الفنان الكبير أيوب طارش، رائد الأغنية التعزية التجديدية، وصانعها الأول، لا يذكر اسمه إلاّ في باقي أسماء فنانينا الكبار، أحمد قاسم، المرشدي، محمد سعد، الزيدي، البلفقيه، اسكندر ثابت، فضل محمد اللحجي، محمد سعد صنعاني، وغيرهم ولكل واحد منهم بصمة فنية تميزه عن زميله، إلا أنها تلتقي جميعاً في سجل الأغنية اليمنية التجديدية، استوعبوا التراث، واحترموه واحترموا فنانين كباراً سبقوهم إلى توثيقه، وكان دورهم مواكبة عصرهم وتقديم أغنية جديدة نابضة بأصالة التراث، ومشعة بروح الأصالة. أيوب طارش، واحد من هؤلاء.. رحل عن دنيانا الفانية عدد غير قليل منهم، وأطال الله أعمار من بقي منهم، ومتعهم بالصحة والعافية.. ومؤكد أن السنوات التي قضاها أيوب طارش في عدن في بداية مشواره الفني كان لها تأثير في نزوعه إلى التجديد، لكنه صاحب موهبة كبيرة، فلم يقلد أحداً من مجايليه آنذاك، ولم يقدم التراث بقوالبه القديمة، فتجنب الإساءة للتراث، كما يفعل اليوم أنصاف المواهب وعديمو الموهبة، مدعين أنهم حماة التراث، ورواد بعثه من الموات، لكن أيوب طارش أراد من البداية أن يقدم شيئاً جديداً ومختلفاً، فكانت أغانيه الأولى التي قدمته للجمهور مؤشراً واضحاًَ على نزعته التجديدية ثم انطلق بألحانه العذبة مؤسساً مدرسته الفنية الكبيرة والمستقلة مدرسة الأغنية التعزية الحديثة. أيوب طارش إنسان جميل ومحترم، كما هو فنان جميل ومحترم في تصريحه المنشور في «فنون» في العدد «18541» بتاريخ 51/01/9002م بوساطة الزميل حسن نائف، بعنوان «الدولة ماقصرت في تحمل تكاليف علاجي» وفيه أكد أيوب أنه يستعد للسفر إلى المانيا لإستكمال علاجه على نفقة الدولة.. ومشيراً إلى أن الدولة لم تقصر وقد اضطلعت بواجبها فيما يخص سفره للعلاج على نفقتها.. منوهاً إلى أن ما نشرته بعض الصحف عن تقصير الدولة تجاهه، سببه المحبة الزائدة له من قبل بعض الصحفيين، أما عن انشاء صندوق للتبرع لصالح علاجه من قبل المحبين لفنه، فقد يخفف من أعباء الدولة، كما يرى أيوب وهو محق في دعوته لإنشاء صناديق وجمعيات لدعم ورعاية الفنانين وعلاجهم وتحسين ظروفهم المعيشية. وفي رأيي أن إنشاء هذه الصناديق والجمعيات واجب على الدولة نفسها، ولا ينبغي أن تنتظر الدولة أن يبادر الآخرون لإنشائها للتخفيف من أعبائها، ولا تنتظر إذا أنشأتها هي شكراً من أي أحد أو من أي جهة. أيوب طارش فنان أثرى وجداننا بالقيم النبيلة والعظيمة، وارتقى بذائقتنا الفنية، ولو منحته الدولة الملايين من الريالات فلن تفي بحقه، بدلاً من أن تنتظر من يبادر لإنشاء صناديق تبرعية للتخفيف من أعبائها.. أية أعباء هذه مقارنة بصرفيات بعض الوزارات فيما لايعود نفعه على أحد، وسنوياً تصرف المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون الملايين لتسجيل وتوثيق أغان في الفضائيتين «اليمنية ويمانية» لمن يتوهمون أنهم شعراء وملحنون ومطربون، تبث مرة أو مرتين، ثم تحفظ في المكتبة. قد لايبدو مقنعاً أن تؤخر الدولة تسفير أيوب طارش لاستكمال علاجه بسبب الإجراءات ولكن من المعهود أن الدولة تتأخر دائماً عن رعاية وعلاج فنانينا، وتحديداً