أعاد تعليق صندوق النقد الدولي لأنشطته ومشاورات المادة الرابعة مع اليمن، فتح النقاش حول واقع الاقتصاد اليمني، وحدود الاستقرار النقدي الذي تحقق خلال الأشهر الماضية، ومستقبل الإصلاحات الاقتصادية في ظل مشهد سياسي وأمني مضطرب، خصوصًا في المحافظات الشرقية. وفي بلد أنهكته الحرب، لا يُنظر إلى أي توقف في الدعم الفني أو برامج التمويل بوصفه مجرد إجراء تقني، بل كعامل مؤثر في قدرة الحكومة على تثبيت العملة، وضبط الإنفاق، وضمان تحصيل الموارد السيادية. مؤشرًا ضعف لا يُعد تعليق الصندوق لأنشطته مسألة فنية معزولة عن السياق العام، بل يمثل مؤشرًا على ضعف قدرة الدولة على فرض سياسات مالية ونقدية موحدة، وعلى هشاشة الثقة الدولية بالأداء الاقتصادي للحكومة.
وفي هذا السياق، يؤكد الصحفي الاقتصادي محمد الجماعي في تصريح ل"الصحوة نت" أن القرار يعني "تجميد التعاون النشط، ووقف الدعم الفني، وتعليق المشاورات الدورية، وعدم الدخول في أي برامج تمويل أو ترتيبات إصلاحية"، مضيفًا أن "الأخطر هو فقدان الاعتراف الضمني بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية".
من جانبه، يرى الصحفي الاقتصادي وفيق صالح في تصريح ل"الصحوة نت" أن تعليق مشاورات المادة الرابعة يعكس تراجعًا عمليًا في ثقة المجتمع الدولي بقدرة الحكومة على إدارة الأزمة، مشيرًا إلى أن استئناف هذه المشاورات في 2023 بعد توقف دام 11 عامًا، كان يمثل نافذة مهمة لإعادة دمج اليمن في منظومة الرقابة الدولية وفتح أبواب الدعم الإقليمي والدولي.
تهديد الوحدة الاقتصادية
لا يتوقف أثر قرار صندوق النقد الدولي عند الجوانب الإجرائية، بل يمتد ليطال جوهر الأزمة الاقتصادية في اليمن، والمتمثلة في تفكك القرار المالي وتعدد مراكز النفوذ.
وفي هذا السياق، أوضح الصحفي الاقتصادي محمد الجماعي أن قرار التعليق جاء في ظل تعدد مراكز القرار النقدي والمالي، وضعف قدرة البنك المركزي على إدارة السياسة النقدية، إلى جانب غياب البيانات الاقتصادية الدقيقة، وضعف الالتزام بالتعهدات، واستمرار بيئة النزاع. وهي عوامل مجتمعة أفرغت جهود السنوات الماضية لإعادة الاعتبار للبنك المركزي في عدن من مضمونها العملي، وأضعفت مفهوم الوحدة الاقتصادية للدولة.
وأشار الجماعي إلى أن اليمن لم يعد عالقًا فقط في مربع "إدارة الأزمة"، بل أصبح يقترب من مرحلة انهيار فعلي في وحدة القرار الاقتصادي، مؤكدًا أن المشكلة اليوم لم تعد محصورة في سعر الصرف أو شح الموارد، بل في تفكك السيادة المالية. وفي هذا الإطار، ربط الجماعي بين قرار الصندوق والتطورات الأخيرة في محافظتي حضرموت والمهرة، مشيرًا إلى أن تلك التحولات لا يمكن قراءتها كتحركات أمنية أو سياسية فقط، بل تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة القرار المالي، نظرًا لما تمثله المحافظتان من أهمية استراتيجية، سواء فيما يتعلق بالنفط أو الموانئ والمنافذ البرية، فضلًا عن العمق الجغرافي والفرص الاستثمارية.
وفي السياق ذاته، يرى الصحفي وفيق صالح أن هذه التهديدات انعكست بوضوح في الأحداث التي شهدتها المحافظات الشرقية، مؤكدًا أنها أخلّت بالشروط السياسية والمؤسسية التي بُنيت عليها مصفوفة الإصلاحات الاقتصادية، وهو ما جعل من الصعب الحفاظ على الاستقرار النقدي أو المضي قدمًا في تنفيذ تلك الإصلاحات.
