لاشيء بمقدوره أن يصالحك مع العالم الذي يحيط بك، في مدن تكتظ بالناس، وتعج بمساحات الغربة والتوحش، غير لوحة مرسومة بعناء مذهل، وصدق يتدفق رقراقاً ليصب في صحراء قلبك.. وحده هاشم علي ذلك العابد المتبتل في صومعته، يرثي أحزانه النبيلة، وينكفئ عند آخر ضربة فرشاة، كأنما كان يرسم في خياله بقايا وجه امرأة مات وجهها في عينيه وتسرب من بين أصابعه، قبل أن تكتب له الأقدار، متعة الخلود فوق لوحة في مرسم هاشم علي.. مات هاشم علي ومازال يقيني أن مثله لايموت إلا كما تموت الأشجار واقفة. فقد طبع وجهه المتجعد في الأزقة والحواري ودروب المدينة القديمة ومباني صنعاء وأسواق تعز ألوان تنسكب من شرفات السماء لتحط على لوحاته البهية والحزينة والحميمة والآخذة في الدهشة والبالغة في الروعة.. مات هاشم علي وقد عمد إلى رد اعتبار التاريخ القابع في وجداننا والساجع بالحنين إلى ماانقضى من أعمارنا وأشواقنا.. في زحمة العناء الذي أثقل كواهلنا وفي المسافة الفاصلة بين الضوء المشرق في ركن قصي من القلب حيث يقبع صديق الزمن الجميل هاشم علي حط الحزن رحاله على ماتبقى من الفرح في أعماقي لأهرع من صنعاء، وقد اطمأن البال إلى زيارته فور وصولي إلى تعز.. نصف ساعة هي تلك المسافة الضئيلة بين حياة هاشم علي وموته المذهل.. بين زيارة رتبتها مع زميل لي وبين الخبر الذي انقض كالصاعقة ليعلن أن المسافة ضاقت بين فوهة الموت وقلب الطائر الكسير.. رحمك الله ياهاشم علي.. أيها الصديق الرائع والكثير علينا.. أيها الزاهد والراحل من بيننا إلى أعماقنا.. كما لو نودي به الآن أن أنهض.. هذا نهار لوحاتك وجمالك البهي ورسماتك الخالدة الراسخة والعصية على الموت.