تتباين علاقة منشئ القطعة الأدبية بناقدها عبر مستويات عدة تتباين فيها المواقف لتشمل تنويعات متعددة ، فبداية الأديب أصلا هو أول ناقد لعمله الأدبي فيعيد قراءته ويمارس عملية التجريب والبناء والتركيب ( وذلك بعد الدفقة الإبداعية الأولية والتي تمثل لحظة الإضاءة)، وهذه الممارسة الدائبة تكسب الكاتب الحرفية الأدبية وتسير بالعمل الأدبي في طريق الإجادة دائما ، بل إن هناك بعض الأدباء من يعدون أشكالا متنوعة لذات النص لمناسبة ومكان النشر ، أو يعيدون قراءة وتعديل أعمالهم بناء على الظروف النفسية والواقعية المستجدة له ، بل بعضهم يستمرون في عملية التنقيح حتى بعد نشر أعمالهم ، سواء لطبعات جديدة أو حتى في حالة عدم إعادة الطباعة ، مما يؤيد مفهوم (الأديب القارئ ) ، يذكر ( فرانك أكونور) في كتابه ذائع الصيت والجميل ( الصوت المنفرد) عن وجوب قيام الأديب بإعادة القراءة والكتابة فيقول : “ ينبغي ألا ينسى الكاتب إطلاقاً أنه قارئ أيضا ، إن كان قارئا مجحفا . وإذا لم يستطع أن يقرأ إنتاجه الخاص عشرات المرات فلا يتوقع أن ينظر فيه القارئ مرتين. كذلك فإن ما يسئمه بعد القراءة السادسة يحتمل تماما أن يسئمه القارئ بعد القراءة الأولى ، وما يسره بعد القراءة الثانية عشر قد يسر القارئ عند القراءة الثانية ، لقد أعدت كتابة قصصي أكثر من عشر مرات ، وأعدت كتابة قليل منها خمسين مرة . وهذا للأسف عملية لا تستمر إلى الأبد ، لأن الكلمات أشياء محدودة “( 1 ). ولكن على الضفة الأخرى هناك من الأدباء من لا يستطيعون ذلك ، بل ينفصلون تماما وينفصل العمل الأدبي عنهم تماما ، وقد لا يقرأونه مرة أخرى ويرون أن أثرهم الأدبي اكتمل كائناً سوياً بعد ولادته بإبداعه فأصبحت له شخصيته ودلالاته والتي يصعب مسخها أو التحوير فيها أو إضفاء وهج الإحساس بها ، وأن التعديل كفيل بإفقاد العمل وهجه والقضاء على تميزه. ويذكر الروائي الأستاذ جمال زكي مقار ( انه أصيب بالدهشة عندما أعاد قراءة روايته ( جواد ) بعد فترة ليست بالقليلة ) ، فانفصاله عن عمله جعله قارئا له على مستوى التلقي من جديد ، فكانت الدهشة . وتبرير بعض الأدباء لهذا الانفصال أن العمل لا ينشأ بعيداً عن التقاليد الأدبية السائدة في عصره أي لا ينفصل عن ظروفه البيئية المتعددة المحيطة به ، لذا فما هو معنى إعادة الكتابة مرة أخرى في ظروف مغايرة ؟! ، ( فكان الكاتب الراحل توفيق الحكيم (رحمه الله ) يتحدث عن إمكانية كتابة أعماله الشهيرة كروايته “ عودة الروح “ مرة أخرى ، عندما سئل هذا السؤال أوضح أن العمل الأدبي مرتبطاً أصلاً بظروفه المنشئة له ) ، وهذا جميعه يعطينا دلالة واضحة أن إعادة تنقيح العمل الأدبي أو إعادة كتابته يعتمد على مدى معايشة الكاتب لأعماله ومدى العلاقة الحميمة الناشئة بينهما بحيث يعده جزءاً منه ، أما الموقف الآخر من اكتفائه فهو أن تعبر تلك الأعمال عن نفسه وأفكاره وينطلق إلى أخرى . وأعتقد أن التباين في مواقف الأدباء حيال أعمالهم الأدبية ينبع أصلاً من تكنيك إنشائهم لها إلى حد كبير، فالأديب الذي ينشئ عمله من خلال تأسيس دفقته الابداعية مرة واحدة ودون تخطيط مسبق ، أو على مراحل تشبه هذه الشاكلة ، ثم يقوم بالإعداد الأخير (وغالباً ما يكون يسيراً ) ينفصل غالبا عن عمله ، أما الأديب الذي يقتني تكنيك التخطيط المسبق ، وتشكيل مادته الابداعية بدأب مستمر وعلى مراحل متواصلة ، فأعتقد انه غالباً ما يكون من أنصار تعديل العمل الأدبي وتنقيحه وإعادة كتابته وتفاعله الإيجابي مع النقاد العدول. هذا عن علاقة الأديب ( كناقد وقارئ أول ) بعمله الفني ، أما عن علاقته بالنقاد الآخرين ، ونشير هنا إلى أهمية تقبل النقد الهادف من قبل مؤسس العمل الأدبي ، وفي نفس الوقت موضوعية الناقد واكتشافه الحسنات قبل الهنات في الأثر الأدبي ، وتفاعل الأديب وإنصاف الناقد يمكن تلخيصه بكلمة “ الخبرة الأدبية “ والتي تقتني ( جراءة الحذف ) ( 2 ) والإضافة ، وفضيلة الرجوع عن الخطأ في التفسير والتقييم ، بحيث يقوم الكاتب باستيعاب النقد والتفاعل معه ، ثم إذا كان من الصنف الذي يعايش عمله دائماً فيقوم بالتعديل حسب قناعته بداية أو يبقي النص على وضعه ، فالفن حمال أوجه ، والقضية في النهاية وجهات نظر وليست قضية ملزمة نهائياً خاصة وأن بعض النقد لا ينطلق ويتحدث من داخل النص بل من خارجه حسب نظريات نقدية ( وأغلبها للأسف غربي ) جاهزة ( كلاعب التنس يحضر كراته ويخرجها من جيبه ليتعامل بها مع النص حسب تعبير الناقد الكبير د . مصطفى ضبع) (3). ( 1 ) ص 227 / الصوت المنفرد / ترجمة د . محمود الربيعي / الهيئة المصرية العامة للكتاب . ( 2 ) تعبير “ جراءة الحذف “ استخدمته القاصة نعمات البحيري في التعليق على قصة قصيرة ألقيت أمامها اهتمت القصة بالقيمة الجمالية وتكثيف اللغة على حساب الحدث القصصي . ( 3 ) تعبير استخدمه الناقد د . مصطفى ضبع في أمسية أدبية بخصوص رؤية نقدية أعدها لمناقشة مجموعة قصصية .