كالعادة يمسح ببصره الشارع العام ويتجه صوب مقهاه المفضل, يأخذ مكانه على أحد الكراسي المتناثرة على الرصيف, يطلب كوباً من الشاي, يلصق عينيه على الأرض و يغوص في شرود عميق.. تنبسط في ذهنه أيام الدراسة بحلوها ومرها...ترتسم فرحة تخرجه من الجامعة أمام عينيه,يوغل في رصد تفاصيل ذلك اليوم... يتذكر صوت أمه وهو يندلق إلى أذنيه بسعادة: إن شاء الله نفرح بك عندما تستلم الوظيفة!! تلوح له ابتسامته الحارة.. يتناهى إلى أذنيه صوته مردفاً إياها: آه الوظيفة..المال... سأعوضك وأختي عن سنوات الحرمان التي مرت!.. وتتغير ملامحه, يكاد شعور بالاكتئاب يخنقه, يمد يده متناولاً الكوب, يرسله إلى فمه, يفاجأ بنفاد الشاي, بتوتر يعيده إلى مكانه, يثبت بصره على الكوب وينطوي على نفسه.. يد ليست بالغريبة عنه تحرك الكوب... وتنتشله من شروده, يلتفت بوجوم يميناً حيث جلس صديقه خالد, يحملق كل منهما في الآخر.. يبتدره خالد متسائلاً: هاه.. ماذا فعلت بشأن ال.....؟! يقاطعه هازاً رأسه يمنة ويسرة: لا فائدة! وأنت هل تمكنت من الحصول على الموافقة؟ يزم خالد شفتيه إلى أعلى و يردفه قائلاً: يبدو أنه قد قُدر علينا أن نعيش مشردين وعاطلين عن العمل! يخيم الصمت عليهما للحظات ثم ما يلبث خالد أن يكسر الصمت متسائلاً: ألا تعتقد بأنه قد صار لهذا المكان مكانة غالية في قلبينا؟ - أعتقد أنه لو, أقول “لو” حالفنا الحظ وتمكنا من الحصول على أي عمل فإننا لن نتمكن من الاستمرار فيه. - من جانبي أرى أنه من المستحيل علي ترك هذا المكان. - عشرة خمس سنوات, والعشرة ما تهون إلا على ابن الحرام! وتتعالى ضحكاتهما.. يلتفت خالد إلى النادل, يشير إليه بإحضار كوبين من الشاي,ويعود إلى ياسر قائلاً: بالمناسبة بالأمس التقيت بزميلنا غالب. مستغرباً يردفه ياسر: غالب... لا أذكر زميلاً لنا بهذا الاسم! بسخرية يسأله خالد: ألا تتذكر أضعف طالب في الدفعة؟!! - أنت وأنا بالطبع. - فقط؟ باستغراق أخذ ياسر يفرك شعر رأسه محاولاً التذكر وبعد لحظات تسقط كفه على الطاولة,ويرتفع صوته قائلاً: نعم...نعم... صاحب الخمسين بالمائة...مابه؟! - بسيارته الفارهة أوصلني إلى المنزل! - سيارته ال!!غالب؟! - لقد أصبح مديراً لإحدى الدوائر الحكومية, ويقاطعه متسائلاً: غالب...و الله عشنا وشفنا. يردفه خالد وقد أشاح بوجهه بعيداً: والله عشنا وشفنا بحق..ما رأيك في هذا الغزال؟ في لهفة يستدير.. ويثبت بصره على جسد فتاة كانت تعبر الشارع, يتفحصها بنظرات ثاقبة من أعلى إلى أسفل.. ويتمتم قائلاً: ألا ترى أنها تستحق أن نفارق من أجلها مكاننا المفضل؟! - بالتأكيد تستحق ذلك!! ويدوي صوت الشيخ أحمد في أذنيهما كصاعقة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! يردان عليه التحية بارتباك, ويعاودان الجلوس, بابتسامته العريضة يردفهما متسائلاً: أظنكما كنتما تتهيآن للذهاب إلى الجامع؟يطالع كل منهما في وجه الآخر, بتلعثم يردفانه: بلى..بلى!! - إذن هيا يا أحبائي! ينهضان من مكانيهما...