فنانونا الكبار وكثير من فنانينا ممن رحلوا عن دنيانا عانوا في سنوات حياتهم الأخيرة، ظروفاً معيشية صعبة للغاية ومنهم من مات في بيته أو في المستشفى، قبل أن تأتيه رعاية ودعم الجهات المسؤولة، والبعض منهم تعيش أسرهم إلى اليوم في فقر وعوز، في حين الوفاء لأسرهم وفاء لهم وواجب على الدولة، لأنها تضيع حقوقهم المادية كل يوم بعدم التزامها بقانون حماية الملكية الفكرية وحقوق الأداء العلني، ولو أنها تفعل ذلك، لما اضطر أيوب طارش إلى اللجوء للدولة لتتحمل نفقات علاجه، ولكان هو وزملاؤه من الفنانين والفنانون الكبار تحديداً وأسر الراحلين منهم، في غنى عن أي دعم أو رعاية من قبل الدولة أو من قبل الجمهور، لأن أغانيهم تذاع يومياً في الفضائيات التلفزيونية والإذاعية اليمنية وغير اليمنية بل أن الجهات المسؤولة لا تراقب مايجري في سوق الكاسيت المحلية، حيث تقوم محلات بيع شرط الكاسيت ببيع أغاني معظم فنانينا الكبار بلا حسيب أو رقيب، وبدون التزام بدفع الحقوق المادية لأصحابها أو لأسرهم، ومن الواضح أن الجهات المسؤولة في عدد غير قليل من المحافظات مستفيدة من الإبقاء على هذا الوضع، في ظل غياب إشراف ورقابة الجهات المسؤولة في الإطار الأعلى. في مقالة في مجلة روز اليوسف العدد «1463» بتاريخ 32/3/8991م بعنوان الأرقام تؤكد أننا نستمع إلى الغناء بأثر رجعي قال كاتبها الناقد المصري المعروف طارق الشناوي إن الجمهور في العام 7991م لايزال يستمع لأغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وقد توصل لهذه الحقيقة بعد التوصل لأرقام توزيعات الأشرطة حصل عليها من جمعية المؤلفين والملحنين التي تقوم بتحصيل حقوق الأداء العلني التي تعني أن المؤلف والملحن يحصل على «4%» من حق بيع الشريط الغنائي، هذا إلى جانب أن الإذاعة والتلفزيون في أغلب دول العالم التي تطبق قانون الملكية الفكرية تمنح مقابلاً لتقديم الأغنيات على موجاتها أو قنواتها التلفزيونية. إن هذا يعني أن توثيق الأغنية في الإذاعة أو التلفزيون لايعني امتلاكها من قبلهما، كما يحدث في اليمن، بل هما ملزمان بدفع مقابل مادي للمطرب والملحن والشاعر في كل مرة يعاد فيها بث الأغنية، وماهو أنكئ أن معظم فنانينا لا يمتلكون من توثيق أغانيهم في الإذاعة والتلفزيون بسبب آلية الإجراءات المعقدة وضرورة السفر إلى صنعاء للحصول على الميزانية من المؤسسة فيضطر الكثير منهم لتقديم أغانيهم في برامج السهرات وطبعاً بمقابل أقل من المقابل في حال توثيقها، والسهرة تعني أن الأغنية تبث في السهرة فقط، ثم يفاجأ الجميع أن الأغنية قد تم توثيقها ويعاد بثها عشرات المرات وهذه مغالطة، إذا تجنبت كلمة احتيال، ولكنه في الأخير إهدار لحقوق الفنان. عزيزي الفنان الكبير أيوب طارش إن ما قدمته لك الجهات المسؤولة لتتمكن من العلاج في الخارج ليس منحة أو تفضلاً منها، لأنه حقك، حقك من الناحيتين الأدبية والمادية، بل أن ما قدمته لك من دعم ورعاية أقل بكثير من حقوقك عليها، وهو ما أتمنى أن تقدمه لكل فنان وبالذات فنانونا الكبار، الأحياء منهم والأموات، وهي في الحالتين جديرة بالشكر والامتنان.