يقال: إن الفاصل بين العبقرية والجنون، «منظوراً إليه اجتماعياً لا فلسفياً أو تاريخياً، مع الاعتذار لميشيل فوكو»، عبارة عن خيط أحدّ من السيف، وأدق من الشعرة، وأشد ذبذبة من الشوكة الرنانة.. وإذا أردنا مثالاً أكثر حسية، قلنا: إن الفرق بين العبقرية والجنون كمثل الفرق بين النحلة والدبور، كلاهما من أسرة واحدة وأصل واحد، إلا أن النحلة «تبدع» ما فيه شفاء للناس من شهد وعسل، والدبور «يبدع» ما فيه أذى للناس من لسعات، رغم أنه، أي الدبور، أجمل شكلاً من النحلة، وأبهج للعين، بشرط أن يكون بعيداً. والعبقرية إبداع وإثراء لايجود الزمان بمثلهما دائماً، أما الجنون فهو «انخلاع» من الحياة والمجتمع لا يبخل الزمان بمثله في كثير من الأحيان، خاصة إذا تضافرت العوامل الذاتية، والاجتماعية المناسبة، وهي كثيراً ما تتضافر في مثل عالم اليوم. وعموماً، فإنه يمكن القول: إن الفرق بين الحق والباطل، الرذيلة والفضيلة، الجميل والقبيح، السيء والحسن، كثيراً ما يكون فرقاً في الكم وليس في النوع، وذلك كما الفرق بين حجر ملقى على قارعة الطريق وجبل أشم يعتلي ظهر العالم.. وقد قال بمثل ذلك الحكماء من قبلنا، ولعل أشهرهم هو (أرسطو طاليس) الذي قال مقولته الشهيرة: «الفضيلة وسط بين رذيلتين». فالكرم - مثلاً - فضيلة، ولكنه يتحول إلى شح أو إسراف إذا زاد عن اللازم، أو قلّ عن ذلك.. فالكرم والشح والإسراف كلها أخلاقيات من نفس النوع، أي مرتبطة بذات السلوك المنصب على شيء بعينه، ولكن المقدار أو الكم في هذا السلوك هو الذي يجعله كرماً أو إسرافاً أو شحاً، والفرق بين هذه الأنماط الثلاثة والمتضاربة من السلوك قد لايتجاوز ذلك الخيط المتحدث عنه آنفاً.. ونفس الشيء يمكن أن تقوله عن أشياء أخرى كثيرة سواء كانت سلوكاً أم أموراً مادية مجسدة.. فالوجه الحسن أو الجسد البديع أو المنظر الجميل، لا يختلف عن القبيح إلا في تناسق الأجزاء مع بعضها البعض وفق «مقادير» معينة تبعث الراحة في النفس، والابتهاج في العين، وهذا هو ما نسميه الجمال، وكل ذلك مأخوذ في إطار اجتماعي وتاريخي معين بطبيعة الحال. فأنف كيلوباترة أو عينا نفرتيتي أو جسد فينوس أو فم صوفيا لورين، كل ذلك ليس جميلاً بحد ذاته ولكن في علاقته مع بقية أجزاء الوجه والجسد في مجتمع معين ولحظة زمنية معينة.. ولماذا نبتعد كثيراً في أمثلتنا، في حين أنه من الممكن تلمس هذه المسألة من خلال أمور ملموسة وممارسة يومياً وبشكل تلقائي.. فالأكل والشرب مثلاً من ضرورات الحياة، ولكن إذا أكثرت منهما أو أقللت كان الضرر هو النتيجة، وتحولت النعمة إلى نقمة، بمثل السهولة التي إذا غيرنا فيها حرف العين في «نعمة» إلى قاف، فأصبح المعنى مختلفاً بل ومتناقضاً.. بل إن الدواء يتحول إلى داء إذا تغيرت كميته رغم أن المادة واحدة. وإذا طبقنا المنطق السابق على كثير من السلوكيات والمفاهيم السائدة في حياتنا، دون تفكير في حقيقتها، نجد أنه يؤدي إلى الكشف عن علل كثيرة نمارسها على أنها فضائل ومزايا مفروغ من أمرها.. من هذه الأمور ظاهرة «الإسلام الحزبي» أو الأيديولوجي، والذي يسميه بعض الباحثين خطأً «الإسلام السياسي»، ويسميه المتحمسون له باسم «الصحوة».. ولو أنك دققت في مفهوم «الصحوة» هذا لوجدت أنه نفي لكل تاريخنا، واختزال عجيب لكل لحظات الزمن، ماعدا اللحظة التي يسميها أصحابها بالصحوة.. فما معنى الصحوة؟ الصحو والصحوة يعنيان، فيما يعنيان، وفق قواميس اللغة، صفاء السماء، والإفاقة من النوم أو السكر، وهي بنفس معنى اليقظة.. وعند القائلين بها، فإن الصحوة تعني العودة إلى الإسلام وإعادة اكتشافه، فما معنى مثل هذا الكلام؟ معناه أن من كانوا قبل لحظة الصحوة هذه هم من التاركين للإسلام جملة وتفصيلاً على أسوأ الفروض، وإلا كيف يعودون إلى شيء يؤمنون به أصلاً، أو من الذين شاب إسلامهم شيء من المبطلات وبالتالي جعل إسلامهم ناقصاً وإيمانهم منقوصاً، والجواب على هذه المسألة لايتعدى نعم أو لا.. فإذا كان الجواب بالإيجاب، فمعنى ذلك أن آباءنا وأجدادنا لم يكونوا من المسلمين أصلاً، أو أن إسلامهم كان ناقصاً منقوصاً حتى جاءت لحظة الصحوة المعاصرة، رغم أنهم كانوا يشهدون بالوحدانية ورسالة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون، وقد ورد في حديث طلحة بن عبيد الله، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولايفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة»، فقال هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا.. إلا أن تطوع»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان»، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لا.. إلا أن تطوع»، قال، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال «لا.. إلا أن تطوع»، قال فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، وباب الزكاة من الإسلام. فهل كان من قبلنا لايفعلون ذلك؟ هذا هو السؤال وحوله تدور الأسئلة الجوهرية.. وإذا كان الجواب بالسلب، أي أنهم كانوا م المسلمين وفق الفهم البسيط الفطري الذي هو روح الإسلام وجوهره، فلا محل للقول هنا بالصحوة ونحوها، إذا لم نكن من الغافلين أصلاً حتى نصحو، أو من الثملين حتى نفيق، أو من النائمين حتى نستيقظ، إلا إذا كان المرام والمقصود هو غايات سياسية أو أهداف وغايات خفية لايعرفها كل مسلم، أو كان المقصود إنشاء كهنوت إسلامي، والعياذ بالله، أو كنيسة رسمية لدين لايعترف بالكهنوت أو الكنيسة بل يرفضهما.. وفي كلا الحالتين فإن التناقض هنا يكون مع الإسلام ذاته الذي جاء به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من عند ربه، والذي هو بسيط وفطري يفقهه في جوهره وشعائره الرئيسة كل أحد، ويرفض أية واسطة بين العبد وربه، إذ إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، يعلم كل شيء عن خلقه، لايحتاج إلى واسطة من هؤلاء الخلق للاتصال به.. هذا هو الفهم البسيط والفطري الذي أدركه السلف من قبلنا من الصحابة والتابعين، الذين كانوا يضربون في الأسواق ويعمرون الأرض، وكان الفقه والشريعة علماً يطلبونه وليس مهنة يقعدون لها، مما جعلهم يحجمون عن الفتيا، رغم علمهم، لإدراكهم خطورتها ووعيهم أن ما يحتاجه الإنسان العادي من العلم في أمور دينه لايتجاوز اليسير الذي لايستعصي على كل أحد. ثم حدثت أحداث، وتعقدت أمور السياسة والمجتمع، فظهرت الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والجماعات الفئوية في الإسلام، كل منها يعبر عن فهمه وغاياته وتطلعاته في ظل التعددية الإثنية والطبقية، ومن ثم السياسية التي أخذت تزخر بها دار الإسلام، وحاولت هذه الأحزاب والتيارات والجماعات أن «تشرعن» وجودها الاجتماعي والفكري عن طريق تقديم تفسير مختلف لمفاهيم نصوصية معروفة «خاصة القرآن الكريم والسنة المطهرة واجتهاد الصحابة