مدينة ثُلا – بضم الثاء – مدينةٌ عاصرت أروع أيام الحضارة اليمنية القديمة وشاهدةٌ على عظمتها وقوتها، ولعل الشواهد الحية تثبت بأنها سبيئة الأصل، حميرية المعنى، إسلامية المكان والزمان، يمنية الطعم واللون والرائحة، بلادٌ لحضاراتٍ عتيدة وجبارة – إن جاز التعبير – يستعصي على من هم اليوم أن يبنوا أو يؤسسوا لجزء من مثل هذه الحضارة وهذا التكامل البنائي الفريد والغريب في نفس الوقت، تأمين غذائي عن طريق المدافن والمخازن الصخرية، تأمينٌ مائي عن طريق الكريفات والمواجل المحفورة أيضاً في الصخر، قصورٌ ودور ونظام أمني فريد، موقع حصنه الاستراتيجي القابل على رأس جبل ثلا الشاهق جداً والمطل على منسبطٍ زراعي كبير يملأ عينيك شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً.. فهنا حقاً كانت الدولة العظيمة وهنا عاشت الملوك والتبابعة اليمنيون العظام. ثُلا.. بلدةٌ في بلاد يقول القاضي/ محمد الحجري اليماني في كتابه (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) – تحقيق: إسماعيل الأكوع (بأنها سميت بهذا الاسم نسبةً إلى ثُلا بن لُباخة بن أقيان بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر وهي من البلدان القديمة فيها حصن منيع وآثار قديمة ومساجد كثيرة...). عند الصعود إلى حصن ثلا يُثير انتباهك وأنت تصعد إلى قمته عبر سلمٍ حجري مدرج بطريقة هي أقرب إلى الدقة التي تعمل على نسق واحد يمر من البوابة الرئيسية للحصن والكائنة في أسفله ونجد على ركنها الأيمن نقش حجري بأحرف المسند.. نصعد درجةً درجة تخيل عزيزي القارئ بأن التعب لا ينال منك أبداً بالرغم من ارتفاع الصعود إلى هذا الجبل فأنت هنا بين أطناب الحضارة، تكتشف التاريخ وتقرأه بين طبقات هذا الجبل، تلاحظ بأن يوجد حفريات في عرض هذا الجبل محفورةٌ إلى الداخل ليتبادر إلى ذهنك بأنه هنا مقابر تاريخية لملوكٍ عظام، ولكن رجلٍ عجوز من أبناء هذه المدينة قال لنا بأنه كان – مدباً – أي سرداباً يربط بين المدينة والحصن يمر فيه الحراس دون أن يشاهدهم أحد، تنقل فيه المؤن وتؤمن أيضاً فيه حيث يوجد العديد من الأماكن الصخرية الخاصة بحفظ البن والحبوب والغلال. الحصن في البداية مسور بثلاثة أسوار: سورٌ يحيط بالحصن والمدينة معاً ولا زال كاملاً بنوبة وغرف حراسة، وسور ثانٍ في وسط الجبل لحماية الحصن، وسورٌ ثالث في رأس الجبل بالقرب من الحصن، ولكل سورٍ من هذه الأسوار غرف الحماية (النوب) لتدل على مدى الإتقان في عمل التحصينات والاحتياطات الأمنية اللازمة لمواجهة أي اعتداء يتعرض له الحصن والمدينة.. قد تعجب كل العجب لماذا كل هذا التحصين؟ ومن هم الذين كانوا يقومون بمثل تلك التحصينات؟ فوق بوابات المدينة توجد غرف حراسة أعلى منها، يقول مرافقنا الأخ/ فضل الزلب – نحات وفنان تشكيلي من أبناء هذه المدينة – بأن الحصن بُني على ثلاثة مراحل، أولها في عصر الحضارة السبئية وبقايا السور القديم شاهد على ذلك، وثانيها أيام الحميريين ثم أيام العصور الإسلامية والدويلات المستقلة التي عاشت في بلادنا، بوابة الحصن الرئيسية تسمى الرقيشاء وتعد المدخل الرئيسي والوحيد للحصن، ندخل من هذا الباب المنحوت نحتاً في الجبل وتعلوه كما سبق وأن قلت غرفة حراسة (نوبة دائرية الشكل) خاصة به تشرف على كامل الدرج المؤدية إليه من البوابة القابعة في أسفله، الباب هذا لديه من الاحتياطات والدفاعات الأمنية ما يحول دون دخوله فإذا أغلق هذا الباب أصبح الحصن عصياً على أي أحد من الصعود والدخول إليه، هنا دلالة أكيدة على قوة وعظمة وحكمة اليمنيين في تحصين قلاعهم وحصونهم التاريخية. حضارةٌ تتلوها حضارات دخلنا من باب الرقيشاء فإذا أمامنا دار العشبية المبنية على كتلةٍ صخرية تعلو الجبل، يقول أبناء المنطقة بأنها بنيت من أنقاض (قصر الدار البيضاء) القديم والمعروف في كتب التاريخ، توجد تحت هذه الكتلة الصخرية ماجل (كريف) ماء مصهور بمادة القضاض رسمت عليه مخربشات ونقوش قديمة، وهناك أيضاً بالقرب منها كريف ماء آخر صغير، وتوجد قبورٍ قديمة محفورة في بعض من تلك الكتلة الصخرية مصهورة بالقضاض نبشت بعضها وخربت البعض الآخر من قبل بعض العابثين، يوجد في الصخر المبني عليه دار العشبية سبع حفرات استخدمت كمدافن للحبوب وغيرها، وبالقرب منها توجد ساعة مكونة من اثنتي عشرة حفرةً صغيرة، وصلنا نحن إليها في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا،ً لم نجد فيها أي ظل بداخل تلك الحفر ولكن يقول حمود الظبري بأنها عند الساعة الواحدة بعد الظهر يظهر الظل في إحدى الحفر وفي الثانية تظهر في حفرتين، وهكذا حتى انتهاء عدد الحفر.. هنا تستعجب عزيزي القارئ بوجود ساعة محفورة في الصخر ومنذ قديم الأزمان، أليس ذلك حكمةً واختراعاً بحد ذاته، أم أن من عاصروا وعاشوا في هذا الحصن كانوا على درجةٍ عالية من العلم والرقي والتحضر ربما أكثر مما نحن عليه الآن. يوجد بالقرب من دار العشبية قصر (الدار البيضاء) التي لا زالت معالمها شاهدةً حتى الآن فقد قام المواطنون من أبناء مدينة ثلا بالحفر في موقعه حتى ظهرت سلسلة من الدرج تظهر كما يقولون بأن هناك ما يقارب الدور أو دورين مطمورة بالتراب قد تنقب في يومٍ ما ويظهر بعض من أجزاء هذا القصر. الدخول إلى دار العشبية قمنا بالدخول إلى دار العشبية من غرف الحراسة التي هي أسفل منه والمنحوتة نحتاً في الكتلة الصخرية المبني عليها، فالدخول من باب صغير إلى حجرةٍ صغيرة تتفرع منها على اليمين والشمال غرف أخرى للنوم توجد بها نوافذ حجرية في الصخر في إحداها ثلاث نوافذ وفي الأخرى ست.. أسرتها منحوتة نحتاً من أصل الجبل تعرضاً بعضها للنبش ظناً منهم بأن كنوزاً بداخلها، الغرف مطلية بمادة الجص وتوجد بداخلها عقود صخرية.. الغرف هذه تمثل أروع بل وأفضل من شقة حديثة بنيت بالإسمنت والحديد!!. تصعد متسلقاً هذا الصخر ويدهشك مدى الاهتمام ومدى العناية بها، طرق الصعود منحوتة ومحفورة في الجبل وتوجد أيضاً السواقي الخاصة بالمياه ملفوفةً ومدورة، خططت بأعظم هندسةٍ معمارية فريدة من نوعها.. ندخل إلى دار العشبية تصادفنا غرفةُ على يميننا وغرفة أخرى مقابلة لباب الدخول، توجد بها مدفن سري مغطى بحجر صغير، نصعد سلم الدار، توجد في كل لفة من لفات