عا.. عا.. أطلقت الغربان أصواتها.. ضربت الهواء بأجنحتها السوداء.. تركت قمم الأشجار وهبطت إلى جانب الطريق السريع.. عادت تطلق حناجرها: عا.. عا.. الغربان الستة تقف صفاً.. ترقب نهر الطريق وكأنها تنتظر حافلة! ويصيح غراب متعجل نفس الصيحة التى تجمع بين صوت الجاموس وأنين السواقي.. ويحجل من حطَّ فى المؤخرة ليوازي صف الزملاء.. والجسد الحيواني الصغير متهتك متناثر فى وسط الطريق.. لا يظهر إن كان لقط أو كان لكلب.. تساوى الأمر.. هو الآن ميتٌ ينتظر إرادة الأحياء.. يتزايد عدد الغربان.. تحتشد على حافة الأسفلت.. تتركز نظراتها على الأشلاء الدامية.. يخلو الطريق من السيارات.. يحجل الحشد نحو القتيل.. ينتش أجزاءه.. تنقطع أصوات الغربان الآكلة.. ترصدها الغربان المحلقة.. تحط قريبا منها وتحجل حتى تصل إليها.. تقترب السيارات فتطير.. تنتظر على التراب تترقب.. ثم تحجل.. تنتش وتزدرد.. تتواجه المناقير للتحذير.. يتراجع البعض فى تسليم.. يلتقطون ما يتناثر من مناقير السادة وينتظرون! بطون السادة لاتمتلئ.. والضعفاء لا يحلمون إلا بسَدِّ الرمق.. يطير الجميع لتندفع السيارة.. يحط الجميع.. عرف كل غراب موضعه.. يعود من كان فى الخلف إلى مكانه.. يتقدم معشر الصدارة.. تفسح لهم غربان الجوع فى خضوع.. تنفلت قطعة لحم من أحد المناقير الطاغية.. يتصارع حشد المؤخرة عليها.. الأجنحة تضرب.. الحناجر تنوح : عا.. عا.. ينتبه فريق الأقوياء.. يتقدم الأسود الطاغي.. يتراجع الجبناء.. تستقر قطعة اللحم فى جوفه.. يستدير ليكمل وجبته.. يتضاعف غربان المؤخرة مرات.. ويزداد غربان المقدمة آحادا.. يتمرس الجميع فى الطيران عند قدوم السيارات والهبوط لنفس موقعه عند انقطاعها.. الصفوف الأولى لا تشبع.. والفريسة تكاد تلتهم بالكامل.. والغراب الشيخ لم يأكل منذ يومين.. لم يعد جناحاه يسعفانه بالطيران والبحث.. وعيناه صارتا عاجزتين عن رصد الفرائس.. والفريسة التى أمامه تكاد تنتهي.. وهو لا يريد أكثر من نسيرة صغيرة تسكت صراخ أحشائه.. لكن موقعه فى الحلقة الخارجية.. بل هو بمفرده فى الخارج.. فيما مضى كان يقف وحده أمام الفرائس.. وفي كل عام يتراجع خطوة.. حتى صار هذا مكانه! لما طارت الغربان جميعاً.. تقدم هو.. حجل بطيئاً.. وقبل أن يصل إلى موضع الفريسة الملتهمة كانت أشلاؤه قد تناثرت.. وعادت الغربان إلى نفس صفوفها لتتعامل مع الوجبة الجديدة!.