يقتضي تحليل اللغة الشعرية وكشف أسس تشكيلها ، الدخول إلى باطن ذهنية النص بوصف اللغة الشعرية عالما منفصلا عن العالم الخارجي على مستوى الإجراء المنهجي لا المعرفي ، لان الانفصال على المستوى الإجرائي المعرفي يأخذ النص بعيداً إلى دائرة ضيقة غايتها اللغة ، وهدفها اللغة أيضا . وقد غدا ديدن الناقد المعاصر ضرورة التوغل في العمق ، حتى فرض العالم البرجوازي على النقاد أن يحصروا اهتماماتهم في النص وحسب لا خارجه ، بدافع تبني قيم الحداثة وما بعدها ، ولهذه التوجهات أسس تقتضي صناعة النقد والقرار ، بمعنى الاشتغال بذاتيات النص لأجل النص وحسب ، وهذا برنامج ضخم يهدف إلى هيمنة سلطة البنية على الإنسان ، ويهدف كذلك إلى جعل الإبداع منحصراً في حركة البنى ، وتمثل القيم الإيديولوجية ، وعزل نشاط الإبداع عن الذات المنتجة. ولهذا خضعت بنى اللغة الشعرية لبرامج توجيهية تعبوية ، منها ما كان تجريدياً ، ومنها ما كان نخبوياً ، ومنها ما كان فردياً ، ومنها ما كان تمرديا على قواعد اللغة وأنظمتها ، ويمكننا التنبيه أنّ البراءة التي تلف قدسية بناء اللغة ، قد تلاشت مع البحث العلمي الجاد والرصين ، الذي يسند لنفسه ممارسة ( الوعي اللامرئي ) ، وترك شعارات (الوعي المرئي ) المتمثلة بصيغ ( تكتيكية ) تخدم التوجهات الأيديولوجية الفردية ، وما إفرازات المناهج ما بعد البنيوية إلاّ مثالا على ذلك . إنّ العلاقة التي تربط بين السلطة الفلسفية مع تشكيل اللغة الشعرية ، هي ما يمكن أن نطلق عليه ( قوة العلاقة ) ، ونعني بذلك قوة الارتباط الجينالوجي ، إذ تصبح النقاط المجهولة في ميدان الفلسفة معلومة في تشكيل البنية الشعرية ، والنقاط الألسنية الغائبة في داخل اللغة الشعرية تتحول بتدخل الوعي إلى نقاط معلومة ، وبهذا تصبح ( قوة العلاقة ) نوعاً من الأسر المتبادل . إنّ المطلق الفلسفي بعلاقته مع اللغة الشعرية التي وصفت بأنها نوع من الأسر المتبادل ، لا تعني الإيمان بالحقيقة الفلسفية المطلقة!! في الغالب لأنّ الإيمان يعني هنا الإيمان بالغيب ب( الميتافيزيقا ) ، وهذا مدعاة للتأمل ، لأنّ تشكل البنية الشعرية الحديثة قد انفصلت عن الميتافيزيقا منذ اغترابها في الموروث الميتافيزيقي ، وأعلنت منذ ذلك حقيقة معقلنة مفادها : انفصام العلاقة بين الخالق والمخلوق!! ، بين الناص والنص ، بين المبدع والنتاج ، وهذا كما نعلم أساس قيام المناهج النقدية الحديثة ، ابتداء بالبنيوية ، مرورا بمناهج التحليل اللغوي : ( السلوكية ، والوظيفية ، والتوليدية والتحويلية ) ، وانتهاء بما بعد البنيوية. ومن الجدير بالذكر أنّ علاقة النص بالميتافيزيقا هي علاقة عمودية ، وعلاقته بالفيزيقا هي علاقة أفقية ، وبينهما تناسب عكسي ، فمتى ما اضطربت العلاقة الأولى انتظمت الثانية ، والعكس صحيح أيضاً . وبسبب الضياع الذي عانته بنى اللغة الشعرية بانفصامها عن خالقها ، استطاعت السلطة الفلسفية الولوج إلى ميدانها لتقديم مجموعات متعددة من ( الفسيفساء ) لتشكيل اللغة الجديدة القائمة على روح العصر . ومن الملاحظ أننا لا نعني بما سبق الخروج على القواعد اللغوية ، فهذا يقتضي التجديد والتحول ، إنما هو التشكيل وإعادة التموضع ، وصياغة عمليات انسيابية لفهم المعطيات الجديدة ، ولنا أن نتساءل : لِمَ كلّ هذا التركيز على بنية اللغة الشعرية؟ . إنّ التحديد يكتسب التباين بين مدرسة وأخرى ، لكن الإطار العام للإجابة يتحدد بدور هذه البنية التفاعلي في نسيج شبكة النص المتداخل ، فبين هذه البنية وبنية المضمون ( العاطفة والفكر ) ، وبنية الإيقاع ( الإطار والتكوين ) علائق دقيقة متداخلة ، كما أنها تمثل مركزاً مكثفاً يتقاطع فيه كلّ مكونات النص الشعري وخصائصه الأسلوبية فيها ، وبوجودها يكون مضمون النص ( شعرياً ) ويكون إيقاعه ( شعرياً ) كذلك ينظر : مدخل إلى بنية اللغة الشعرية ، علوي الهاشمي . ولبنية اللغة الشعرية إشكالياتها الذاتية بوصفها روح النص وهي إشكاليات ثنائية تتمثل في تجاذب طرفي ( التخييل والتركيب ) وتقاطعهما في مركز توتري ، فالتمثيل هو مجال بنية اللغة الشعرية الداخلي ، وبه تنكشف حركة الذات الشاعرة الخاصة على مستوى الصورة الشعرية واستخدام الرمز ، أما التركيب فيمثل بنية اللغة الشعرية الخارجي ، وقانون الضرورة الذي ينكشف بوساطة التخييل. وقد استطاعت بنية اللغة الشعرية من تخطي عتبة اللغة أحياناً ، من خلال الخروج عن مهيمنات سلطة القواعد اللغوية ، وأخذت منحى ( انتهاك المحارم ) في التحرر من تقديس الأسلاف ، فسلكت مسلكا تجريديا أخذ بزمام اللغة إلى اتجاه أشد صرامة من مجرد إعلان الثورة على اللغة حسب . ويمكن القول أنّ هذا المسلك أخذ حظه في النجاح عن طريق قانون العدول ( الانحراف ، الانزياح ) الذي يعد المحرك لتحولات النص من سكون البنية إلى فضاء الأسلوب ، ومن حيز اللغة التقريرية إلى حيز كلّ من : ( التعبير ، فالتصوير ، فالترميز ) ، وهي تحولات تدريجية متطورة ، ينكشف بواسطتها قانون الهدم والبناء ذو الطبيعة الحية في النص الشعري الواحد وفي التجربة الشعرية العامة مصدر سابق . وتتسم عملية محاكمة اللغة الشعرية بالضرورة الدلالية ، لأنها تمثل قانون الحياة ، وتقع على عاتقها جهة تحولات العصر ومسؤولياتها ، فضلا عن دورها في الخروج من صنمية تقديس اللغة ، فلا وجود لسلطة المقدس في اللغة على صعيد القواعد أعني في أنظمتها لا مضمونها ، لأنّ اللغة من صفاتها التشكل والتحول ، وهما صنوان لفعل المقدس ، وقد استغل فعل التسلط إضفاء فعل التقديس على مؤسسات اللغة ، ليتسنى له تمرير الانتماءات المتداعية بصفة شعورية أو غير شعورية ، وبهذا أُدخِلت طبيعة هذه اللغة ضمن ثنائية الحركة والسكون ، وهي " ثنائية من شأنها أن تتجسد في النص الشعري بشطره إلى بنيتين : بنية داخلية عميقة تتصف بالحركة والاضطراب ، وبنية خارجية سطحية تتصف بالسكون والثبات ، وليست المعاناة الشعرية في جوهرها سوى إقامة معادلة حقيقة ، وتحالف ناضج بين طرفي الإشكالية الثنائية " مصدر سابق . والحاصل فيما ذكر : أنّ تحليل اللغة الشعرية ومحاكمتها ، يقتضي البحث في أبستيمات معينة لواقع تشكل المفاهيم في بنية النص ، وعدم الافتتان بواقع ثبوتية الأنظمة اللغوية ، بمعنى عدم التسليم المطلق بمعجمية الدلالة ، وسكونية نحو اللغة ، ولغة النحو .