درجه مواشق أو متاريس للحراسة، وفي كل دورٍ من أدواره توجد غرفة واحدة وحمام فقط، أما في دوره السادس فيوجد المفرج الخاص بهذه الدار وعلى شكل زاوية.. الأحجار المبنية في الحصن أو في المدينة هي من أحجار المنقيز (العمش) الأحمر والأصفر والبنفسجي التي توجد على شكل صلل – طبقات – جاهزة لا تحتاج إلى تقسيم أو تشذيب وتوجد بين طبقات محددة من الأرض. الإشراف على كوكبان وجبل العروس عند صعودنا إلى سطح الدور السادس من دار العشبية ترى كل المناطق تحتك، ترى حصن كوكبان أدنى منك، كما أن هناك جبلاً يواجه حصن ثلا رأسه كأنه تاج، يُسمى بجبل العروس ولعل هناك أسطورة يرددها أبناء هذه المناطق المحيطة به كانت السبب وراء تسميته بهذا الاسم وهو أن أحد الملوك في عصورٍ غابرة كان يتزوج يومياً ببنتاً عذراء من بنات هذه المناطق التي تقع تحت ملكه ويقال بأنه تزوج ما يزيد من ألف إمرأة حتى قتله أحد إخوة العروس التي ستزف إليه في يومه ذاك والذي أتى متنكراً بزي عروس بدلاً عن أخته... أعود هنا إلى هذا الموقع الإستراتيجي الهام لحصن ثلا والذي ظل عامراً حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما أُخلي العسكر الذين كانوا فيه ليصبح مزاراً سياحياً، فالحصن بمختلف دوره وقصوره كالدار البيضاء والدار الحمراء ودار الرقيشاء وغيرها والتي لم يتبق منها إلا بعض الشواهد الحية على تلك الحضارة التي عاشت وعاصرت هذا الحصن.. هنا يسأل المرء نفسه عن كيفية وجود المياه النقية في رأس هذا الجبل الشاهق، عندما يُحاصر وقد حوصر لسنوات من قبل الأعداء دون أن تفشل من قوة وإرادة وعزيمة ساكنيه، فقد ابتكروا طريقة ما يسمى بالتقطير أو الماء المقطر فمن ماجل (المياح) الكبيرة الموجودة رأس الجبل والتي لديها في البداية مشنة لتنظيف الماء من الأتربة والأحجار يتسرب الماء من هذه الماجل إلى سرداب قريب منها منحوت بالصخر ومغطى لا تنزل إليه إلا لوحدك نظراً لصغر فتحة الدخول إليه، لتجد ذلك السرداب الكبير بداخله خمسة أعمدة صخرية لم تكن مفصولة عن جسم السرداب وإنما نحتت من أصل الجبل الذي بداخله السرداب نفسه، تجد الماء بداخله حلواً صالحاً للشرب وليس مالحاً.. فتخيل إلى مدى هذه الحكمة التي وصل إليها ساكنو هذا الحصن، السرداب الآن أصبح مكباً لقمامة الزائرين للحصن. التجوال بين أماكن الحصن أثناء تجوالنا في أماكن ودور وقصور هذا الحصن وجدنا نقشاً (ضريحاً) مكتوباً فيه آيات قرآنية تعرضت للتكسير.. نوب الحصن بدأت تتساقط على مدينة ثلا إذ لم ينالها حضها من الترميم.. ففي الجهة الشمالية للحصن يوجد جبل يماثله في الارتفاع كان يسمى حصن المائدة يقول أبناء المنطقة بأنه كان يماثل حصن ثلا روعةً وبناءً ومعماراً، تعرض للتدمير الكامل ولم يبق منه شيء وبالقرب منهما أيضاً يوجد حصن آخر تم تدميره بواسطة الكسارة، يطالب أبناء هذه المنطقة ويناشد كل الجهات المعنية بالتدخل لإيقاف ذلك التدمير الذي يلتهم حصناً بعد الآخر، ومعلماً يتلوه معلم، يربط بين حصن ثلا وحصن المائدة هذا مخنق صغير بين الجبلين، وتوجد منه إلى الأسفل طريق وعرة تسمى العقبة.