المديح وأفضل المديح أصدقه وما كان بفضائل النفس والذات، لا بِحَسَبٍ أو نسب أو مال، وألا يُمدَحُ المرء إلا بما فيه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زهير: “ إنه لم يكن يمدح رجلاً إلا بما فيه”، ويقول قدامة: “إنه لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان، على ما عليه أهل الألباب، من الاتفاق في ذلك، إنما هي: العقل – والشجاعة – والعدل – والعفة؛ كان القصد لمدح الرجال بهذه الأربع مصيباً والمادح بغيرها مخطئاً”«1»، ويقول أيضاً: “ومن أقسام العفة: القناعة وقلة الشره، وطهارة الإزار.. اوغير ذلك مما يجري مجراه، ومن أقسام الشجاعة: الحماية والدفاع والأخذ بالثأر والنكاية في العدو والمهابة وقتل الأقران والسير في المهامة الموحشة، وما شابه ذلك، ومن أقسام العدل: السماحة ويرادف السماحة التغابن، ومن أنواعها الانظلام والتبرع بالنائل وإجابة السائل وقرى الضيف”، ويقول ابن رشيق: “وسبيل الشاعر – إذا مدح ملكاً- أن يسلك طريقة الإيضاح والإشادة بذكره للممدوح، وأن يجعل معانيه جزلة، وألفاظه نقية، غير مبتذلة أو سوقية”[2]. ويقول ابن طباطبا العلوي: “ وأما ما وجدته في أخلاقها ومدحت به سواها، وذمت من كان على ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة: منها في الخلق الجمال والبسطة، ومنها في الخلق السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم، والوفاء، والعفاف، والبر، والعقل، والأمانة، والقناعة، والغيرة، والصدق، والصبر، والورع، والشكر، والمداراة، والعفو، والعدل والإحسان، وصلة الرحم، وكتم السر، والمواناة، وأصالة الرأي، والأنفة، والدهاء وعلو الهمة، والتواضع، والبيان، والبشر، والجلد، والتجارب، والنقض والإبرام. وما يتفرع من هذه الخلال التي ذكرناها من قرى الأضياف، وإعطاء العفاة، وحمل المغارم، وقمع الأعداء، وكظم الغيظ، وفهم الأمور، ورعاية العهد، والفكرة في العواقب، والجد، والتشمير، وقمع الشهوات، والإيثار على النفس، وحفظ الودائع، والمجازاة، ووضع الأشياء مواضعها، والذب عن الحريم، واجتلاب المحبة، والتنزه عن الكذب، واطراح الحرص، وإدخار المحامد والأجر، والاحتراز من العدو، وسيادة العشيرة، واجتناب الحسد، والنكاية في الأعداء، وبلوغ الغايات، والاستكثار من الصدق، والقيام بالدية وكبت الحساد، والإسراف في الخير، واستدامة النعمة، وإصلاح كل فاسد، واعتقاد المنن، واستعباد الأحرار بها، وإيناس النافر، والإقدام على بصيرة، وحفظ الجار. وأضداد هذه الخلال: البخل، والجبن، والطيش، والجهل، والغدر، والاغترار، والفشل، والفجور، والعقوق، والخيانة، والحرص والمهانة، والكذب، والهلع، وسوء الخلق، ولؤم الظفر، والخور، والإساءة، وقطيعة الرحم، والنميمة، والخلاف، والدناءة، والغفلة، والحسد، والبغي، والكبر، والعبوس، والإضاعة، والقبح، والدمامة، والقماءة، والابتذال، والخرف، والعجز، والعي”[3]. ويقول كذلك: “ولتلك الخصال المحمودة حالات تؤكدها، وتضاعف حسنها، وتزيد في جلالة المتمسك بها، كما أن لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحط ممن وسم بشيء منها ونسب إلى استشعار مذمومها، والتمسك بفاضحها، كالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة، وفي حال الصحو أحمد منه في حال السكر، كما أن البخل من الوافر القادر أشنع منه من المضطر العاجز، والعفو في حال المقدرة أجل موقعاً منه في حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحمد منها في حال الإحراج ووقوع الضرورة، والعفة في حال اعتراض الشهوات والتمكن من الهوى أفضل منها في حال فقدان اللذات، واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منها”[4]. أما