تتجلى في أغنية «مش مصدق» للراحل الكبير لطفي جعفر أمان مدى اهتمامه، وعنايته الفائقة بنصه البياني، والجمالي، فنجده يوزع نصه الغنائي هذا بين اللهجة العدنية وبين السهل الممتنع من اللغة الفصحى، مما صار جزءاً من المتداول اليومي الذي يتكلمه عامة الناس، بحيث لا يحتاجون عندما تورد في نص إبداعي إلى قاموس للاستدلال على معانيها، يبدأ الشاعر نصه بالعبارة التالية الاستهلالية، الاستغرابية، المثيرة للدهشة، سواء للمخاطب المعني به النص، أو للمتلقي «مش مصدق بأنك أنت، أنت جنبي» فهذه العبارة الاستغرابية التي تعبر عن الفرحة التي فاقت الدهشة أعطت للنص طاقة الحركة والرفعة، ليدخل ويدخلنا معه إلى بقية نصه الشعري البديع. فكيف تعامل الملحن مع هذا النص الذي تألف فيه الشاعر لطفي أمان، وأكمل سحر بياته، وجمال معانيه، وتقنياته الفنية الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم؟ تتجسد وتبرز بوضوح في أغنية «مش مصدق» العبقرية اللحنية للموسيقار الراحل الفنان الكبير أحمد قاسم في إحدى تجلياته المدهشة، المتكئة على اشتغالاته الواعية،وبناءاته المعمارية اللحنية، النغمية الموسيقية الفارهة، المترفة، بثرائه وخيالاته الخصبة، وصوره وتعبيراته الموسيقية العميقة، الدالة على جزالة وقدادة موهبته الخارقة المتفردة والمستندة على المنهاج العلمي الأكاديمي، والمتمردة على كل الأشكال الغنائية الموسيقية النمطية السائدة. يبدأ أحمد قاسم اللحن بالمقدمة الموسيقية «السائبة الأدليب» أي بدون الإبقاع على مقام «الكرد على درجة الدوكاه» ومن ثم يأتي إلينا بعزف منفرد على «آلة العود» بديع، مبهر متقن على مقام «البيات» فيسلم بتقاسيمه على نفس المقام. وبعد ذلك المقدمة الموسيقية المصاحبة للإيقاع «4/4» «مصمودي» على مقام «الكرد على درجة الدوكاه»، تم لحن المذهب الذي يقول فيخ: «مش مصدق إنك أنت جنبي أنت يا للي كنت خيال ضحيت له عمري وحبي أنت ياللي كنت تأخذ من بل وأحجمل من حقيقة»، ولحنت هذه الأبيات أيضاً على «مقام الكرد على الدوكاه» ويقف في مقطع «أحلى من أفراح عيدي أعلى من دنيا وجودي أنت معنى من جمال الكون من نوره وسموه أنت جنة أنت دنيا أنت وحدك حاجة ثانية» لينتقل برشاقة «الموسيقى المحترف» إلى مقام «البيات» وهنا «يطوف ويحلق» على مقام البيات على درجة الدوكاه، ليصل إلى ذروة المقام في أبعاده ومساحاته النغمية الموسيقية، وفي أدائه، وصوته القوي، الجميل فيصل إلى نغمتي «الفا والصول جواب مع مقام البيات» إلى مقطع: «أنت وحدك حاجة ثانية حاجة ثانية»، وبالتحديد عندما يرتكز في غنائة المعبر على نغمة «سي،بي،مول» ليعود ويستقر مرة أخرى على مقام «الكرد» الأساسي الذي أبتدأ به المذهب وفي الكوبليهة، يُقدم مقطوعة موسيقية مستقلة عن سابقاتها على إيقاع «4؟4مصمودي»، نفذتها الغرقة «الأوكسترالية» المصرية بغاية الروعة والجمال ليجعلنا نشعر عند سماعنا إليها وكأننا أمام نهر جار من النغمات المتدفقة المعبرة عن الشجن، والحنين، واللوعة، والإشتياق، على مقام آخر جديد يسمى «الهزام على درجة مي» ويستمر هكذا تدفق وسريان النغمات الموسيقية «القاسمية» إلى أن يتوقف الإيقاع المصاحب للفرقة الموسيقية، فيبدأ الموسيقار أحمد قاسم بالغناء السائب الذي لا يصاحبه إيقاع، «ليسلطن» في أدائه الساحر الأخاذ على مقام «الهزام» في هذه الأبيات: «كنت أدور لك وأشتق لك وأحلم بك كثير كنت أهب لك كل لية دنيا من حبي الكبير». ليفاجئنا بمقطع جديد فيه كثير من الخروج