روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : مضى لسبيله معن كان معن بن زائدة جوادا كريما كثير الإحسان للناس ولي سجستان في أواخر أمره، وانتقل إليها، وقصده الشعراء بها، فلما كانت سنة إحدى وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين ومائة كان في داره صناع يعملون له شغلاً، فاندس بينهم قوم من الخوارج، فقتلوه بسجستان وهو يحتجم، ثم تتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة - الآتي ذكره وبعض اخباره قريبا إن شاء الله تعالى - فقتلهم بأسرهم، وكان قتله بمدينة بست. ولما قتل معن رثاه الشعراء بأحسن المراثي لكرمه الذي عم القريب والبعيد والغني والفقير فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة وهي قصيدة من أفخر الشعر وأحسنه، وهي من أحسن المراثي وأولها: مضى لسبيله معن، وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالاً هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا وعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروي بها الأسل النهالا وأظلمت العراق وأورثتها ... مصيبته المجللة اختلالا وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى فمالا وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا فإن يعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياء أكرمهم فعالا وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا ولم يك طالب للعرف ينوي ... إلى غير ابن زائدة ارتحالا مضى من كان يحمل كل ثقل ... ويسبق فيض نائله السؤالا وما عمد الوفود لمثل معن ... ولا حطوا بساحته الرحالا ولا بلغت أكف ذوي العطايا ... يميناً من يديه ولا شمالا وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا لأبيض لايعد المال حتى ... يعم به بغاة الخير مالا فليت الشامتين به فدوه ... وليت العمر مد له فطالا ولم يك كنزه ذهباً، ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا ومارنة من الخطي سمراً ... ترى فيهن ليناً واعتدالا وذخراً من محامد باقيات ... وفضل تقى به التفضيل نالا مضى لسبيله ومنها : مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا فلست بمالك عبرات عين ... أبت بدموعها إلا انهمالا وفي الأحشاء منك غليل حزنٍ ... كحر النار تشتعل اشتعالا وقائلة رأت جسمي ولوني ... معاً عن عهدها قلباً فحالا أرى مروان عاد كذي نحول ... من الهندي قد فقد الصقالا رأت رجلاً براه الحزن حتى ... أضر به وأورثه خبالا فقلت لها: الذي أنكرت مني ... لفجع مصيبة أنكى وعالا وأيام المنون لها صروف ... تقلب بالفتى حالاً فحالا أين نرحل بعد معن ؟ ومنها : كأن الليل واصل بعد معن ... ليالي قد قرن به فطالا فلهف أبي عليك إذا العطايا ... جعلن منى كواذب واعتلالا ولهف أبي عليك إذا اليتامى ... غدوا شعثاً كأن بهم سلالا ولهف أبي عليك إذا القوافي ... لممتدح بها ذهبت ضلالا ولهف أبي عليك لكل هيجا ... لها تلقي حواملها السخالا أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا نريد له زيالا وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا ما شهد الوقائع منك أمضى ... وأكرم مقدماً وأشد بالا سيذكرك الخليفة غير قال ... إذا هو في الأمور بلا الرجالا ولا ينسى وقائعك اللواتي ... على أعدائه جعلت وبالا ومعتركاً شهدت به حفاظاً ... وقد كرهت فوارسه النزالا حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح الذي قد كان قالا أقام وكان نحوك كل عام ... يطيل بواسط الرحل اعتقالا وألقى رحله أسفاً وآلى ... يميناً لا يشد له حبالا وهذه المرثية الرائعة نفعت قائلها مرة وضرته مرات وسنحكي اليوم كيف نفعته عند جعفر البرمكي – من الكرماء أيضا سناتي على ترجمته وقصص من جوده وكرمه في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى – وغدا نحكي كيف ضرته . أنشدني مرثيتك دخل الشاعر مروان بن أبي حفصة – صاحب القصيدة السابقة - على جعفر البرمكي فقال له: ويحك، أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فقال: بل أنشدك مديحي فيك، فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن، فأنشأ يقول: مضى لسبيله معن، وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا حتى فرغ من القصيدة السابقة وجعل جعفر يرسل دموعه على خديه، فلما فرغ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً ؟ قال: لا . قال جعفر: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها ؟ قال: أصلح الله الوزير، أربعمائة دينار، قال جعفر: فأنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك، قد أمرنا لك عن معن، رحمه الله تعالى، بالضعف مما ظننت، وزدناك نحن مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك، فقال مروان يذكر جعفراً وما سمح به عن معن : نفحت مكافئاً عن قبر معن ... لنا مما تجود به سجالا فعجلت العطية يا ابن يحيى ... لنادبه ولم ترد المطالا فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذل النوالا بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا كأن البرمكي بكل مال ... تجود به يداه يفيد مالا ثم قبض المال وانصرف. أبو زيد بن عبد القوي ( [email protected] )