الافتخار ففرع عن المدح، وإنما هو مدح الذات والقوم. · أمثلة على المديح: وأمثلة المديح كثيرة في الشعر حيث كان مصدر تكسب لدى الخلفاء والأمراء، كما أن منه ما كان صدقاً وامتناناً وحباً، وسنذكر بعض أمثلة المديح هنا: قال كعب بن زهير بن أبي سلمى يمدح النبي صلى الله عليه وسلّم: إنَّ الرسولَ لَنورٌ يُسْتضاءُ به مُهنّدٌ من سُيوفِ الله مسلولُ وقال منصور بن الزبرقان النمري: خليفةَ الله إنّ الجودَ مَكرمةٌ أحلّكَ الله منها حيثُ تجتمِعُ من لم يكنْ بأمينِ الله مُعتصماً فليسَ بالصلواتِ الخمسِ ينْتَفِعُ إنْ أخلفَ القطرُ لم تخلفْ مخائلُه أوْ ضاقَ أمرٌ ذكرناه فيتّسعُ وقال حسان بن ثابت: أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضلِ يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم شمُّ الأنوف من الطراز الأولِ وقال سلم الخاسر: ملكٌ كأن الشمس فوق جبينهِ متهلِّلُ الإمساء والإصباحِ فإذا حللت ببابه ورواقهِ فانزل بسعدٍ، وارتحل بنجاحِ وقال مسلم بن الوليد: يذكِّرنيك الجودُ والبخلُ والنهى وقول الخنا والحلمُ والعلمُ والجهلُ فألقاك من مذمومها متنزِّهاً وألقاك في محمودها ولك الفضْلُ وقال آخر: كريم رأى الإفتار عاراً فلم يزل أخا طلب للمال حتى تمولا فلما أفاد المال عاد بفضله على كل من يرجو جداه مؤملا وقال الشماخ في عرابة: رأيت عرابةَ الأوسي يسمو إلى الخيراتِ منقطعَ القرينِ إذا ما رايةٌ رُفعتْ لمجدٍ تلقاها عرابةُ باليمينِ وقال الأعشى: فتىً لو يبارى الشمسَ ألقتْ قناعها أو القمرَ الساري لألقى المقالدا الهجاء كذلك فإن أفضل الهجاء أصدقه وما كان حقاً وما لم يحمل تعدياً أو ظلماً أو فحشاً، يقول أبو عمرو ابن العلاء: “خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها”[5]، أي لا ينكر عليها إنشاده، ويقول خلف الأحمر: “أشد الهجاء أعفه وأصدقه”[6]، إذ أنه لما يجد الناس الشاعر صادقاً غير متعد فإن هذا يكسب شعره القبول والانتشار، ويقول الجرجاني: “ فأما الهجو فأبلغه ما خرج مخرج التهزل والتهافت، وما اعترض التصريح والتعريض، وما قربت معانيه وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن”[7]، وإن كان قيل إن “أعذب الشعر أكذبه”[8]، فإننا نجد للمبالغة حلاوة في كل صنوف الشعر من مديح وهجاء ونسيب ورثاء، إلا أن الأفضل هو المبالغة في وصف الواقع وليس المبالغة في افتعال الصفات، أضف إلى ذلك رفض ابن طباطبا في كتابه «عيار الشعر» حيث ذكر أن الفضل يعود للصدق في التشبيه، والامادي في موازنته بين أبي تمام والبحتري حيث قال: “وقد كان قوم من الرواة يقولون “أجود الشعر أكذبه”، ولا والله ما أجوده إلا أصدقه”، وهما من أشهر النقاد العرب. ومما يحسن في الهجاء أيضاً أن يكون هجاء بما في ذات المهجو من سيء الصفات، أما هجاؤه بنسبه أو فقره مثلاً مما لا يد له فيه، فلا أراه هجاء وأرى أن كرم الخُلُقِ ينأى بالشاعر عن هذا. أمثلة على الهجاء: قال عمير بن جعيل التغلبي: إذا رحلوا عن دار ذلٍِّ تعاذلوا عليها وردوا وفدهم يستقيلها وقال حسان بن ثابت، يهجو الحارث بن هشام: إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجَى الحارثِ بن هشامِ ترك الأحبةَ أن يُقاتلَ دونهم ونجا برأس طمرةٍ ولجامِ وقال سالم بن دارة: لا تأَمَنَنَّ فَزَارياً خَلَوْتَ به على قَلُوِصكَ واكْتُبْها بأَسْيَارِ و رأى الحطيئة وجهه في بئر فقال: أرى لي وجهاً قبّح الّله خلقه فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله وقال زياد الأعجم في غياظ بن حصين بن المنذر: وسميتَ غيَّاظاً ولستَ بغائظٍ عدوَّاً، ولكنَّ الصديق تغيظُ عدوكَ مسرورٌ وذو الودِّ للذِي أتى منكَ من غيظٍ عليكَ كظيظُ نسيٌّ لما أوليتَ من صالحٍ مضَى وأنتَ لتعدادِ الذنوبِ حفيظُ تلينُ لأهل الغلِّ والغمرِ منهمُ وأنتَ على أهلِ الصفاءِ فظيظُ وقال مرة بن عداء الفقعسي: وإذا تسركَ من تميمٍ خصلةٌ فلما يسوءُك من تميمٍ أكثرُ وقال الآخر: ويقضَي الأمرُ حين تغِيب تيمٌ ولا يستأذنونَ وهم شهودُ وقال الحكم الخضري: ألم تَرَ أنهم رُقِموا بلؤمِ كما رقمتْ بأذرعها الحميرُ وقال أعشى باهلة: بنو تيْم قرارةُ كل لؤمٍ لكلِّ مصبِّ سائلةٍ قرارُ وقال زياد الأعجم: إني لأكرِمُ نفسِي أن أكلِّفَها هجاءَ جَرْمٍ ولما يهجهمْ أحدُ ماذا يقول لهم مَن كان هاجيَهُمْ لا يبلغُ الناسُ ما فيهم وإن جَهَدُوا وقال أوس بن مغراء: فلسْتُ بعافٍ عن شتيمةِ عامرٍ ولا حابِسي عما أقولُ وعيدُها ترى اللؤمَ ما عاشُوا جَديداً عليهمُ وأبقَى ثيابَ اللابسينَ جديدهَا لعمركَ ما تبلَى سرابيلُ عامرٍ من اللؤمِ ما دامتْ عليها جلودُها الرثاء: الرثاء هو ذكرٌ لفضائل الشخص والتحسر عليه والتفجع والتلهف والأسف والاستعظام على ذهاب تلك الفضائل، وقد يكون الرثاء نظير المديح، يقول قدامة: “ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا في اللفظ ما يدل على أنه هالك، مثل: كان، وتولى، وقضى نحبه، وما شابه ذلك. وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه، لأن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح في حياته، وقد يفعل في التأبين شيء ينفصل به لفظه عن لفظ المدح بغير كان وما يجري مجراها، وهو أن يكون الحي مثلاً يوصف بالجود، فلا يقال كان جواداً ولكن يقال ذهب الجود أو فمن للجود”[9]. أما أصعب الرثاء فرثاء الطفل والمرأة لضيق الكلام فيهما وقلة الصفات. أمثلة على الرثاء: ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء في رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها: ألا يا صخر إن أبكيت عيني لقد أضحكتني دهراً طويلاً دفعت بك الجليل وأنت حيٌ فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبح البكاء على قتيلٍ رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقالت أيضاً فيه: ألا هبلت أم الذين غدوا به إلى القبر، ما ذا يحملون إلى القبر! وماذا يواري القبر تحت ترابه من الجود! يابؤس الحوادث والدهر! وقالت: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس ولو لا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي ومن أحسن الرثاء قول الحسين بن مطير الأسدي: ألماً بمعنٍ ثم قولاً لقبره سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا فتًى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا أيا قبر معنٍ كنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده وقد كان منه البر والبحر مترعا! بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا ولما مضى معنٌ مضى الجود والندى وأصبح عرنين المكارم أجدعا وقال جرير يرثي امرأته: لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار نعم الخيل وكنت علق مضنة ولديّ منك سكينة ووقار لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ليل يكر عليهم ونهار صلى الملائكة الذين تخيروا والصالحون عليك والأبرار أفأم حزرة يا فرزدق عبتم غضب المليك عليكم الجبار - هوامش [1] - نقد الشعر [2] - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. [3] - عيار الشعر [4] - المصدر السابق. [5] - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. [6] - المصدر السابق. [7] - الوساطة بين المتنبي وخصومه. [8] - تاريخ النقد الأدبي عند العرب. [9]- نقد الشعر