عن التكرار والإعادة فيشدو بهذه الأبيات «جنة بالأنوار والأزهار والسحر المثير وأنت ما تدري بقلبي كيف لا عندك يطير» لينتقل في هذه الأبيات إلى عالم متجدد ومقام جديد يُعرف «بالحجاز على درجة الصول»، وهنا يتوقف المستمع منصتاً مبهوراً، بقدرة فناننا الكبير الراحل الفائقة على التصوير، والتعبير مع التجدد والتلاعب بمهارة واقتدار بالمقامات الموسيقية بطواعية وإذا ما وقفنا عند كلمة «يطير» نجد أنفسنا لا نستمع فقط، بل ننظر أيضاً إلى تلك العظمة التي صور بها تلك الكلمة من تعبير موسيقي نغمي: «وأنت ما تدري بقلبي كيف لا عندك يطير» وكأن قلبه ينتفضُ من بين ضلوعه وجوانحه، معلناً تمرده وعصيانه للسير والركض والطيران خلف وراء من يحبه من شدة لهفته وهيامه وعشقه، وهذه الطاقة اللحنية الموسيقية أعطت للنص المقروء «رفعة بصرية عالية الديالكتيك»، لها من طاقة الحركة «الدينامية» ما يجعلها بمصاف نص بصري «سينمائي»، فنحن لا نقرأ النص الشعري هنا بتأمل فحسب، بل نرى ذلك القلب في حال تمردخ وعصياته وطيرانه كأنه لم يعد يحتمل أن يظل محبوساً في صدر العاشق ولا يجد معنى لوجوده وحريته إلا إذا أصبح إلى جانب من يحب ويهوى ويعشق. وما أروع الأحاسيس، والمشاعر المنبعثة من قلب «فنان» عاشق متيم، ومحب، حين يتواصل غناؤها مع أبيات شاعرنا العظيم لطفي جعفر أمان: «كيف أضمك وأعشق النار التي بين الضلوع؟ كيف أنثر لك أحاسيسي وأشواقي دموع؟» هنا يستخدم الفنان أحمد قاسم «الإيقاع الشرحي العدني الثقيل 6/8» لكن نظراً لصعوبة تنفيذ هذا الإيقاع مع الفرق الموسيقية العربية، فإن الفرقة المصرية الأوكسترالية نفذت العمل وقدمته على إيقاع «الفالص» عربياً كما استمعنا إليه في التسجيلات المصرية وفي هذه الأبيات لشاعرنا الفذ لطفي أمان من نفس الأغنية والتي تقول: «كيف أتعذب بحبك كيف لو تدري أحبك؟ كنت أقول يا ريت تدري بي وتعلم أيش فيبي» تبتدى من جديد عبقرية الموسيقار أحمد قاسم الذي ينتقل في كل كوبليه إلى مقام جديد «البيات على درجة الصول» بغناء يسلطن «سائب» وهنا أيضاً، لنا وقفة عند «اللازمات الموسيقية» التي تأتي بعد الغناء في هذه الأبيات: «كنت أتمنى أقول لك في وجودك «يا حبيبي» فاللازمة الموسيقية الفاصلة بين كلمة «يا حبيبي» «يا شدى عمري وطبيبي» «ويا منى روحي وقلبي» فيها اشتغال موسيقي حديث مبتكر غير مسبوق وجديد في الغناء اليمني عامة، وهو ما يسمى علمياً وأكاديمياً بمصطلح «الكرشيندو والدوميندو»، بمعنى أوضح من الصعود والارتفاع إلى النزول والانخفاض ليعود بعدها إلى المقام الأصلي «الكرد على الدوكاه» بارتكاز على نغمة «لانيترل طبيعي» ليكمل ما تبقى في المقطع الأخير من رائعة لطفي قاسم «مش مصدق». كلمة لا بد منها: كان ولا يزال الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم في غنائياته ومقطوعاته الموسيقية ومشواره الفني الإبداعي «علامة هامة متميزة» في مسار تاريخي الغناء اليمني والعربي الحديث والمعاصر، لكننا نشعر أن الواقع الثقافي اليمني لم يستطع أن يدرك ويستوعب كما ينبغي تجربته الغنائية الموسيقية المتطورة التي لم تزل «بكرا» تحتاج لمزيد من الدراسات المناهجية العلمية، «ظلم» بن قاسم حياً وميتاً فقد مرت ذكرى ميلاده ورحيله على مدى سنوات ولم يحدث ما يستحق الإشارة والذكر ما زال معاش أسرته زهيداً رغم «صرخاتنا» في كل عام، فما يصرف من الدولة لموسيقار الأجيال بعد وفاته عبارة عن راتب ضئيل لا يساوي ما يتقاضاه «عامل نظافة».. يا للعجب؟!