اشتقت إليك كثيراً … من كثرة ما حلمت بك … أصبحت أكذب اللحظة التي سأراك فيها… صورك التي رأيتها كثيراً ما أخذتني إليك.. وحديث معلم المدرسة عنك جعلني أحب التعبير عندما تكون موضوعه ولكن لحظة كهذه اللحظة وقت الغروب.. صدقني لم تكن قدرتي التخيلية ستسعفني بها حتى لو نسجت بأفكار المستحيل.. ظل يردد عباراته النابعة من قلبه المحب للبحر، ويداه المثخنة لكثرة تسلقها جبال القرية تسبح فوق أمواج البحر الدافئة.. وكلما زاد من وصف مشاعره زادت الأمواج حياء وانسحاباً من تحت قدميه.. وهو يقترب.. ومن ثم يبتعد.. ربما يخاف الغرق فهو لا يعرف بعد فن السباحة كل ما يعرفه أن البحر ماء مالح … تنتهي عند حافته الحياة.. وتنام على بساطه شمس الغروب. - هل تعرف كم تمنيت زيارتك أيها البحر؟ لم يكن البحر لديه الوقت الكافي ليشاطره الحديث - لو سمحت يا عم … التفت لتقع عيناه الجاحظتان على فتاة في العاشرة من عمرها.. إنها بنفس عمر ابنته الصغيرة .. بل تشبهها ولكن ملابسها الكاشفة لجسدها الغض لم تكن كافية ليطابق بين ابنته صفية وهي ترعى الغنم فوق التلة.. وهذه الفتاه بيدها الدلو ويدها الأخرى تشير إلى جريدته… - ماذا تريدين؟! … هل تعيرني هذه الجريدة ؟ - خذيها … عاد ليحتضن الموج بوله شديد … هل ستجمع الماء بكفيك؟ نعم سآخذ بحركم هذا معي … نعم سآخذه إلى التل لتراه صفية … و… ضحك وهو يلتفت ليجد نفسه يتحدث مع نفسه وهدوء الغروب الساكن في أعماقه رغم الحركة التي يزدحم بها الساحل بالقادمين إلى الشاعرية والرومانسية المعتادة، خاف من أن تأخذه الأمواج كما سمعها في الروايات التي يتناقلونها مساءً في سمرات أهالي القرية لهذا أفكاره المتوهجة بصخب اللحظة وحلم الحقيقة جعلته يفكر في إتقانه رماية وركوب الدابة العرجاء التي ماتت تحته عندما أسعفوه مريضاً إلى المستوصف!!!. مشاعره الدافئة بدفء الأمواج رسمت بين اصفرار وغروب الشمس إشراقة لحياة إنسان، لأول مرة يرى حياة أخرى في حياته التقليدية، مد يديه أكثر.. أدخل قدميه في الرمال المبتلة … وبدأت ذرات الرمال تسلمه شيئاً فشيئاً إلى الأمواج المتدافعة لتلامس قدميه المتشققة فيخرج ذلك الوحل البني فتلتهمه بشراهة وكأنها تأكل تراب أرض أبيه الذي مات وهو عطشان لرؤية ولده الذي تغرب لأنه أحس كما زعم بأن الأرض لم تعد كافية ليأكل منها لقمة عيش هنيئة. أخوه الذي حتى اللحظة لا أحد يعرف عنه شيئاً تذكره الآن والرمال تغطي أخمص قدميه أنه كتب في خطابه الأخير أنه رأى البحر في بلاد الغربة ؟!. المياه المالحة تتطاير من ألسنة الموج المتزاحم ناحيته لتدخل فمه قطرات مالحة وهو يزداد حباً وولهاً وتذوقاً وشماً للنسيم العليل الذي ازدادت شاعرية بريقه. الأمواج تنساب فوق قدميه لتصل إلى بطنه الجائعة، نساها وهو يفكر بجمال اللحظة … الرمال سلمته للأمواج الداخلية ليتم التعارف، وأحس أن البحر يفتح له أبواب المعرفة بحرية، وصلت الموج إلى جسده الرشيق بل وصلت إلى بطنه … صدره … خرج بسرعة ..لايزال الخوف من الغرق يقف بينه وبين السباحة، بدأ الحاضرون يجمعون أشياءهم عائدين إلى منازلهم.. وهو كما هو يضرب بقدميه وجه البحر بهستيريا سعيداً عازفاً بذلك سيمفونية رائعة لا يعرف نغماتها إلا هو والقمر الذي استغرب وجوده هنا. وتساءل: ترى من سيحل به على سطوح ذلك المنزل العتيق يعد النجوم ويطلق الزفرات.. وينتف شعيرات الدقن ليغرسها في حوض الشذاب والكاذي؟!. ورغم أن الموج انصاعت له وهدأت وهو يغرس في أعماقها قدميه واقفاً، عيناه مركزة في المياه، المياه الكثيرة الواسعة متجاهلاً ذلك الوجه الأبيض الذي يتعلق بقمة جبل القرية كلما حل المساء مفرد لجماله أمام تواضع الأنجم التي عمل إحصائية تقريبية لعددها ولكنه يؤجل إعلانه.. إنه في المساء.. البحر خلفه.. أمامه.. يمينه.. يساره. أخيراً عرف أين تنام الشمس، أحس بتعب يديه وقدميه.. بل وصلت البرودة إلى صدره شبك يسراه بيمناه وجعلها وسادة لرأسه المتعب وهو يرسم كل ما يراه في الذاكرة أمامه مهمة إرسال تلك الصور لمن هم أشد ولهاً منه في البحار وعالم المياه والرمال، لكنهم لا يقدرون على مغادرة القرية. ارتمى على ظهره فوق الرمال المبللة ورأى القمر بنصف إدراك فتجاهله ليكمل صورة الماء والرمال والتآلف الغريب، أقدامه أصبحت تلتحف الموج، والمد والجزر زاد حتى غدا جسده يلتحف الموج ويودعها متلاطمة وهي تتدافع، أصبحت تشجب عن مخيلته صوت الراعية الشابة التي تمنى لو يتزوجها عندما تغني أغاني العشاق فوق جبل القرية … أحس بنعاس شديد وهو مازال يتأمل فلا يمل .. ترى أيعرف أهالي قريته أنه الآن في ضيافة الأمواج، ترى أتفكر فيه زوجته… وأولاده ليرسلوا إليه أحاسيسهم وحبهم الشديد لسعادته عندما ودعهم؟!.. كان يفكر بها فدعوا له من قلوبهم في أن يجدها … ويرى البحر. صعدت الشمس لمكانها المعتاد … ولكن القمر لايزال مكانه … لماذا؟ ماذا يشاهد؟! أشار للشمس أن تنظر ناحية الساحل .. مدت أشعتها المعهودة … زادت الأشعة لتتركز النظرة.. زادت الحرارة … أطلت أشعة الظهيرة لتتأكد مما تشاهد… وجدت بل تأكد لها هيئة مجموعة من رواد الساحل وهم يحملون جثة شاب شدّه الموج في ليلة قمراء بل لم يكن يجيد السباحة بقدر إجادته لحب البحر … الفتاة رأت الناس حول الرجل وهي تحمل في يديها الجريدة… أشارت لأخيها الكبير ويديها تغطي فمها قائلة: (ذلك الرجل الذي قال بالأمس إنه سيأخذ البحر إلى الجبل). وضعت الجريدة بجواره وجرت نحو الأمواج لتبني هي وأخوها قصراً من الرمال.