لن نغادر المكان ، إلا و رؤوسنا مرفوعة. هذا الصوت أعرفه ، لا يمكن أن أنساه ، قويّ رنان .توقفت ودخلت مكتباً كبيراً مكتظاً بالموظفين . وقف أمامهم رجل ضخم الجثة وبيده ورقة يلوح بها إلى أعلى كلما صاح ، وكانوا يصفقون له في حرارة .. : - سوف نحارب إلى آخر موظف ..ودوى التصفيق بحرارة .. وقفت أراقبه ، لم يتغير. كما هو ، رجل قوي قيادي فصيح ، بارع في الإقناع حتى لو كان على خطأ ، يقنعك بطريقة عجيبة دون أن تشعر بأنه ليس على صواب ، هو المتحدث الأول والأخير . هاهو الآن يقف أمامي ، لم يتغير ، سوى بضع شعرات بيضاء ، قال : - العين بالعين و... ابتسمت ، رآني ، عيناه حادتان ، خرجت ، كنت أعرف بأنه يراقبني ، سألت نفسي : لم الرجل أحيانا لا يتغير ، في عقله وشكله ؟ التقيت به أول مرة قبل خمس عشرة سنة في مركز ثقافي ، كعادته يحب التجمعات ، حوله بعض الزملاء، شدني صوته وثقافته . يتكلم عن الأدب والشعر ، لم أعرف في ذلك الوقت أنه شاعر ، وقفت أمامه أستمع إليه ، تكلم كثيرا ، وسيجارته لا تغادر يده أو فمه . لكل سؤال عنده جوابه ، يستمتع في الكلام وكنا نحن نستمتع به ، اكتشفت أنه مغرور ، مغرور بكبريائه وثقافته ، ألقى علينا قصيدة طويلة قال إنها للقيروان لم أعد أذكر كلماتها لكنها تركت شيئا ًجميلا في نفسي ، لم أعرف كم مضى من الوقت ونحن حوله . لكل بداية نهاية ..وفجأة سكت ، تفرق الجميع من حوله ، وذهبت ، لكن صوتا هامسا لحقني ، قائلا: يا أنتِ.. يا آنسة ! التفت إليه ، كان واقفا أمامي بجسده الكبير. قلت : - كيف عرفت أني آنسة ؟! قال : أناملك الرقيقة لا تزينها الذهب . إذن ماذا تريد ؟ جذبني مظهرك ..وجهك الحزين و.. برودة عينيك. ابتسمت بسخرية ، وقلت : - لا يخدعنك وجهي الحزين أو برودة عيني . وذهبت ، كعادته كان يحب أن يكون أول المتحدثين وآخرهم، سمعته يقول : - تلك القصيدة كانت لك. أخبرتني صديقتي أن الرجل كان يأتي يوميا إلى المركز على غير عادته، وفي آخر مرة سأل عني . التقيت به مرة أخرى في المركز، كان وحده جالسا يبعثر أصابعه في أوراق كتاب ، شاهدني ، تعمد أن يتجاهلني . عيناه تتلصصان وكأنهما تفتشان جسدي. التففت أنا من حوله ، رفع رأسه قليلاً ، يبحث عني ، أدار رأسه إلى الخلف. رآني واقفة أمامه ، ارتبك قليلا ، لكنه كان ذكياَ. استطاع إخفاء ارتباكه. قال لا مباليا: - لم أنت واقفة خلفي؟. قلت : - كنت أبحث عنك. عني ؟! نعم. لقد أخبروني انك تبحث عني منذ أكثر من شهر. كان هذا الحوار القصير هو بداية تعارفنا ، تكلم كثيراً عن نفسه. أخبرني أنه متزوج وغير سعيد بزواجه،أكثر أوقاته يقضيها خارج البيت في المراكز الثقافية أو المقاهي هرباً من زوجته ومشاكلها التي لا تنتهي ، وأخبرني ذات مرة أنه معجب بي ، وأن هدوئي يثيره، يتفنن في الكلام معي ومغازلتي ، كنت أنصت إليه في اهتمام , وأحيانا أخرى بشك .رجل يجيد الكلام وامرأة تجيد الإنصات هذا حالنا في أغلب الأحيان ، لكني كنت أعرف متى يكذب الرجل ومتى يقول الحقيقة. يستمتع في الحديث معي وهذا ما لاحظته رغم أنه حاول إخفاء ذلك كثيرا ، كرر مرة أخرى قصيدة القيروان ، قال لي كأنه القيروان قد خصني بقصيدته. مشكلة بعض الرجال أنهم يعتقدون بالكلمات وحدها قادرون على نصب مصيدة للنساء باسم الحب، كتب لي رسالة وقصيدة ، قال : قصيدة لم أكتب مثلها..ولا أظن أني قادر على أن أكتب مثلها .كان ينتظر مني جواباً ، لكن الجواب لم يأت ، ولا أظنه سوف يحصل على الجواب ، لأني كنت قد رحلت. هاهو بعد خمس عشرة سنة لم يتغير، مازال يحب التجمعات والقيادة . لحقني إلى الممر، صائحاً: - يا سيدة.. انتظرته ، تقدم نحوي، وراح يحدق في وجهي وقال : لم تتغيري ! قلت : بلى , لقد أصبحت سيدة . كان وجهه مرهقاً تعباً. قلت : مازلت تحب القيادة ، وتجيد الإقناع. آه .. لقد تقاعد المدير السابق ، وقد سمعنا أنهم سوف يحضرون لنا مديرة ، امرأة تحكمنا. قلت : لا باس ، مارأيك لو نتكلم في مكتب المديرة. لماذا ؟! ستعرف . ومشيت ، لم أسمع خطواته خلفي ، كنت سعيدة لأني كنت المتكلمة الأخيرة.