فشل اقتصادي
في ظل المشهد الاقتصادي المعقد، يبرز ملف الاستقرار النقدي كأحد أكثر القضايا حساسية، وسط ضغوط متزامنة من أطراف متعددة. يشير محمد الجماعي، مستشار وزير التجارة والاقتصاد، إلى أن جماعة الحوثي فشلت نسبيًا في زعزعة استقرار العملة في مناطق الحكومة الشرعية، رغم استخدامها أقصى أدوات الحرب الاقتصادية، لكنه يلفت إلى أن ما لم تتمكن الجماعة من تحقيقه اقتصاديًا، تم تقويضه من داخل معسكر الشرعية عبر إجراءات أحادية اتخذها المجلس الانتقالي.
وفي قراءة مكمّلة، يوضح الصحفي الاقتصادي وفيق صالح أن الاستقرار النسبي للعملة اعتمد خلال الفترة الماضية على إصلاحات نقدية محددة، لكنه يحذر من أن استمرار التوترات قد ينسف هذه المكاسب ويعيد الضغوط على العملة وأسعار السلع الأساسية. وتؤكد هذه القراءات مجتمعة هشاشة الاستقرار الراهن، واحتمال انهياره في حال استمرار التصعيد السياسي وتعمق الانقسام المؤسسي.
مصفوفة الإصلاحات تعتمد الإصلاحات الاقتصادية على منظومة متكاملة من السياسات المالية والنقدية والمؤسسية، ما يجعل من تعليق أنشطة صندوق النقد عاملًا مباشرًا في إضعاف هذا المسار. وفي هذا السياق، يشير كل من الجماعي وصالح إلى أهمية مصفوفة الإصلاحات التي شملت توحيد القرار النقدي، وتعزيز دور البنك المركزي، وضبط المالية العامة، وترشيد الإنفاق، وتحسين إدارة الموارد السيادية، واستعادة الثقة بالقطاع المصرفي، وتوفير بيانات اقتصادية موثوقة تُعد شرطًا رئيسيًا لاستمرار مشاورات المادة الرابعة.
ويؤكد ان أن تعليق الصندوق يعطل الترابط بين هذه المحاور الحيوية، ويجعل المصفوفة بأكملها مهددة بالفشل ما لم يُرافقها احتواء سياسي ومؤسسي عاجل.
لا تقتصر آثار تعليق صندوق النقد الدولي على مؤسسات الدولة فحسب، بل تمتد مباشرة إلى حياة المواطنين اليومية. ففي بلد يعاني فيه معظم السكان من الفقر وارتفاع الأسعار، يؤدي تجميد الدعم الفني ووقف متابعة الإصلاحات إلى تقليص قدرة الحكومة على ضبط الأسواق، ورفع كلفة المعيشة، وزيادة مخاطر التضخم، وتآكل القوة الشرائية للمواطن.
كما يُسهم ذلك في تراجع ثقة المستثمرين، واتساع اقتصاد الفوضى وتغوّل تجار الحروب، مما يحوّل تعليق الصندوق إلى تهديد مباشر للاستقرار المعيشي الهش أصلًا.
يتفق كل من محمد الجماعي ووفيق صالح على أن قرار تعليق أنشطة صندوق النقد الدولي في اليمن لا يمكن اعتباره مجرد إجراء فني مؤقت، بل هو مؤشر خطير على تراجع الثقة بفكرة الدولة الاقتصادية نفسها. فحين يتفكك القرار المالي وتضطرب البُنى المؤسسية، لا تستطيع العملة حماية الاقتصاد، ولا تُجدي الإصلاحات، ولا يمكن إقناع المجتمع الدولي بجدية الالتزام. وفي ظل غياب المعالجة الجادة التي تبدأ بتوحيد القرار المالي والنقدي، واحتواء التوترات السياسية، ووقف الإجراءات الأحادية التي تزعزع الانضباط المؤسسي، واستئناف تصدير النفط وتوريد عائداته عبر القنوات الرسمية، يصبح هذا التعليق عاملًا مسرّعًا لتآكل الاستقرار الاقتصادي، ويعمّق هشاشة الدولة، ويفتح الباب على مصراعيه أمام هيمنة اقتصاد الحرب.