تزامن اصطفاف عدد من الأحزاب و المكونات السياسية اليمنية خلف بيان وزارة الخارجية السعودية بشأن تطورات حضرموت و المهرة مع محاولة واضحة لإعادة تعريف المشهد السياسي و الأمني في الجنوب وفق مقاربات قديمة لم تعد منسجمة مع الواقع القائم فذلك الاصطفاف الذي قُدّم بوصفه تعبيرًا عن إجماع وطني يعكس في جوهره سعيًا لإعادة إنتاج سردية سياسية تجاوزها الزمن تقوم على إنكار التحولات الميدانية و تجاهل الإرادة الشعبية الجنوبية، و إعادة إدماج القضية الجنوبية في أطر ثبت عجزها عن تحقيق الاستقرار أو العدالة. إن توصيف التحركات الجنوبية في حضرموت و المهرة بوصفها فرضًا للوقائع بالقوة يتجاهل السياق الذي نشأت فيه تلك التحركات و يتغافل عن حقيقة أن الجنوب عاش سنوات طويلة من الفراغ الأمني و المؤسسي في ظل عجز مزمن للسلطات المركزية عن حماية الأرض أو تأمين المواطنين أو منع تمدد الإرهاب و التهريب والجماعات الخارجة عن القانون. و في هذا السياق فإن تحرك القوات الجنوبية لا يمكن فصله عن واجب أصيل يتمثل في حفظ الأمن وصون الاستقرار و سد الثغرات التي استُخدمت لتهديد الجنوب و المنطقة على حد سواء. من الزاوية القانونية لا يمكن القفز على مبدأ السيطرة الفعلية و القبول الشعبي عند توصيف أي وضع سياسي أو أمني فالقانون الدولي و الممارسة السياسية يميزان بوضوح بين حالات التمرد و الانقلاب و بين حالات الإدارة الأمنية التي تفرضها الضرورة و تحظى بتأييد المجتمع المحلي و تستهدف حماية السلم الأهلي إغفال هذا التمييز لا يؤدي إلى تهدئة بل يفتح الباب أمام فراغ خطير قد يعيد إنتاج الفوضى التي عانى منها الجنوب طويلًا كما أن العودة المتكررة إلى مخرجات الحوار الوطني و اتفاق الرياض و إعلان نقل السلطة باعتبارها المرجعيات الحصرية لمعالجة القضية الجنوبية تتجاهل حقيقة أن هذه الأطر لم تُطبق بصورة متكاملة ولا عادلة و أن تنفيذها شابه اختلال جوهري في التوازن و الشراكة بل إن الإخفاق في تنفيذها أسهم في تعميق الأزمة بدل حلها و أفقدها الكثير من مشروعيتها السياسية و الأخلاقية لدى الشارع الجنوبي. أما الدعوة إلى انسحاب القوات الجنوبية من حضرموت و المهرة دون تقديم بدائل أمنية واقعية و قادرة فهي دعوة تفتقر إلى المسؤولية السياسية لأنها تتجاهل سؤالًا جوهريًا يتعلق بمن سيتولى حماية الأرض و منع عودة التهديدات فالفراغ الأمني لا يُدار بالبيانات و لا يُملأ بالنوايا بل بالقوى القادرة على الفعل و هو ما أثبتته التجربة خلال السنوات الماضية. و في هذا الإطار لا يمكن توصيف المجلس الانتقالي الجنوبي كحالة تمرد أو كيان طارئ إذ بات يمثل واقعًا سياسيًا و شعبيًا و عسكريًا لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه فمحاولات سحب صفته أو عزل دوره لن تؤدي إلى استقرار بل إلى تعقيد المشهد و إطالة أمد الصراع و إضعاف أي مسار تفاهم حقيقي إن الرسالة إلى المملكة العربية السعودية بوصفها طرفًا محوريًا في معادلة الأمن الإقليمي يجب أن تُقرأ من زاوية المصالح المشتركة لا من منطق الاستقطاب فالجنوب لا ينكر الدور السعودي الإنساني و التنموي ولا يسعى إلى استعداء الأشقاء لكنه في الوقت ذاته يرفض أي مقاربة تتجاهل إرادته أو تعيد فرض وصاية سياسية أثبتت فشلها فالشراكة الحقيقية لا تقوم على إلغاء الوقائع بل على إدارتها بعقلانية و احترام متبادل إن الخطر الحقيقي على القضية الجنوبية لا يكمن في تحركات تحمي الأمن و تمنع الانهيار بل في محاولات تجميدها داخل مسارات تفاوضية مفتوحة بلا أفق أو تفريغها من مضمونها السياسي و السيادي تحت عناوين التهدئة و الاستقرار فالتاريخ أثبت أن تجاهل القضايا العادلة لا يفضي إلى حل بل إلى انفجارات مؤجلة. و عليه .. فإن أي معالجة جادة لتطورات حضرموت و المهرة يجب أن تنطلق من الاعتراف بالواقع القائم و احترام التمثيل الجنوبي و ضمان عدم عودة التهديدات الأمنية لا من محاولات استنساخ مراحل فاشلة أو إعادة إنتاج خطاب لم يعد قادرًا على إقناع الشارع أو ضبط الأرض فالجنوب اليوم لا يبحث عن صدام ولا يرفض الشراكة لكنه في الوقت ذاته يرفض الاستباحة السياسية و يتمسك بحقه المشروع في تأمين أرضه و صون قضيته باعتباره شريكًا أصيلًا في أمن واستقرار المنطقة لا ساحة لتصفية الحسابات أو إعادة تدوير الأوهام.