلمة «بغداد» وسلمت لها أذني جيداً لتتحدث عن «زكريا» فقالت: كان أخي زكريا إلى سن ال »3.5« سنوات لاينطق بكلامنا ولايستخدم مفرداتنا أبداً غير أنه ابتكر لنفسه مفردات غريبة وغير مفهومه كان يرددها كان البعض يظنه أصم وكنا ندرك أنه غير ذلك فسمعه جيد وفهمه كذلك يعلم ويستوعب مانريده منه ومايدور بيننا من أحاديث لكنه لايشاركنا فما أن انتصف عامه الثالث حتى أحسسنا بالقلق بشأنه بعدها بدأنا بشراء سيديهات تحوي برامج تعليمية لتعليم النطق، غير أن بعضها خليط باللهجة المصرية وتواصل «بغداد» التي لها ميول أدبي حسبما عرفت وتهوى كتابة القصة برغم تخصصها في مجال الكيمياء بحثت عن سيديهات وبرامج أخرى تعلم نطق العربية الفصحى بدون النكهات المحلية المصرية أو غيرها فتوفقت بحمدالله ولاحظت إقبالاً وشغفاً واستيعاباً من قبل زكريا وزدنا على ذلك شراء مجموعة من سيديهات الأفلام العلمية الناطقة بالفصحى عن عالم الحيوان والطبيعة إجمالاً فكان ولع أشد من زكريا عليها وهكذا ما أن ولج عامه الرابع أي خلال بضعة أشهر وقد بدأ يتحدث العربية .. مرت الأيام وبدأنا نعلمه كتابة الحروف والأرقام وبعض الكلمات وما إن التحق بهذه المدرسة في نهاية عامه الخامس إلا وقد بدأ القراءة والكتابة. وتضيف شقيقة زكريا أن والدها وأفراد أسرتها كانوا يغدقون على زكريا الهدايا والحوافز التشجيعية لدرجة أنه حفظ السور الصغيرة من جزء عم قبل دخوله المدرسة. مشاهدة وحذر وعندما سألت «بغداد» عن مدى تعلق زكريا بأفلام الكرتون ومسلسلات الاطفال التي تبثها القنوات الفضائية أم أن عالمه فقط انطلق من السيديهات أجابت: بالطبع لم نحرم زكريا من كل مايشد الأطفال من تلك الفضائيات لكن بحذر وتقنين فالأوقات محدودة مع مراعاة تقييم السلوك الخاطئ والتصرفات السلبية التي قد يتأثر بها ويحاول تقليدها. وحول شخصية زكريا وسلوكه تقول شقيقته بأن شخصيته بريئة لاهي بالعدوانية ولا بالانهزامية يكره الظلم والعداء فذات مرة رأى أماً في الشارع استقلت السيارة قبل صغيرها فنهرها زكريا بالفصحى: يالك من أم قاسية!.. تركت ابنك في الشارع وسبقته إلى السيارة! وإذا اجتاز درساً أو مهمة ووعد بالجائزة فلم تصله قال: لأحد أفراد الأسرة: يالك من خائن الوعد ويالك من خائنة الوعد وما قيل عنه إنه يكره التعليم بالأوامر والإكراه فلديه الرغبة الذاتية في التعليم فقط بحاجة إلى من يلفت انتباهه ويحببه في شيء ما ، ولذلك فقد استغلت شقيقته وأفراد أسرته ذلك ومضوا بتوفير مختلف الوسائل التعليمية المتاحة. - بعد أسبوع التقيت والد زكريا بالصدفة عندما سمعت صديقاً يناديه: يامقدشي ولأني كنت أعرفه شكلاً لا اسماً وهو كذلك سألته هل تقرب لزكريا ؟ قال: هو ابني أوضحت له عزمي على الكتابة عن ابنه فرد : هو أنت؟ قد لي أسبوع أشتري الجريدة.. سألته باقتضاب: هل تتوقع أن يستمر زكريا في التمسك باللغة الفصحى وتجاهل العامية إلى أن يكبر؟ فأجاب: بالطبع لا.. نحن ندرك ونتوقع أن يذوب تدريجياً في المجتمع خاصة مع احتكاكه بزملاء مدرسته فإن كنا أنا وأمه وجميع أبنائي نتحاشى الحديث معه بالعامية إلا أن جو الأسرة وعالم السيديهات الذي صنعناه له ربما لن يستمر مع أملي بأن تستمر لسانه على العربية وتقوى أكثر . ومن أطرف ماقاله والده أنه زاره في الفصل ذات مرة فسأله زكريا: ماالذي جاء بك اليوم إلى هنا يا أبي؟ أجابه الأب: جئت لأتعرف على زملائك.. رد زكريا: أو قطعت كل تلك المسافة من البيت إلى المدرسة فقط لتتعرف على زملائي!؟ دور المدرسة أما عن دور المدرسة التي التحق بها زكريا فلابد من الإشارة إلى أن جوانب إيجابية عديدة تبذل من قبلهم ووسائل تعليمية حديثة لديهم وتقول وكيلة المدرسة إن مستوى الطالب زكريا فوق سنه بكثير وقدراته العلمية والاستيعابية عجيبة لذا فقد عملت إدارة المدرسة بالاتفاق مع والده على نقله إلى الصف الثاني الابتدائي وهو مازال في بداية الصف الأول عبر عملية تحديد مستوى من قبل مكتب التربية بتعز. الخاتمة كما كان الحديث شيقاً ولذيذاً مع زكريا علي المقدشي في المدرسة أظنه كذلك الآن قد طال لذة في هذه السطور وإن أمكنني التعليق في الأخير فسأطلقها أمنية أن نحتذي نحن الآباء بأسرة زكريا المقدشي ولانحلم أن نصير أبناءنا سيبويهات أو خلفاء الاستاذ ممنوع الذي شاهدناه قبل سنوات في إحدى المسلسلات الأردنية فقد رأينا كيف كان يكره العامية ويتشدد بالفصحى وكم تلقى قدراً من التهكم ممن حوله.. فقط نحلم بأبناء يحبون لغتنا العربية الفصيحة ويحبذونها لغرض العلم واللباقة في الحديث الرسمي خاصة إذا ما استدعى المقام. كما لاننسى تذكير أنفسنا أن دول أوروبا توحدت مؤخراً عملة لكنها تحلم بتوحيد لغة كذلك. فهذا الذي يعوزهم مسخر لدينا نحن أمة العرب.