يتصاعد نقاش حول شكل القصة القصيرة سواء من حيث مكانه في مراتبية الأنواع الأدبية، أو في ما يتعلق بوظيفته الثقافية، وصلته بالتحولات السياسية والاجتماعية التي تعبرها الأمم. فمن جهة تبدو الأنواع والأشكال ثمرة تحولات نصية داخلية تبلغ بها حدوداً معينة تنعطف بعدها لتستعين بأنواع وأشكال وصيغ أخرى للتعبير. وهذا ما حصل مع نوع القصة القصيرة التي تطورت من الحكايات الشعبية والحكايات المجازية، المروية على لسان الحيوانات مثل «كليلة ودمنة»، لتبلغ ذروتها الكلاسيكية في أعمال كتاب مثل غي دي موباسان وأنطون تشيكوف وإدغار ألن بو. لكن هذا الشكل، الذي يروى في شريط لغوي قصير بحسب تعريفات الشكلانيين، سرعان ما بدأ التراجع والتواري، واضمحل الاهتمام به، بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات حيث غزت المدونات والتقارير التي تبث على الشبكة العنكبوتية كل شاشة حاسوب. كما نافست التقارير المسموعة في الإذاعات، والمرئية في الفضائيات هذا الشكل الموجز المكثف آخذة منه سلاسته مقربة إياه من مادة الحقيقة والحدث اليوميين. لكن اللافت هو أن الرواية، شقيقة القصة القصيرة، تشهد ازدهاراً مدهشاً في لغات العالم كلها؛ بل إن هناك عودة إلى كتابة روايات كلاسيكية تتعدد أجزاؤها فتحكي عن أجيال متعاقبة في عدد من الصفحات قد يصل الألف. فهل اختطفت الرواية شكل القصة القصيرة وجعلته جزءاً أساسياً من بنائها، وهل حلت الأشكال الحديثة من المعرفة والترفيه والمتعة محل كتابة موجزة تتأمل العالم الداخلي للإنسان؟ ليس لدي جواب حاسم عن مثل هذه الأسئلة الملتاعة التي يطرحها كتّاب القصة ومحبوها، خصوصاً أن هذا النوع من الكتابة يشهد انحساراً على مستوى العالم كله لا في العالم العربي وحده. ومن ثم، فإن الأمر يحتاج إلى بحث وتأويل على مستوى اللغات والثقافات المختلفة في مشرق الأرض ومغربها، شمالها وجنوبها. لكن ما يمكن قوله هو أن القصة القصيرة لم تصل نهايتها كشكل محوري في الثقافة العربية، وعلى الصعيد العالمي كذلك. ومن هنا يبدو الحديث عن نهاية القصة القصيرة، وضرورة تأبينها، أو على الأقل تجاوزها نحو أشكال أخرى من الكتابة تسد مسدها وتقوم بدورها ووظيفتها الثقافية، نوعاً من الرجم بالغيب والركض وراء حديث النهايات الذي أثبت رعونته وتسرعه في حقول الفكر والثقافة خلال السنوات الأخيرة. لكن جوهر الفكرة التي تشدد على تراجع دور القصة القصيرة كشكل مهيمن في الحياة الثقافية العربية، وعلى تخلخل مكانتها واندحار وظيفتها، يظل صحيحاً في مجمله. كما أن عالم الكتابة مفتوح تموت فيه أشكال وتولد أشكال وتعود إلى الحياة أشكال طواها التاريخ. والقصة القصيرة من ضمن هذه الأشكال الإبداعية التي ابتدعها الإنسان، وحمّلها دوراً ووظيفة، ويمكن أن تتقدم أو تتراجع، يزداد الاهتمام بها أو ينقص، تأخذ مكان الصدارة في الكتابة والنشر أو يهملها كتابها وتحجم دور النشر عن طباعتها. هذا هو وضع الشعر والرواية والسيرة الذاتية، والكتابة النقدية، وما بينها أشكال هجينة ومستدعاة من الماضي، أو مستقبلية أملتها شروط التاريخ والممارسة الاجتماعية، والتقنيات والاختراعات المختلفة من سينما وتلفزيون، وهواتف نقالة، وأجهزة حاسوب، وشبكة عنكبوتية، إلخ... ما حمله إلينا التطور التكنولوجي المتسارع في هذا الكون المنطلق بحيث نلهث إذا حاولنا اللحاق به. من هنا يبدو الجدال، الحيوي الذي يدور حول القصة القصيرة، لافتاً، وباعثاً على الأمل في أن جمهرة من كتاب القصة، وقرائها، يؤلمهم أن يقال إن هذا الشكل من أشكال الكتابة آيل الى التراجع وربما الاختفاء أو الانقراض، لأنهم صرفوا أعمارهم في كتابته، وسيصرفون ما تبقى منها في تطوير هذا الشكل والإضافة إلى رصيده، ورفده بالجديد بعد أنطون تشيخوف وغوغول وموباسان، وخورخي لويس بورخيس، ويوسف إدريس وزكريا تامر وغسان كنفاني ومحمد خضير عربياً وعدد آخر من الأسماء التي لمعت في سماء القصة القصيرة.