روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : أنت طلبة أمير المؤمنين عن محمد بن نعيم البلخي أبو يونس قال حدثني مروان بن أبي حفصة وكان لي صديقاً قال: كان الخليفة العباسي الثاني المنصور قد طلب معن بن زائدة طلباً شديداً، وجعل فيه مالاً؛ فحدثني معن بن زائدة باليمن أنه اضطر لشدة الطلب إلى أن أقام في الشمس حتى لوحت وجهه، وخفف عارضيه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملاً من الجمال النقالة ليمضي إلى البادية فيقيم بها، وكان قد أبلى في حرب يزيد بن عمر بن هبيرة – آخر ولاة الدولة الأموية بالعراق سقطت عام 132ه - بلاء حسناً غاظ المنصور وجد في طلبه. قال معنٌ: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلداً سيفاً، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام جملي فأناخه وقبض عليه؛ فقلت له: ما لك؟ قال: أنت طلبة أمير المؤمنين. قلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين ! قال: معن بن زائدة. فقلت: يا هذا اتق الله ! وأين أنا من معن ! قال: دع هذا عنك فأنا والله أعرف به منك. فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول فهذا جوهرٌ حملته معي يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي. قال: هاته فأخرجته إليه؛ فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قط مالك كله؟ قلت لا. قال: فنصفه؟ قلت لا. قال: فثلثه؟ قلت لا. حتى بلغ العشر فاستحييت فقلت: أظن أني قد فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته ! أنا والله راجل، ورزقي من أبي جعفر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور عنك بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك، فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله، ولا تتوقف عن مكرمة. ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير وانصرف. فقلت: يا هذا قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني غنيٌ عنه. فضحك ثم قال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ بمعروف ثمناً أبداً، ومضى. فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته. معن بن زائدة الذي ... تطربني سيرة الكرماء وتهز مشاعري فعالهم ومن حقهم علينا أن نذكر بعض سيرهم وماقيل فيهم وبمناسبة القصة السالفة سنتحدث عن معن بن زائدة الشيباني ونسمع مارواه ولده شرحبيل بن معن بن زائدة حيث قال : كنت أسير تحت قبة يحيى بن خالد البرمكي، وقد حج مع الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد – تولى الخلافة عام 170ه وتوفي عام 193ه - ، وعديله أبو يوسف القاضي، إذ أتاه أعرابي من بني أسد كان يلقاه إذا حج فيمدحه، فأنشده شعراً أنكر يحيى منه بيتاً فقال: يا أخا بني أسد، ألم أنهك عن مثل هذا الشعر؟ ألا قلت كما قال الشاعر: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول هم القوم إن قالوا أصابوا، وأن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا فقال أبو يوسف: لمن هذا الشعر أصلحك الله فما سمعت أحسن منه؟ فقال يحيى: يقوله ابن أبي حفصة في أبي هذا الفتى، وأوما إلي، فكان قوله أسر إلى من جليل الفوائد، ثم التفت إلي وقال: يا شرحبيل، أنشدني أجود ما قاله ابن أبي حفصة في أبيك، فأنشدته: نعم المناخ لراغب ولراهب ... ممن تصيب جوائح الأزمان معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان إن عد أيام اللقاء فإنما ... يوماه يوم ندى ويوم طعان يكسو الأسرة والمنابر بهجة ... ويزينها بجهارة وبيان تمضي أسنته ويسفر وجهه ... في الحرب عند تغير الألوان نفسي فداك أبا الوليد إذا بدا ... رهج السنابك والرماح دواني فقال يحيى: أنت لا تدري جيد ما مدح به أبوك، أجود من هذا قوله: تشابه يوماه علينا فأشكلاً ... فلا نحن ندري أي يوميه أفضل أيوم نداه الغمر، أم يوم بأسه؟ ... وما منهما إلا أغر محجل وقد تولى معن بن زائدة بعض الولايات آخرها ولاية سجستان عام 151ه واغتالته الخوارج وهو واليها عام 152ه وكان من الأجواد الذين يضرب بهم المثل في الجود والكرم فرحمه الله تعالى ورحم كل كريم وأتعس كل بخيل . اضرب ابن الأكرمين مما تضمنته أخبار الأخيار ما رواه أنس رضي الله عنه قال: بينما أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاعد إذ جاءه رجل قبطي من أهل مصر فقال: يا أميرالمؤمنين هذا مقام العائذ بك، فقال عمر رضي الله عنه لقد عذت بمجير فما شأنك فقال: سابقت بفرسي ابناً لعمرو بن العاص وهو يومئذ أمير على مصر فجعل يقنعني بسوطه ويقول أنا ابن الأكرمين فبلغ ذلك عمراً أباه فخشي أن آتيك فحبسني في السجن فانفلت منه فهذا الحين أتيتك، فكتب إلى عمرو بن العاص إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وولدك فلان، وقال للمصري: أقم حتى يأتيك فأقام حتى قدم عمرو وشهد موسم الحج فلما قضى عمر الحج وهو قاعد مع الناس وعمرو بن العاص وابنه إلى جانبه قام المصري فرمى إليه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال له : اضرب ابن الأكرمين قال أنس رضي الله عنه: فلقد ضربه ونحن نشتهي أن يضربه فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول اضرب ابن الأكرمين قال يا أمير المؤمنين: قد استوفيت واشتفيت قال ضعها على ضلع عمرو، فقال يا أمير المؤمنين: لقد ضربت الذي ضربني قال: أما والله لو فعلت ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع، ثم أقبل على عمرو بن العاص وقال: يا عمرو متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ . إن هذا لأسخى مني؟ كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من الأسخياء جدا فيروى أنه خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها فأتي بقوته ثلاثة أقراص، ودخل كلب فدنا من الغلام فرمى إليه بقرص فأكله، ورمى إليه بالثاني فأكله، ثم الثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وأخاله جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله ابن جعفر: ألام على السخاء إن هذا لأسخى مني؟ فاشترى الحائط والغلام وما فيه من آلات، وأعتق الغلام ووهب ذلك كله له. أتخوفني بالروم ؟ لما أقبل خالد من العراق إلى الشام لقتال الروم قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين !! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم ؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الاشقر برأ من توجعه، وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفا واشتكى في مجيئه من العراق -. [email protected]