طفق «مطيع» يهبط الدرج بسرعة كبيرة،وقد أغرق جسده النحيل في معطف مترهل وبالٍ، توقف فجأة عند إحدى درج السلم، وأدخل يده إلى أحد جيوب المعطف المنتشرة بكثرة، أخرج هاتفه النقال، تأكد أن الرسالة قد وصلت إلى الرقم المطلوب،إنها الرسالة رقم عشرين،أعاد الهاتف إلى جيبه ثم عاود النزول ببطء،أفضى به الدرج إلى بوابة البناية، هناك استقبلته المياه الراكدة، حالت بين عبوره إلى الجهة الأخرى، شمر مطيع، عن ساقيه، وبحركات رشيقة توالت قفزاته فوق الأحجار، بعد أن اجتاز المياه الراكدة، أخذ يغذ السير في الشارع الرئيسي،وقد استحال لون السماء الصافية إلى رمادي،عض بأسنانه على شفته،وهمس متخوفاً: «لابد أن الأمطار ستعوق مجيئها إلى هنا، الحياة بالفعل مفاجآت وأسرار، نعم أسرار»!. التهم الصدى كلماته عند مفترق الطرق، وهناك توارى مطيع، عند منعطف فرعي، سار بضعة أمتار، ومن ثم توقف عند عمود خشبي، علقت على هامته لوحة مكتوباً عليها «المكتب الهندسي»، مد نظره إلى بوابة المكتب، فوجدها موصدة بقفل كبير، يشبه كثيراً ذلك الحاجز الذي تضعه «أسرار» بينهما، غالباً ما تشعره بالتقزم، وأنه غير جدير بمحبتها، واهتمامها. علم أنها سافرت منذ شهر،في زيارة لأقاربها، خارج المدينة،ومن حينها انقطعت أخبارها،لا تجيب على الهاتف، ولا تزاول عملها في المكتب. "أيعقل أن مكروها أصابها؟" هز مطيع رأسه، يحاول طرد تلك الأفكار الملعونة، التي تفضي به إلى الضيق والمرارة، قال في نفسه: "سأنتظرها هنا .. مازال الوقت مبكراً... لا بد أنها ستأتي اليوم، إنه ذكرى لقائنا الأول" أخرج هاتفه النقال، أسند ظهره للعراء، بدأ يتصفح رسائلها الفياضة بالحب، الموسومة بتاريخ العام قبل الماضي. كانت أكثر رقه، أجمل،أفضل، أكثر حماساً، لا، لم يتغير شيء، ابتسم بعمق، وقال: "أسرار .. كما هي جملة من الأسرار". أغمض عينيه، واستسلم للخيال، سقطت قطرات من المطر على جبينه، سمع صوت أسرار تقول له: أحبك. اقتربت منه، شبكت أصابعها بأصابع يده، ودعته إلى السير معها،والسماء تجود برذاذ، تنافرت قطرات منه على سطح مظلتها، اتخذت أقدامهما طريقاً فرعياً،سألها متعللاً بسماع صوتها من جديد: متى عدت من السفر؟ ضغطت على يده برفق وقالت: لكني لم أرحل.. إني دائماً معك. لاذا بالصمت لبرهة، أخذ الإسفلت يستحم في الوحل الجاري، ويغسل في حركة مرتدة قدميهما، كرر مطيع محاولة اغتيال الصمت المسيطر عليهما متسائلاً: هل تشعرين بالبرد؟! مرت سيارة مسرعة من أمامهما، نشرت قطرات من الوحل على معطف أسرار الجلدي، مد يده يبغى إزالتها لكنها أمسكت بيده،ثم أجابته: "لا بأس، إني أتوقد، فقط احتضن كفي أقوى، وحذار أن تكسر أظافري" أفضى بهما السير إلى المنطقة العسكرية، يبدو الطريق فسيحاً ممتداً بطول لسان امرأة ثرثارة، انبعث صوت خفيض من جوف أسرار، بدأ يعلو تدريجيا"«سامحني! لم أجد متسعاً من الوقت لأمنحك فرصة التعرف على هذا الوجه، لم أتوقع أن يكون العبث فصلاً مؤجلاً في حكايتنا معاً". لم يعلق، فهو يجيد التغاضي عن هلوساتها الجارحة؛لذا شرع يغمغم: "جف عود الناي وثقوبه اتصلت واستحالت ألحانه العذبة إلى نحيب" اصطدمت غمغماته بأسوار المعسكر الشاهقة، وعادت تحمل الصمت بينهما من جديد.. سارا وسارا حتى اجتازا بوابة المعسكر، وأطلا بظليهما على الشارع العام، كانت المدينة برمتها تترقب قدومهما،رائحة الفواكه ممتزجة بعفن بعضها، مبتلة بنسيم المطر، الضجيج على أشده، المتسوقون يتوافدون بكثرة،لا تخيفهم السماء الغائمة ولا شذراتها المتنافرة، تبادلا نظرات التعجب، سألها: لماذا عدنا إلى هنا؟ أجابته بكثير من الجد: لأننا سكان هذه المدينة .. لمن سنترك الشارع العام؟ أنت محقة، ستعمه الفوضى إن لم نكن هنا معاً. قل لي أي قطار سينطلق أولاً؟ كلها تحت أمركِ. سأستقل أول قطار يوصلني إلى قلبك، أمقت الغربة، وأتوق لوطني هنا، توقفت سبابتها بين عينيه. كانا قد وصلا حيث البناية التي أصغت لما تبقى من حديثهما، لم تكن قد كشفته للتو، لم تحدث البنايات الأخرى عنه، فلا شيء يستحق الذكر. انحنت أسرار، والتقطت من على الأرض الرطبة حصاةً صغيرة، قذفت بها إلى المياه الراكدة أمام البناية، سألته: كم عدد دوائر الماء؟ أجابها: بل قولي، كم عدد دوائر الماء، التي يحدثها الغوص في جب الحكاية؟ يتناسب طردياً مع قدرة الباحث على الغوص أطول لمعرفة لغز الحكاية. "أحبك". أسرار غاضبة: "لا أقبل التجذير، أو المضاعفة، أحب القيم الثابتة. أحجم عن الرد،أذعن لاستئثارها دوماً بالكلمة الأخيرة، اخضلت ثيابه،ازداد انكماشه، استفاق من غيبوبته، ثمة اهتزاز في جيب معطفه،تلقى هاتفه النقال رسالة نصية مفادها: "وصلتني رسائلك، كل شيء بيننا انتهى، غداً سأزف إلى مدير المكتب الهندسي،الأجواء ممطرة، عد إلى المنزل، وابحث عن شيء يدفنك"أسرار, أقفل الهاتف، قطع الشارع، وصل إلى أمام البناية اعترضت المياه الراكدة صعوده.. لكنه غرس قدميه وتوغل فيها، اجتازها وقد نال منه البلل حتى ساقيه، طفق يصعد الدرج،وقطرات متمازجة تتساقط من ثيابه، لا يشغل باله سوى هم واحدٍ،البحث عن معطف آخر يحشر أويغرق نفسه فيه.