يسيران معه باتجاه الجامع... فيما أخذ الشيخ يحدثهما عن أهمية الصلاة.. وعقوبة تاركها... وكون تاركها كافر.. كانت معرفتهما بالشيخ لم تتعد الخمسة أيام, ويمر يوم سادس.. وسابع...في اليوم العاشر لم يعد الشيخ يأتي لأخذهما إلى الجامع...كانا قد إعتادا الذهاب إليه.. وفي اليوم الخامس عشر كانت علاقتهما بالمقهى قد انقطعت تماماً.. أصبح الجامع الملاذ الوحيد بعد البيت لهما, عليه كانا يتسابقان.. ويتفاخران من يصل الأول إليه, كان حديث الشيخ يسلبهما قلبيهما, ويستحوذ على اهتمامهما, أشياء كثيرة في حياتهما أخذت تتغير, لم يعد للبنطال وجود في غرفة أي منهما.. الصور والأشرطة الغنائية أحرقاها, التلفاز هو الآخر هجراه... وحتى نظراتهما اللهفى التي كانت تطارد أجساد الفتيات تحولت إلى نظرات كراهية ومقت.. لم تعد أي فتاة قادرة على جرهما خلفها..الجنة وليس غيرها أصبحت الغاية الرئيسية لهما, وكلام الشيخ ووصاياه وليس أي شيء آخر هو الطريق الوحيد إلى الجنة... في اليوم التاسع بعد العشرين جلس كل منهما أمام الشيخ, كان المصلون قد أدوا صلاة العصر وغادروا الجامع, يتأمل الشيخ في وجهيهما للحظات.. ثم يبتدرهما قائلاً: أعتقد أنكما اليوم قد أصبحتما قادرين على نشر الدعوة. - بفضل الله أولاً وفضلك ثانياً ياسيدي! يقولها خالد والفرحة تكسو وجهه,يحدثهما الشيخ عن الواجب الملقى على عاتقهما تجاه الله والأمة, ويخبرهما عن الانحراف الذي أصاب الأمة وكون كثير منهم قد أصبحوا إلى الكفر أقرب منه للإيمان. يخبرانه بأنهما مستعدان للقيام بواجب الجهاد ورد الأمة عن غيها, يسهب في الحديث عن الجهاد وعن أهميته.. يوصيهما أن يبدآ بالأسرة, ثم بالأقارب والأصدقاء. - يتناولا أشرطة تحتوي على محاضرات الشيخ ويمضي كل منهما إلى منزله.. شعور بالخوف والضيق بدأ يجتاح صدور أفراد أسرة كل منهما, أخت ياسر ووالدته لم يعدن يتحملن صلادة لسانه وجور أوامره التي لا تنتهي...والد خالد راح يتوعده بالسجن إن لم يتخل عن عنجهيته والاعتداء علي إخوانه وأخواته... بحنق ودون أن يلقي السلام على والدته دلف ياسر إلى المنزل.. اتجه إلى غرفة أخته.. الغضب يرسم تفاصيله على وجهه.. تبتدره والدته بقلق:عما تبحث ! ويردفها بصوت عال: أين ذهبت؟! مرتبكة تسأله والدته: من هي؟! - ابنتك ومن غيرها؟! - إنها في المطبخ, ماذا تريد...؟! يهرع إلى المطبخ, ويباغتها بصفعة قوية على وجهها, يقبض بشدة على ذراعيها, يشدها إليه, ويصرخ فيها: ألم آمرك بعدم الخروج والذهاب إلى المدرسة؟! بتلعثم تناديه والدته: نعم...نعم يا بني إنها لم تذهب بل إنها لم تعد تخرج من البيت!! أصمتي كفاك تستراً عليها!!ويرتفع صوت أخته وقد أجهشت بالبكاء: نعم لقد خرجت إلى المدرسة, وسوف أواصل دراستي.. يشتاط غضبه..يشدها إليه..وينهال عليها ضرباً..تتقدم إليه والدته تحاول إيقافه, يرمي بها بعيداً, تصرخ أخته: حتى وإن ضربتني لن أنقطع عن الدراسة!وتصرين على ذلك أيتها الملعونة تمتد يده إلى جيبه, يتناول مسدسه بسرعة ويفرغ ما بداخله في فمها..