تحكي أخبار العاشقين اليوم إحدى الروايات التي ظل بطلها يسعى من أجل أن يستعيد محبوبته مرة أخرى بعد أن عاني في سبيل ذلك الكثير من الويلات، قليل هم العشاق الذي ينال منهم الحب كل هذا الاهتمام والشقاء ولكن قدر لبطل قصتنا اليوم أن يكون واحداً منهم. تبدأ القصة كما يلي: في أحد الأيام التي أشتد بها الحر وبينما كان معاوية بن أبي سفيان جالساً في احد المجالس بدمشق، فإذا به يجد رجلاً يسير نحوه يتلظى من شدة الحر ويحجل في مشيته حافياً من اثر ذلك، فنظر له معاوية مشفقاً وقال لجلسائه : هل خلق الله أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذه الساعة ؟ فقال بعضهم : لعله يقصد أمير المؤمنين، فقال : والله لئن كان قاصدي سائلاً لأعطينه، أو مستجيراً لأجيرنه، أو مظلوماً لأنصرنه .. يا غلام قف فإن طلبني هذا الأعرابي فلا تمنعه الدخول علي.. وبالفعل كان الرجل قاصداً أمير المؤمنين فلما دخل عليه، قام الرجل بالسلام على معاوية، وسأله معاوية عن المكان القادم منه وعن سبب المجيء فرد الرجل: أنا من بني عذرة، وقد أتيت إليك مشتكياً ومستجيراً من مروان بن الحكم ثم أنطلق يقول: معاوي، ياذا الفضل والحلم والعقل وذا البر والإحسان والجود والبذل أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي وأنكرت مما قد أصبت به عقلي ففرج كلاك الله عني فإنني لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي وخذ هداك الله حقي من الذي رماني بسهم كان أيسره قتلي ! وكنت أرجى عدله إن أتيته فأكثر تردادي مع الحبس والكبل سباني سعدي وانبرى لخصومتي وجار ولم يعدل وغاصبني أهلي فطلقتها من جهد ما قد أصابني فهذا، أمير المؤمنين، من العدل؟ ثم بدأ يحكي قصته لأمير المؤمنين وقد ناله من الشقاء والأسى الكثير، فقال كانت لي ابنة عم اتخذتها زوجة لي وكانت تتمتع بالجمال ورجاحة العقل، فكنت أهيم بها حباً وولعاً وكانت تعينني على أمري، وكان لي المال والإبل التي تغنيني أنا وزوجتي، ولكن لأن دوام الحال من المحال فما لبثت أن أصبت في مالي، فذهب المال والغنى وأصبحت لا أملك شيئاً سوى هذه الزوجة الجميلة الصابرة، ولكن شاءت الأقدار أن تفرق بيني وبينها فما إن علم أبيها بما حل بي من فقر حتى طردني ونهرني، وأبعدني عن زوجتي، ولكني لم أستسلم بل ذهبت إلي مروان بن الحكم أمير المدينة أشكو إليه حالي، فأستمع لي ثم أمر أن يحضر والدها فلما حضر سأله عن السبب الذي جعله يفرق بيني وبينها ولما أنكر الرجل أن يكون قد زوجني ابنته، أمر مروان أن تحضر سعدى زوجتي ويسألها بنفسه فلما حضرت ورآها الأمير أوقعت في نفسه الكثير من الاستحسان والإعجاب، وبعد أن كان مروان ملجأً ونصيراً لي أصبح خصماً، حيث أمر بسجني وتعذيبي كما هددني بالقتل وأجبرني كارهاً أن أطلقها، ووعد والدها أن يطلقها مني وان يتزوجها هو مجزلاً له العطاء فأعطاه ألف دينار وعشرة ألاف درهم وقام بسجني إلى أن تمت عدتها فتزوجها.. فلما أتم الأعرابي قصته انطلق مرة أخرى ينشد قائلاً: في القلب منى نار والنار فيها استعار ! والجسم مني سقيم واللون فيه اصفرار وفي فؤادي جمر والجمر فيه شرار والعين تبكي بشجو فدمعها مدرار والحب داء عسير فيه طبيب يحار حملت منه عظيماً فما عليه اصطبار فليس ليلي ليل ولا نهاري نهار ! وبعد أن تم شعره سقط مغشياً عليه من كثرة الحزن والألم الواقع في نفسه، فلما أتم قصته وقع الكثير من الغضب في نفس الخليفة وقال: تعدى ظلم مروان بن الحكم في حدود الدين، واجترأ على حرم المسلمين، ثم قال : والله يا أعرابي، لقد أتيتني بحديث لم أسمع بمثله قط، ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم : قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك، وأنهكت حرمة من حرم المسلمين، وتعديت حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يغض بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته، وألحق بكتابه ما يلي: ركبت أمراً عظيماً لست أعرفه أستغفر الله من جور امرئ زاني قد كنت تشبه صوفيا له كتب من الفرائض أو آيات فرقان حتى أتاني الفتى العذري منتحباً يشكو إلى بحق غير بهتان أعطى الإله عهوداً لا أخيس بها أو لا فبرئت من دين وإيمان إن أنت راجعتني فيما كتبت به لأجعلنك لحماً بين عقبان طلق سعاد، وعجلها مجهزة مع الكميت ومع نصر بن ذبيان ! فما سمعت كما بلغت من عجب ولا فعالك حقاً فعل إنسان ثم أرسل الكتاب مع كل من الكميت ونصر بن ذبيان، فلما وصلا إلى مروان وسلماه الكتاب قرأه وما إن فعل حتى قام بتطليقها في الحال وبعث بها إلى أمير المؤمنين ومعها كتاب له جاء فيه: حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت أقول ذلك في سر وإعلان وعندما وصل الكتاب إلى معاوية قال لقد أحسن في الطاعة، وأطنب في حسن الجارية، ثم عندما رأى معاوية سعدى الجارية أنبهر بجمالها وحسنها وفصاحتها، فقال للأعرابي هل لك أن تتركها وأعوضك عنها ثلاث جوار ومع كل جارية ألف دينار وأقسم لك من بيت المال في كل سنة ما يكفيك ويعينك على صحبهن.. وعندما سمع الأعرابي ذلك لم يتمالك نفسه من شهقة قوية أنتفض لها من حوله حتى ظنوا انه مات، ولما أفاق قال لمعاوية استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن استجير من جورك ! وقال: لا تجعلني والأمثال تضرب بي كالمستجير من الرمضاء بالنار اردد سعاد على حيران مكتئب يمسي ويصبح في هم وتذكار قد شفه قلق ما مثله قلق وأسعر القلب مني أي إسعار كيف السلو وقد هام الفؤاد بها وأصبح القلب عنها غير صبار ! وأصر الأعرابي على تمسكه بزوجته وحبه قائلاً : يا أمير المؤمنين لو أعطيتني ما حوته الخلافة ما أعتضته دون سعدى، فأقترح معاوية عليه أن يرجع الأمر لها ويخيرها أيهم تفضل فإن اختارت سواه زوجه بها، وإن اختارته أرجعها إليه.. فقال الأعرابي مستسلماً: افعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ودعاها معاوية وقام بتخييرها بين نفسه موضحاً عزه وشرفه وسلطانه وقصوره، وبين مروان بن الحكم بعسفه وجوره، وبين الأعرابي مع جوعه وفقره وسوء حاله... فقامت بالإنشاد قائلة: هذا وإن كان فقر وإضرار أعز عندي من قومي ومن جاري وصاحب التاج أو مروان عامله وكل ذي دره عندي ودينار ثم استطردت تقول : والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن لي معه صحبة قديمة لا تنسى ومحبة لا تبلى وأنا أحق من صبر معه على الضراء، كما تنعمت معه في السراء، فتعجب معاوية من عقلها ومروءتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، وردها بعقد جديد، فأخذها الأعرابي وانصرف.