الثابت».. ومثل هذا التطور شيء طبيعي كتعبير عن انتقال ذات المجتمع من البساطة إلى التعقيد، ومن الحاجات المباشرة إلى مرحلة التجريد، ولكن غير الطبيعي، أو لنقل مكمن الخطأ وبداية الاهتزاز الحضاري، هو في ادعاء كل واحد من هذه الأحزاب أو التيارات أو الجماعات أنه هو صاحب الفهم «الأوحد» والمطلق لدين الإسلام، وأن من عداه ليس من الحق في شيء، وبالتالي هو خارج الملة، مثله في ذلك مثل أهل الكتاب وغيرهم، بل أشد من ذلك وأسوأ، وذلك مثل الخوارج الذين كانوا يذبحون أهل الشهادة والقبلة، ويجيرون من لايشهد وفق فهم حرفي ضيق لنص من نصوص القرآن الكريم، وذلك لأهداف سياسية واجتماعية قد لايعونها هم ذاتهم، ولكن النظرة الفاحصة تثبت ذلك عندما ينظر إلى المسألة في إطارها الاجتماعي والتاريخي.. وأصحاب «الصحوة» اليوم من الأحزاب والحركات الإسلاموية لايخرجون عن هذا الإطار، حين يزعمون أنهم الفريق الذي يمتلك مفاتيح الصحوة الحقة والفهم «الصحيح» للإسلام، مع أننا لو دققنا النظر لوجدنا أنه ليس هناك صحوة واحدة فقط، بل عدد من «الصحوات» بقدر عدد هذه الأحزاب والحركات، وهي ليست بالكم القليل.. وبعيداً عن السياسة والتحليل الاجتماعي والتاريخي، فإن الصحوة المطروحة، الجابّة لما قبلها وكأنها إسلام جديد يجبّ ما قبله من جاهلية، نقول: إن هذه الصحوة لاتلبث أن تنهار فكرياً إذا نظر إلى الجانب الفكري الخالص منها، بعيداً عن متغيرات الزمان والمكان.. فالكثير من أصحاب التيارات المتنطعة، الذين يزعمون أنهم أصحاب الصحوة، لايفرقون في أحكامهم وأفكارهم وسلوكياتهم بين ما هو واجب أو مفروض أو مندوب، وبين ما هو محرم أو مكروه أو حتى مباح، لدرجة أن بعضهم يحرم ما هو مباح، رغم أن المحلِّل والمحرِّم هو الله وحده.. وقد عرف ابن الحاجب الحكم «بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخير أو الوضع»، والمراد من خطاب الشارع، كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة، هو الوصف الذي يعطيه الشارع لما يتعلق بأفعال المكلفين، كأن يقال: إنه حرام أو مكروه، أو مطلوب، أو مباح، أو صحيح، أو باطل، أو هو شرط أو سبب أو مانع...إلخ، «محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص 21».. ويقسم الأصوليون. «أصوليو الفقه لا أصوليو السياسة الحزبية». الحكم الشرعي إلى حكم تكليفي وحكم وضعي، وينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام، وفق ما قال به الجمهور: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. وينقسم الواجب إلى مطلق عن الزمان، ومقيد بالزمان، وذلك من حيث التوقيت والإطلاق، وإلى واجب معين وواجب مخيّر، من حيث تعيّن المطلوب، وإلى واجب محدود وغير محدود، من حيث التقدير، وإلى واجب عيني وكفائي من حيث تعيين من يؤديه. والواجب عموماً هو ما طلب على وجه اللزوم بحيث يأثم صاحبه.. أما المندوب فهو: «ما طلب الشارع فعله طلباً غير لازم، أو هو ما يثاب فاعله ولايعاقب تاركه، أو هو ما يمدح فاعله ولايذم في الشرع تاركه»، «محمد أبو زهرة، ص 31». ما نريد قوله هنا هو، إن الكثير ممن يقولون بالصحوة لايفرّقون بين هذه الأمور في فكرهم وسلوكهم وحكمهم على الغير، فيجعلون المندوب في مقام الواجب، ويحولون المكروه إلى حرام، ويضيقون مساحة المباح رغم أنه هو الأصل، فهل هذه صحوة أم تنطح من النمط الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور.