يا جار .. يا جار... أسرع,, فثعبان يزرع خطاه في أرضك.. تعالى صوت الجار الذي قارب على الستين من عمره منادياً جاره الشاب الرزين.. ذكريات تقرع أبواب الحنين .. تأبى إلا أن تشرعها كلها للريح للأحاسيس .. للرماد الذي يأبى أن يخمد.. أسرعت تبحث عن قلم وورقة .. مجرد ورقة رأتها في حجرة أمها التي استلقت فارشة السرير فاتحة الذراعين ملقية بكل حملها فوق سريرها الأبيض الذي تفوح منه رائحة أشبه بالورد .. بالياسمين.. بعبق وتلألؤ لم تعهدهما في ثياب أو ملاءات أحد أبدا...
عادت تسرح بصرها فيما تبقى من الأخضر الذي يحاصر تلك الجدران الأسمنتية منتصراً على عوامل الزمن والتخريب ضدّ ما دعي بالتطور .. كلما جلست في ذلك المكان ، وسرحت البصر حولها عادت تلك العبارة القديمة تدق أبواب الحنين ...
ها هو يسرع وراء ذلك الثعبان .. لم تكن ثعابين حديقتهم لتخيفها ، فهي أليفة ألفة تربة ذلك البيت العريق ، وذاك الشجر الذي يلتف معانقاً أسرة صغيرة تتعايش مع الحياة عبر رحلة من الأحلام ظنتها ستتحقق يوماً...
ها هي النسيمات الصيفية ذاتها.. ها هو جدار الجيران نفسه يحتضن شجيرات رفض أهلها التطور أو التحضر ، وكأنها بقيت لأجلها .. لأجل عينيها وروحها .. ما اختلف هو الامتداد فقط .. كان الامتداد فوق شجرة المشمش تارة والرمان تارة أخرى .. كان الحصار بعربشات الياسمين الأبيض وزهر الليل حينا .. تنوع غريب لا يمكن أن يتماوج إلا في عالمها هي..
وها هو الامتداد قد تحول إلى علب أسمنتية جميلة أنيقة .. الشعور ذاته أو لنقل شبيهه عبر أمواج من الغصص والحنين الذي يأبى إلا أن يواصل في أعماقها إبحاره الأبدي ... تهالكت على المقعد الذي اختارته لنفسها دون تفكير، وكأن شيئا ما يجذبها إليه...
ازداد الارتباط بالمكان .. بالزمان أكثر .. فأكثر .. ودّت لو تستطيع تحطيم الأسمنت الكريه لتتنشق عبير التربة المسجونة تحته.. هي أكيدة أنه لو قدّر لها تحطيمه لفاح العطر القديم معانقاً كل ما حوله .. لعاد صوت الجار القديم يحذر جاره الرزين .. لعادت الأسرة الصغيرة تعانق أحلامها في ظل أشجار البرتقال وعباد الشمس والعصفر .. لغابت الألوان والظلال في عناق الهوى .. لتناثر المدى.. تشكل بآلاف آلاف الأصداء والذكريات ... لعاود الدفء غمره أبواب الحنين...